عمارة ابراهيم وقصيدة «ظِلٌ ليسَ لي» من ديوان «ثرثرة لن تفضي إلى موت» (٢ ١)

أكثر من سنتين فى الرأى

يباغتنا الشاعر عمارة ابراهيم في قصيدته: «ظل ليس لي «بتأسيسية أولى للذات والظل المضاف إلى شخص آخر، فهو يقدم مسروديات قصيدته عبر احالة الظل إلى مجهول، أو آخر مغاير، وهو يبدأ بمقدمة طللية تعلوها لغة» الخطاب الشعري – عبر المناداة، وحديث الأنا مع الظلال: «يا أيها الظل»، وتلك المقدمة تتماس في المخيال الشعري مع المقدمات الطللية العمودية لامرؤ القيس:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح وما الإصباح منك بأمثل

فخطاب الليل يتسق مع خطاب الظل - هنا -، وإن نشدنا التأويل الإحالي للمعنى الذي يرفده على مخاطب لم يره، فالظل غير ملموس، لكننا نراه يتحرك معنا،ونشعر بحركته، لكننا لا نتمثله سوى بالشبيه، او هو القرين الصامت للذات، عبر تماثلات المُعطي الفلسفي، فمن منكم كَلَّم ظله، أو عرف حقيقته، ولكنها ظلال المعني عبر تماثلات اللاحقيقة، والبرهان العقلي، لا الروحي، فهو متخيل معلوم نشاهده، لكننا لا نعرف حقيقيته، سوى أنه ظلال لانعكاس الضوء على مجسمات الجسد، عبر فيزيائية الصورة المخيالية في الذهن. ومن هذا المدخل الغرائبي ندخل إلى تشاكلات المعني الأركولوجي عبر فونيمات الصوت، فالشاعر يكلم نفسه، ظله، كينونته اللا متماثلة عبر التماثل للصورة والظلال كذلك، ليقودنا الظل ومناجاته إلى سؤال الذات المتمثلة عن ذلك الشبيه الصامت، أو الشبح المتماثل والمختفي خلف ظلال التأويل والتخييل، والتَّقارنية التي تُحدِثُهَا الصورة والظلال، يسائله، ويدخل إلى المجتمع والعالم عبر رؤية الصورة البصرية التي تنشد تشاركية القارئ لهذا الذي يكلم ظله، بدون يقينية لديه في أنه ظله. ثم ينطلق بنا عبر الصور المشهدية التي يسترفدها من «السينوغرافيا لينشد تشاركية للذات، وللآخر البعيد،فيحيله معه إلى ذاتيته هو،فنتمثل جميعاً الظل وكأنه تجسيم لشخص يحدثه، ولكنه يقطع تلك المشهدية – عبر الازاحة – ويدلف إلى معنى وموضوع آخر – دون أن ينتظر اجابة من ذلك الظل، الجماد، الشبيه، الآخر، المجهول، وكأن الظل هنا عتبة كونية للولوج إلى ما ورائيات المعني الذي سيجيء، وتلك لعمري أول تفسيرات قصيدة المعني التي ننشدها، والتي تطرح الأسئلة وتندلق إلى معانٍ أخرى أوسع، كونية، وما بعد حداثوية مشهدية السينوغرافيا المشهدية، يقول:

يا أيها الظل

هل أنت ظلي الواقف

علي مدار رؤيتي؟

وهل تراني

وأنا أدقق

في تفاصيل حدودك

المتحركة

في سراب روحي

يروح ويأتي؟

هل تملك في الميادين

طرقات

وحدائق

يتوسطهن

تمثال

لا قلب له

ولا ظل يتحرك؟

أنت الآن لائذ

في قصيدة بائسة

تستجدي في ما تبقى

من أحرفها

التي توغلت

في مسامات حضوري

وفقدها.

ولنلحظ الحركة لذلك الظل الذي يتحرك في الروح والطرقات والحدائق وفي الميادين العامة لدى التمثال، فنشاهد الظل: يروح ويأتي، ويتوغل في مسامات الحضور والفقد، وهي مسألة فيزيائية لقانون الحركة والثبات، فهو لا ينشد المعني الظاهر، بل ينشد المعنى الموغل خلف ظاهر النص الشعري، وما خلف ظاهر الشعرية هو القصيدة البكر التي ننشدها في المعاني الثواني أيضاً.

وينتقل بنا الشاعر إلى مشهد آخر ينطلق من الظل وذاته إلى المعشوقة التي رآها تضحك للبحر وتناعي النوارس مع أشعة الشمس عبر صورة بصرية شيفونية تستحلب الجمال من الوهج، وتعيد تأسيس رومانتيكية بصرية عبر العلاقة بين » الظل والشعاع، والشمس والنور، وكأنها انعكاسات الظلال على ظلال المعنى وحمولاته البصرية لمشهدية تجريدٍ سوريالية لصورة حبيبين على شاطىء، وقد أخفت الشمس شعلعها، وطفقت ظلالها على الحبيبين لتخفي عناق الحب المُتَّقِد، عبر تجريد الصورة من حمولاتها الدلالية، المحمولة كذلك على الظلال، ومنظر الجمال الكوني لمرأي البحر واتساعاته، وفضاءاته الممتدة يقول:

لقد رأيتها منذ فترة

كانت تضحك للبحر ونوارسه

تتأمل الشمس

حين أخفت شعاعها

على حبيبين

خرجا من جرحهما للتو

يرسمان لوحة سوريالية.

ثم ينتقل بنا الشاعر من البحر إلى النهر، فهل أصابته غيبوبة السرد، وهل نسي أن الحبيبين رآهما لدى البحر لا النهر، وتلك النقلة تحيلنا مباشرة إلى السيريالية التي رسمها للوحة، ولا تنسحب إلى الحبيبين اللذين لفتهما الشمس بأردية شعاعها وأخقتهما، ليتدفأ كل منهما بالآخر في صمت، ونراه – عبر الالتفات وازاحة الصور وظلالها ينتقل بنا إلى أركولوجيا المعني اللا تماثلي، فيخش بنا إلى النهر الذي أغلق شريان مداره على خريف الشجرة التي لا حياة لها، إلا أنها كانت مشغولة «بحركة أخرى» وهي منح «ظلها» للبنائين الذين ينحتون بيوتاً تأويهم من لصوص المدينة الفاجرة. فهو هنا عبر «التَّورِيَة المشهدية» يحيلنا إلى المعاني الثواني، فينسحب التصور إلى معنيين:

صورة الرسام الذي نحت الصورة السوريالية، وكأنه يشاهد لوحة سوريالية يصفها لحبيبين على الشاطيء.

صورة حقيقية لمرأى الشمس والحبيبين حقيقة لا تخييلاً، وهذه هي «التورية المشهدية» التي عنيتها هنا، عبر لعبة الصورة والظل، وانعكاسات الظلال اللامتناهية للمعاني المنطلقة للمخيال الكوني الأثير. كما أنها المعاني الثواني التي تعارضت مع المعاني الثواني لدى الجرجاني والبلاغيين، وكأننا ننشد –هنا–بلاغة جديدة لما بعد حداثة الصور المتواشجة، والمندغمة والمتواترة بتراتب، وتراكب،ومعانٍ أكثر ترميزية، وتخالفية، بل وتخاتلية كذلك، بقول:

رأيتها في مسامات النهر

وقت أن أغلق شريان مداره

على خريف شجرة

لا حياة لها غير أن تمنح ظلها

لمن ينحتون بيوتا

تأويهم من لصوص

المدينة الفاجرة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على