ثقافة الوباء.. ولادة من خاصرة الأزمة
over 3 years in الرأى
في شخص الكوليرا القاسي ينتقم الموت
الصمت مرير...
لا شيء سوى رجع التكبير
حتى حفّار القبر ثوى لم يبق نصير»
وهكذا فإن قصيدة نازك الملائكة تعود إلى الذاكرة، لتثير فينا الأسى والإنفعال على وقع صدمة أعقبت صدمات بالأمس القريب المليء بالثورات والحروب... وأخيرا الوباء، فها هو فيروس كورونا المستجد بحجمه الدقيق يتنقل من بلد إلى آخر موديا بحياة الآلآف، فالضحايا في كل مكان، ولا يزال المجتمع الإنساني يبحث عن سبيل للخلاص، واضعا البشرية بأسرها أمام تحدي محاصرة الوباء والقضاء عليه.
إن تاريخ الإنسانية مع الأوبئة حافل بالتجارب المتشحة بالسواد، ولطالما كان للعديد من الأوبئة تداعيات كبيرة على المجتمع البشري لم تتوقف عند قتل نسب كبيرة من سكان العالم، فطاعون جستنيانما الذي تفشى في القرن السادس قبل الميلاد قتل ما يقرب من نصف سكان العالم آنذاك، ليوقف الأنشطة التجارية و يضعف الإمبراطورية البيزنطية، مفسحا المجال أمام العديد من الدول لاستعادة أراضيها، ولم تقف آثار وباء الطاعون الذي تفشى في الفترة ما بين 1347 - 1351 على مقتل 25 مليون شخص تقريبا، بل إنه ساهم في تراجع النظام الإقطاعي القائم على استعباد الفلاحين، كما أدى موت الكثيرين إلى خلق المزيد من فرص عمل جديدة، ورفع المستوى المعيشي للناجين من براثن الوباء، وإيقاف الحروب فترة من الزمن.
واليوم لم يعد تحدي السفر حول العالم في ثمانين يوما ذو قيمة في ظل قدرة البشر على التنقل السريع، فالمسافات بين المجتمعات لم تكن يوما قصيرة كما هي اليوم، الأمر الذي جعل انتشار الكوفيد - 19 عالمي النطاق، وبالرغم من أن قراءة المشهد لن تتضح إلاّ في أعقاب الخروج من هذه الأزمة، إلاّ أنه يمكن رصد بعض القراءات الأولية لردود الفعل التي أعقبت صدمة تحوّل الفيروس إلى جائحة عالمية فتّاكة.
من المؤكد أن الفيروس يشكل تحديا للمنظومة الصحية في جميع دول العالم، فالجيش الأبيض يقف خلف متاريس الخطوط الأمامية مع العدو القاتل في حرب تعجز فيها الأسلحة الأوتوماتيكية ووسائل الإبادة الشاملة عن التصدي لهذا الوباء، فالمستشفيات باتت غرف عمليات لمواجهة جيش من الفيروسات، وكوادر الأطباء والتمريض وفنيي المختبرات هم الجنود الحقيقيون في هذه الحرب، وفي الخلف فإن الفيروس ينال من كافة جوانب الحياة النفسية و الإجتماعية والإقتصادية، فما قامت به الدول من فرض للحجر الصحي والإقامة المنزلية وحظر التجول، شكل خطوة استباقية لا مفر منها لتفويت الفرصة على الفيروس لتوسيع نطاق انتشاره، الأمر الذي لا يعني الإستسلام لهذا الإجراء، وإنما ضرورة التعامل وفق مفاتيح فاعلة لإدارة الأزمة بكافة تفاصيلها.
أصبح القلق والحذر يسكنان البشر، إذ أن الحياة اليومية ومجريات روتينها المعتاد قيد الشلل الجزئي، وهو ما يشكل خطرا لا يقل فداحة عن خطر الفيروس، فالفرد يقف عاجزا عن القيام بمتطلبات دوره الإجتماعي، لكن المجتمع أوجد الحلول التي تمكنه من الحفاظ على الحد الآمن من متطلبات الحياة بإدارة مباشرة من الدولة التي تصدرت لإدارة الأزمة.
