ماذا نشاهد عندما نتابع مباريات كرة القدم؟

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

في عام 1972، وعلى مدار 4 ساعات ونصف من البرامج المتواصلة، حاولت هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تغيير طريقة تعاملنا مع الثقافة البصرية وكيفية متابعة العالم من حولنا.

وكان للناقد الفني البريطاني جون بيرجر بصمة كبيرة في تطوير ذلك المجال في سبعينيات القرن الماضي من خلال سلسلة "Ways of Seeing" والتي أذيعت على محطات "بي بي سي" إضافة إلى إصدارها في صورة سلسلة من الكتب.

وليس الهدف من كتابة تلك السطور هو نعي بيرجر أو تحليل أعماله، ولكن الهدف هو الاستفادة من أعمال بيرجر في معرفة ماذا نرى عندما نشاهد مباريات كرة القدم وذلك كما استعرضت صحيفة "الجارديان" البريطانية.

ففي 13 يونيو من عام 2014، سحق المنتخب الهولندي نظيره الإسباني بطل العالم حينها بنتيجة 5-1 في مونديال البرازيل، وفي الأيام التي تلت ذلك الفوز التاريخي سيطرت صورة اللاعب روبن فان بيرسي وهو طائر في الهواء أثناء تسجيله هدف هولندا الأول في المباراة، على الصحف العالمية ووسائل التواصل الاجتماعي ومحطات التلفزيون.

وبالفعل كان الهدف رائع للغاية بل ومن أفضل الأهداف التي سجلت في تاريخ كأس العالم، ولكن كيف أصبحت تلك الصورة مثالًا واضحًا للأمور الخفية التي لا يراها المتابع من وراء الصورة التي يشاهدها.

 فبالنسبة لشخص لم يشاهد المباراة أو حتى إعادتها أو حتى أبرز اللقطات فيها، فسيكون ملخص المباراة بالكامل بالنسبة له في تلك الصورة، فلن يعلم أن تشابي ألونسو سجل هدف المباراة الأول لصالح إسبانيا، ولن يهتم بالأهداف الأربعة الأخرى التي سجلها المنتخب الهولندي بل ومع الأهمية الكبيرة التي منحت لتلك الصورة من وسائل الإعلام، فمن السهل للغاية الإعتقاد بأن ذلك الهدف كان هدف الفوز في المباراة وليس أكثر من هدف التعادل بل ولن يتذكر المتابع دور دالي بليند في صناعة هذا الهدف الأيقوني.

وبالتالي لن يتمكن أحد من فهم السياق الحقيقي للصورة إلا للذين شاهدوا المباراة، ومع ذلك يبدو السياق الحقيقي للصورة أبعد من ذلك أيضًا، فتلك الصورة التي شاهدها العالم على شاشات التلفزيون أو الأجهزة اللوحية التقطت من خلال كاميرا متحركة، وتلك الحركة هي من تصنع الفارق في كيفية متابعة المباراة.

فأثناء مشاهدة المباراة ينصب التركيز بشكل كبير على الكرة، فعندما كانت الكرة بحوزة بليند كان التركيز كله منصب عليه ولم يلاحظ أحد الوقت الذي تحرك فيه روبن فان بيرسي إلى جانب ما فعله أرين روبين من تحرك ذكي لسحب مدافع إسبانيا جيرارد بيكيه معه لإفساح المجال أمام فان بيرسي.

ولتوسعة سياق الصورة أيضًا، فقليلون هم من يعلموا أن هولندا خسرت من إسبانيا في نهائي كأس العالم 2010، وقليلون هم من يعلموا أن مدرب هولندا لويس فان جال كان من المقرر له أن يتولي تدريب مانشستر يونايتد عقب المونديال وبالتالي فإن احتفال فان بيرسي معه بعد هذا الهدف لاقى رواج كبير على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بإعتباره أمر سيعتاد عليه الجماهير فيما بعد حيث كان فان بيرسي حينها لاعبًا في صفوف اليونايتد، وبالتالي قليلون هم من سيفهمون السياق الكامل لتلك الصورة الشهيرة.

فالصورة هي نتيجة لقرار المصور بأن تلك اللحظة تستحق التسجيل، ففي أحد مقالاته عن فهم مجال التصوير، قال بيرجر أن جوهر التصوير يكمن في رسالة بسيطة بأن تلك اللحظة تستحق التسجيل، فالصورة بطبيعتها يبنغي أن تشير في باطنها أيضًا إلى أمور لا يراها المتابع.

