حتى ننتمي إلى المستقبل

أكثر من سنتين فى الرأى

الانتماء إلى المستقبل ليس سهلاً. دونه عقبات ينبغي تذليلها أولاً حتى يحصل هذا الانتماء. الانتماء إلى المستقبل ينبغي أن يواكبه جهد صادق ومخلص يتجاوز الكلام المكرور الذي يتناوله الكثيرون منا دون أن يدركوا أن للعصر الذي نعيشه لغة أخرى لا تنفي الماضي كله ولكنها لا تقبله أيضاً كله. فمقولة «الأسلاف لم يتركوا شيئاً للأخلاف» لا يجوز التسليم بها بالمطلق. ثمة متغيرات حدثت وأزمنة مختلفة تعاقبت. لا يجوز عدم تأملها والإفادة منها، هناك واقع جديد يُعاش له خصوصياته ومفرداته، وعليه فإن تهميشها بحجة أنها منافية لما خلّفه «ال?سلاف» مسألة مردودة. ما خلّفه هؤلاء الأسلاف» يجب أن نقرأه في ضوء العصر المعرفي الذي نحن فيه. وهذا لا يعني أننا نرفض إضاءات تُراثنا القديم كما يفترض البعض، بل يعني أننا نستشرف آفاق المستقبل بحكمة وموضوعية، ومعيار نظر إلى شؤوننا الحياتية فيه استنارة وإدراك لمتغيرات العصر.

حتى ننتمي للمستقبل ينبغي أن ننفي من حياتنا «التطرف» والمبالغة في «الزهو» بأمجاد الماضي، وكأن هذه «الأمجاد» دون البناء عليها ستصنع لنا هذا المستقبل.

علينا كعرب ومسلمين أن نؤمن بأنّ هناك «صيرورة» تخضع لها مراحل الحياة الإنسانية. وحين يقال هذا الكلام فهو لا يعني التنكر للماضي كما يحلو للبعض تصوره، لا يعني أننا قد اغتربنا عن تراث الأسلاف بايجابياته وفضائله، أو أننا نترسم «علمانية» كلها سلببيات!. ما تدعو إليه «العلمانية» المتوافقة مع الدين من تسامح واحترام للكرامة الإنسانية لا يجوز أن نرفضه، نرفض الوجه الآخر لها المتعارض مع قيمنا الدينية والمؤيد للجشع والاستغلال وقهر الشعوب. من هنا علينا أن لا نؤثم «العلمانية» بالمطلق. فما توافق منها مع قيمنا الروحية أخذنا?، وما تعارض منها حقاً معها، نبذناه.

علينا ان ننقد أنفسنا نقداً حقيقياً، فليس كل إخفاق أو تخلف نعيشه صنعه «الخارج»، ما أكثر الاخفاقات التي صنعناها بأيدينا. ومع ذلك فإننا لن نفتقد «الأمل» وكما يقول أحد مفكرينا المعاصرين واعني به د. طيب تيزيني، «ابقى إمكانات الانتقال من الرماد إلى الوهج مفتوحة». «الوهج» الذي يعنيه هو ان نفعل كل شيء ممكن لبناء المستقبل الذي سيختلف عن واقعنا المر في كثير من أرجائنا العربية.

لا يعني كلامي هذا تنكراً للتراث أو افتئاثاً عليه، فتراثنا غنيّ بومضات إنسانية لا تُنكر، إنما الاكتفاء بالتغني به دون أن تشغلنا هموم الحاضر ومتطلبات المستقبل هو الشيء المرفوض.

ما نعيشه اليوم من ظروف استثنائية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية حيث نرى الانفسامات الحادة في الوطن الواحد والتي تكرسها المذهبية والقبلية والعشائرية والطائفية، تتطلب منا وقفة صارمة تعالج هذه الاختلالات التي تعرقل أية حركة وطنية أو اي إصلاح منشود يحقق طموحات الجماهير.

أقولها بصراحة: إننا كعرب ومسلمين بتنا مستهدفين من الصهيونية والإمبريالية. ما نحتاجه اليوم هو أن نسرّع خطواتنا نحو «المعاصرة» دون أن يعني ذلك افتقادنا لخصوصيتنا وهويتنا. ما هو ماثل على الأرض لا يقنع أحداً منصفاً بأننا قد استوعبنا ملامح الماضي وتطلعات الحاضر الموصولة بالمستقبل! وفي تصوري أن مثل هذا «التسريع» لن يتم اذا ظلت «العقلانية» مهمشة أو مضطهدة في مجتمعاتنا. لن يتم ما دامت «البيروقراطية» سائدة، وما دام «الفكر التقليدي» مقاوماً عنيداً لـ"العصرنة». العصرنة بمفهومها الحداثي الإنساني. الفكر التقليدي، لن يحدث نقلة حضارية حقيقية، بل سيظل مهيمناً على حياتنا السياسية والاجتماعية لن نقارب ايقاع العصر مادمنا أو مادام الكثيرون منا يعتبرون «التحضير والتحديث» مشروعاً علمانياً ينبغي مقاومته وتكفير المؤيدين له دون تبصر منهم في مفردات هذا المشروع! علينا أن نطرح على أنفسنا الأسئلة التي تستحق الدراسة والتبصر والتي من خلال طرحها نعرف وندرك أسباب تخلفنا عن الآخرين. علينا أن نعترف –وكما يشير المفكر الراحل د. محمد جواد رضا- بأن هناك «قيماً متناقضة» في نقافتنا العربية/الإسلامية، علينا أن نحسن التعامل معها تعاملاً صحياً إذا ما أردنا الانتماء إلى مستقبل حضاري مشرق.

يستغرب هذا المفكر استمرارها، يذكر -على سبيل المثال- ما أسماه «قيمة الثأر التي سادت في الجاهلية، ومع الأسف فإنها ما زالت مستمرة إلى اليوم بصورة أو بأخرى. «قيمة الثأر» هذه تتناقض مع قيمة أخرى هي قيمة العدالة والقانون. قلت في البداية إن الانتماء إلى المستقبل ليس سهلاً، إنه يتطلب منا انفتاحاً لا انغلاقاً على المفردات الحضارية والإنسانية. يتطلب «الانتماء» منا «وضع يدنا بعمق على فكرة التعددية» وصولاً إلى الديمقراطية التي لا يمكن أن تُبنى دون قبول الآخر. علينا أن نوسع رحابنا لكل القيم الإنسانية التي تؤدي إلى التق?م، وحدها هذه القيم هي التي تحررنا من العاهات والأمراض الاجتماعية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على