من الواضح أنّ ملامح ثقافة جديدة بدأت بالظهور، فالتباعد الإجتماعي المكاني أصبح عنوان المرحلة، ضاربا بالعولمة عرض الحائط، فالحفاظ على مسافة أمان بين الأفراد بات أمرا ملزما، ما شكل تحديا لكافة مرافق الحياة، فكان لا بد من إيجاد وسائل آمنة تكفل سير الحياة الطبيعية للأفراد، فها هم الطلبة باشروا بمتابعة دروسهم عبر منصة الكترونية لتصبح مسؤولية التحضير والدرس استحقاقا ذاتيا، كما أصبح التسوق يتم عبر تطبيقات الهواتف الذكية، إضافة إلى أن معظم الأعمال الوظيفية أصبحت تدار بشكل مرئي عن بعد، هذا وقد أصبح مشهد الطابور المنظم ضمن مسافة تحفظ سلامة الفرد مكرسا أمام المخابز ومحال البقالة وحتى أمام البنوك ومحلات الصرافة، في رسالة مضمونها السلامة الشخصية وسلامة الآخرين، كما أن الأزمة نجحت في فرض بنى ثقافية تحدت الكثير من العادات الإجتماعية والسلوكية مثل الإكتفاء بإفشاء السلام دون المصافحة أو التقبيل، واختصار الكثير من كلف المناسبات الإجتماعية، إضافة إلى التوجه الطوعي نحو عادات غذائية أكثر صحة سواء كان ذلك بهدف تعزيز مناعة الجسم، أو بدافع الترشيد في الإستهلاك، ما سيساهم في ترسيخ أنماط استهلاكية أكثر واقعية، ولا شك ان الأزمة ساعدت في تغييب الصورة المزعجة للإزدحام المروري، لإقتصار عمليات التسوق على السير مشيا على الأقدام، الأمر الذي أوجد فرصة لمواجهة الواقع على شكل ممارسات من شأنها أن تدعم صحة الفرد وتغيّر في نمط تفاعله مع معطيات الحياة اليومية، ولا يخفى أن ظروف إدارة الأزمة أوجدت فرصة لظهور أنماط اتصال على مستوى الأسرة ومحيط السكن ستساعد في إعادة اكتشاف العلاقات الإجتماعية عن قرب بعيدا عن مشاغل العمل وضغوطات الحياة، كما أكدت الأزمة على أهمية كبار السن وقيمتهم في المجتمع، الأمر الذي تجلى في الحرص الجمعي على صحتهم من خلال الإلتزام بإرشادات الوقاية كونهم الفئة الأكثر عرضة للخطر، لقد ولّد الفيروس روح تضامن اجتماعية من رحم الأزمة، فلم تكتف الحكومة بإصدار التشريعات القانونية والإدارية فقط للحد من انتشار الفيروس، بل إنها فتحت الباب أمام المبادرات التطوعية لتجعل من الأفراد شركاء في إدارة الأزمة، في صورة أخرجت مفهوم الجسد الواحد إلى السطح، ما بيّن أن التباعد الإجتماعي وثّق العلاقات ولم يضعفها.
من المؤكد أن كورونا سيترك تبعات نفسية واجتماعية واقتصادية تتطلب ثقافة جمعية لا تقل التزاما وقوة عما هو الحال الآن، فلا بد من رفع درجة وعي المواطن بكونه رديف أساسي في المعركة وذلك من خلال مستوى وعيه وضبطه المجتمعي، فالحس بالمسؤولية المدنية سيعزز المناعة الإجتماعية والضبط الداخلي للأفراد، إضافة إلى تعميق الإلتزام بالأوامر الحكومية المقرونة بالقوانين والتشريعات عبر بناء جسر من المرونة النفسية التي تزيد من مستوى الثقة والمسؤولية المجتمعية.
لا زال الكوفيد - 19 يتلاعب بأوراق المجتمع الإنساني، مذكرا بأن غرور التفوق التكنولوجي ما زال بعيدا عن الواقع، ويبقى لعامل الوقت والجهد المبذول في حماية الحياة الكلمة الأخيرة، فلا بد من وجود إدارة عالمية لمخاطر الأمراض المعدية، بهدف بناء استراتيجية ومقاربة دولية، فالكورونا ربما تكون جرس إنذار للعالم لكي يعقّم أولوياته و يعتني أكثر ببعضه البعض بعيدا عن الجهل والجشع والظلم والعنف، » فإذا ما كان علي أن أضع يوما كتابا في الأخلاق فسيكون في مائة صفحة، تسع وتسعون منها خالية، وفي الصفحة الأخيرة سأكتب أنني أقر بنوع وحيد من الواجب الأخلاقي: أن نحب » عبارة ابتعد من خلالها الروائي البير كامو عن المفهوم الرومانسي للحب ليمتد إلى تلك العلاقة من الشغف الإيجابي تجاه الأبناء والأصدقاء والمجتمع والإنسانية.Dr.amer.awartani@gmail.com