وبشكل عام تتمركز فكرة كرة القدم على عنصري الوقت والمساحة وتبرز كيفية تعامل اللاعب مع العنصرين ما إذا كان لاعبًا جيدًا أم لا، وأثناء المباراة تحدث لحظة أو لحظتين من تطور نسق اللعب وحينها على المتابع أن يدرك أن أمرًا ما سيحدث، وهي اللحظة التي يتابعها بشكل جيد من يتواجد في المدرجات من خلال ملاحظة تحرك اللاعبين على الميدان، وهي تحركات لا يراها المشاهد أمام التلفزيون.

وبالتالي فأن قيمة الصورة ليست في لحظة تسجيل الأهداف أو في صناعتها بل في كيفية تطور الأمور التي أدت إلى تسجيل الهدف، مثل الشطرنج، فلن تهتم الصحف باللعبة الأخيرة بل تهتم بأخر 10 تحركات التي رفعت من النسق الدرامي للمواجهة وأدت إلى نهايتها، ودائمًا ما تحدث تلك الدراما في كرة القدم في منطقة وسط الملعب.

ولذلك نجد أن المصور الشهير فان دير ميير لم يحرص أبدًا على إلتقاط الصور من وراء المرمى أو من على الخطوط الجانبية للملعب، حيث يفضل الجلوس في المدرجات بالقرب من نصف الملعب الأمر الذي يمكنه من إلتقاط صور للملعب بالكامل والمناطق التي تطورت فيها اللعبة وليس نهاية اللعبة وحسب.

وبالنظر إلى لقطات الفيديو، نجد أن إعادة الهدف تقتصر على إعادة صناعته مرة أو اثنين على حد أقصى مع إعادة الهدف نفسه لأربع أو خمس مرات دون الاهتمام بالصبر الكبير الذي تميز به اللاعبون في بناء قصة الهدف من البداية.

فتغطية كرة القدم في الوقت الحالي تهتم بالمهارات الفردية للاعبين، وإلتقاط الصور للحظات الفرح والحرزن والإحباط على وجوههم، بينما يتم تحليل أداء الفريق ككل بالإحصائيات التي تظهر معدل الإلتحامات وعدد الركلات الركنية والمسافة التي قطعها كل لاعب، وبالتالي تفقد الجماهير فكرة العمل الجماعي.

وفي الوقت الحالي تشعر الجماهير بإنبهار كبير من خلال عمل جوارديولا مع برشلونة أو يوب هاينكس مع بايرن ميونيخ أو أنطونيو كونتي مع إيطاليا أو يواخيم لوف مع ألمانيا على فكرة عمل الفريق ككل، على الرغم من تواجد تلك الفكرة منذ عقود طويلة في الملاعب.

وتسبب التركيز مع المهارات الفردية للاعبين على إختفاء فكرة الجماعية للفريق ونسيان العمل الجاد الذي يبذله اللاعبون لمدة ساعات طويلة في الحصص التدريبية، ومع تطور وسائل التغطية الإعلامية بدأت الأندية في منع الجماهير من حضور التدريبات كما بدأت بعض الملاعب في منعهم أيضًا من الدخول إلى المدرجات بالكاميرات وبالتالي حرمان المتابيعن من إلتقاط الصور الكاملة للملعب التي تظهر كل شيء.

وبالعودة إلى العصور السابقة، نجد أن مونديال 1954 الذي أقيم في المجر هو أول كأس عالم يبث عبر شاشات التلفزيون، وكان ذلك في الأيام الأولى لكاميرات الفيديو حيث كانت المباريات تغطى بكاميرتين فقط، إذ كان الهدف هو توثيق الحدث فقط ذلك حتى مونديال إنجلترا 1966 عندما تطورت وسائل إذاعة المباريات وذلك بفضل إمتلاك إنجلترا أفضل شبكات التلفزيون في العالم في ذلك الوقت.

ومنذ ذلك الحين تطورت فكرة التصوير واعتمدت على الصور الخاصة باللاعبين من خلال صورة بوبي مور فوق أعناق زملاءه حاملًا كأس العالم في عام 1996 وجيرزينيو حاملًا بيليه في مونديال 1970 ودانيل باساريلا وهو على أعناق الجماهير في عام 1978 وهكذا.

فالصور القريبة من اللاعبين منحت الرعاة الفرصة لإظهار الشعار الخاص بهم، فكرة القدم تحولت إلى صناعة كبيرة خاصة في عصر البريميلريج ودوري أبطال أوروبا، فالهدف من الصور لم يعد مقتصر فقط على توثيق اللحظة بل ولخدمة أهداف تجارية أخرى.

ولا يمكن الحكم بأن الصور القريبة سيئة، ولكن تغطية الحدث تحول اللاعبين إلى آلهة لخدمة مصالحة اقتصادية وسياسية على حساب الجانب الرياضي، ولاستعادة الكرة من الشركات التي تنفر المشجعين عن الفرق التي يدعمونها، فينبغي النظر إلى المباريات بطريقة مختلفة.

شارك الخبر على