فايز الطراونة.. سجل حافل لسياسي بارع

ما يقرب من ٣ سنوات فى الرأى

مثلما يفتح رئيس الوزراء الراحل فايز الطراونة قلبه للباحثين عن ذكرياته وبدايات النشأة والطموح، يحاور ببراعة وحكمة وعقلانيّة في قضايا سياسيّة واقتصاديّة وعلاقات فرضتها ظروف وتحتاج قولاً فصلاً فيها،.. فبين القلب والعقل كانت حياة قضاها «أبو زيد» في أكثر من رحاب؛ رحاب الهاشميين بين صاحبي الجلالة الملك الراحل الحسين بن طلال وجلالة الملك عبدالله الثاني، ورحاب والده رجل الدستور والرئيس الأسبق للديوان الملكي الهاشمي أحمد الطراونة؛ فليس غريباً أن يكون الاقتصاد حلمه الأصيل كمدخل للسياسة التي أحبّها وباركها من حوله لتصميمه وإخلاصه والثقة به فيما بعد، مفاوضاً سياسياً، وسفيراً، ورئيساً للديوان الملكي الهاشمي، ووزير خارجيّة، ورئيس وزراء لدورتين، وعضواً في مجلس الأعيان،.. وفي كلّ ذلك تنطوي سيرة مهمّة لرجل دولة كان قدره السياسيّ أن يحمل في منتصف قلبه أحزان فقد الحسين، ويملأ النصف الثاني من القلب نفسه فرحةً بجلالة الملك عبدالله الثاني بعد عام تسعة وتسعين،.. وبين العهدين حديثٌ شائقٌ يعبّده دكتور الاقتصاد فايز الطراونة في ما كتب وألّف أو ما باح به للأصدقاء والمجايلين والإعلاميين الشباب والمهتمين.

ولأنّه من الصعب أن يفصل صاحب السيرة الجادّة بين طموحه ووطنيّته ورؤيته لمنطق سياسي معقّد في أطراف تتنازع وأخرى تتفق أو هي على وشك الالتقاء؛ فقد كان الطراونة بالفعل كتاباً لأحداث لا ثقل فيها على متلقيه أو اختباءً في وصفها وراء كلمات تندرج عادةً تحت باب تزويق الكلام أو تجميله؛ فقد وجد نفسه على محكّ عقد التسعينيات بوعورة أطرافه ومستهلّ أحداثه وقلق الأردنّ فيه ومرض مليكه الحسين وخيار الوقوف بين الواجب والعقل، فضلاً عمّا ينهض به الأردن وتعلّمه الطراونة من مدرسة الحسين في أنّ ما قدّره الله صائرٌ، حتى في مجال السياسة التي لا تعرف ثباتاً أو هي تتحرّك على أرض رمليّة، أو هي في أحسن حالاتها أشبه بالرمل.

يمثّل الدكتور فايز الطراونة سجلاً حافلاً بالتوصيف والنقد والمكاشفة بما في اليد وعلى الشجرة أيضاً من فرص، ومن يستمع إليه وهو يتحدث حول الأزمة الكويتية العراقيّة، ومجلس التعاون الخليجي، ومجلس التعاون العربي أيضاً، وقضايا اللاجئين والحدود والمياه، وأسس التفاوض ومشاقّه مع إسرائيل على الجانب الأردني والجانب الفلسطيني وفي جوانب المفاوضات المتعددة،..يجد أنّ الطراونة يظلّ أشدّ إنصافاً للأردنّ في مبادئه وتعامله النقيّ وحرصه على الصراحة واحترام الطرف الفلسطيني المفاوض؛ كلّ ذلك من واقع حكايات وقصص منها ما يحزن ومنها ما هو طريف، فالتفاوض فعلاً كان مدرسةً في اليقظة والانتباه المشوب بشدّ الأعصاب وتعدد المفاجآت، والمصطلحات الناشئة في عملية السلام، وفي التنسيق، بل والوقوف عند مترادفات تحتاج حسّاً سياسياً ماهراً، وتنبني عليها نتائج صعبة، مثل قضايا اللاجئين وحقّ العودة والتعويض، وقضايا الأردنّ، في مائه وحدوده، والتزامه في الوقت نفسه مع مبادئ ومنطلقات التفاوض واحترام الأطراف.

وتُعدّ قراءة الطراونة في تقدّم المفاوضات، التي كان رئيساً فيها لوفد السلام الأردني، وتعثّرها لطرف دون الآخر، سبباً في أن نثق بالموازنة الأردنية بين الذات والجار، بل وتغليب الجار، تشي بذلك مفاوضات أوسلو، ومدريد، واللافت أيضاً أنّ قدر الطراونة أيضاً هو أن يكون سفيراً في وقت كانت علاقتنا فيه مع الأميركيين سيئةً جداً، واتصالات جلالة الملك الحسين رحمه الله مقطوعةً عام ثلاثة وتسعين مع أميركا، ليكون مجيء الرئيس بيل كلينتون انفراجة حسّنت في العلاقات، التي كانت صعبةً أيضاً مع دول عربية شقيقة، ليقول الطراونة بكلّ صدق وموضوعيّة إنّه ليس في معاهدة السلام الأردنيّة مع إسرائيل ما يضرّ بمصالح أي دولة.

الطراونة، الذي يعتزّ دائماً بأنّه من مواليد النكبة 1949، يعتبر بحق ذاكرة، خصوصاً في استقالة حكومته بما يقتضيه العهد الرابع للمملكة الأردنيّة الهاشميّة، فبين الحسين بن طلال وعبدالله الثاني كانت الرؤية تتواصل، ليعود الطراونة رئيساً للوزراء عام 2012،.. وفي حديثه نلمس بوضوح صدق البوصلة في القراءة الاقتصادية للديون والاحتياطي والودائع، مثلما نتفهّم موقفه من الإرهاب ودول الإقليم وشهداء الأردن، ورؤيته أيضاً في الأحزاب وقانون الانتخاب،..فهي ذاكرة عميقة أودعها الطراونة الذي لم يمهله المرض ليقرأ المزيد ويستدعي من مخزون التجربة والحكمة ما ينفع ويفيد، في مواضيع تستجدّ وظروف صعبة على أكثر من صعيد.

شارك الخبر على