كيف قضى الروس على البغدادي!

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

على الرغم من عدم تأكد موسكو من مقتل زعيم تنظيم "داعش" الإرهابي أبو بكر البغدادي، فإن وسائل الإعلام الروسية كعادتها شنت حملة غير مسبوقة تضيف إنجازا جديدا لها في مجال "الدعاية والإعلان". وكلما توارت تصريحات المسؤولين الروس قليلا، أحيت وسائل الإعلام الروسية "إنجاز" روسيا بتصفية الإرهابي رقم 1 في العالم.

لقد زَفَّت وزارة الدفاع الروسية إلى العالم، صباح يوم 16 يونيو، خبر امتلاكها معلومات تدل على مقتل زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي بإحدى غارات القوات الجوية الفضائية الروسية على الرقة السورية. وأوضحت الوزارة في بيان رسمي أن الغارة تم توجيهها ليلة 28 مايو الماضي إلى مركز قيادة تابع للتنظيم، انعقد فيه آنذاك اجتماع لقياديين داعشيين لبحث مسارات خروج الإرهابيين من الرقة عبر ما يعرف بـ"الممر الجنوبي"، ما يشير إلى أن الوزارة الروسية تعرف حتى تفاصيل ما كان يدور في الاجتماع الذي ترأسه البغدادي.

بيان وزارة الدفاع الروسية أكد أن الغارة نفذتها طائرات من طرازي "سو-35" و"سو-34" في الضواحي الجنوبية للرقة. وتم إبلاغ الجانب الأمريكي مسبقا بتوجيهها. كما أوضح أن قيادة مجموعة القوات الروسية في سوريا تلقت في أواخر مايو معلومات عن خطط "داعش" لعقد اجتماع للقادة على المشارف الجنوبية للرقة، وبعد التأكد من صحة المعلومات حول مكان وزمان عقد الاجتماع، قامت طائرات روسية بتوجيه الضربة بين 00.35 و00.45 بالتوقيت المحلي فجر الأحد 28 مايو الماضي. وحسب، البيان الروسي، فقد أسفرت الغارة عن تصفية نحو 30 قياديا ميدانيا في التنظيم الإرهابي، إضافة إلى 300 مسلح من حراس هؤلاء القياديين. ومن بين القتلى، حسب معلومات وزارة الدفاع، أمير الرقة أبو الحاج المصري، والأمير إبراهيم النايف الحاج، الذي كان يسيطر على المنطقة الممتدة بين الرقة ومدينة السخنة، ورئيس جهاز الأمن التابع لداعش سليمان الشواخ.

هذه المعلومات والإحداثيات والتوقيتات الدقيقة أحدثت ارتباكا في أوساط كثيرة إقليميا ودوليا، ولكن المتحدث باسم التحالف الدولي ضد "داعش" جون دوريان خرج ليعلن أن "التحالف لا يستطيع في الوقت الراهن تأكيد مقتل البغدادي بغارة روسية". وعقب ذلك، خرج وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ليخفف قليلا من "دقة" بيان وزارة الدفاع الروسية، مشددا على أن "روسيا ليس لديها تأكيد %100 بأن زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي قد قتل بغارة روسية في مدينة الرقة السورية". وفي الوقت نفسه، أحجم الكرملين عن التعقيب على بيان لوزارة الدفاع الروسية، وأحال الأسئلة بهذا الشأن إلى وزارة الدفاع، مضيفا بأن الرئيس فلاديمير بوتين يتلقى تقارير من الوزارة بشكل منتظم.

المثير أنه قبل أيام من إعلان روسيا، قامت قوات بشار الأسد بالإعلان عن مقتل البغدادي بغارة جوية نفذها الطيران الحربي السوري على مدينة الرقة. بينما أعلنت وزارة الدفاع العراقية أكثر من مرة خلال الأسابيع الأخيرة أنها تعرف مكان اختباء زعيم داعش أبو بكر البغدادي، أي أن نظام الأسد وخلال الفترة من 28 مايو إلى 16 يونيو أعلن مرتين عن نجاحه في تصفية البغدادي. وبعد نحو ٢٠ يوما من الغارات الروسية على الرقة أعلنت موسكو أيضا عن تصفيته. ولا أحد يعرف مدى التنسيق بين موسكو ودمشق في مثل هذه الأمور. وربما يكون الأسد لديه رغبة أيضا في إظهار قوته الاستخباراتية والزمنية والعسكرية أمام قوة روسيا في هذا الصدد.

بعد أسبوع من هذه الإعلانات، وبعد أن هدأت الأمور نسبيا، خرج رئيس لجنة الدفاع والأمن في المجلس الفيدرالي الروسي فيكتور أوزيروف، في 23 يونيو، ليعلن مجددا بأن احتمال القضاء على البغدادي في سوريا مرتفع جدا، وأنه إذا كان وزير الدفاع سيرجي شويجو يرفع تقارير بهذا الشأن للرئيس بوتين، فإن الاحتمال كبير جدا، أي أن أوزيروف لا يعتمد على أي معلومات، بل على "أهمية" رفع تقارير لبوتين، باعتبار ذلك وثيقة رسمية على مقتل البغدادي. وبناء على ذلك، يؤكد البرلماني الروسي بأن "روسيا لا تريد أن تكون في قائمة الدول التي تعلن مقتله، ثم يقوم بعد ذلك من بين الأموات"، مشيرا إلى أن المعلومات عن القضاء على البغدادي قريبة من نسبة 100 بالمئة.

وقبل يوم واحد فقط من تصريحات أوزيروف، أعلنت وزارة الخارجية الروسية أيضا عن وجود "احتمال كبير" بأن البغدادي قد قتل نتيجة قصف الطيران الروسي لمركز قيادة للتنظيم جنوب الرقة. وقال نائب وزير الخارجية الروسي أوليج سيرومولوتوف إنه "حسب معطيات وزارة الدفاع الروسية فإنه يمكن القول إن زعيم داعش قد تم القضاء عليه، ويجري الآن التأكد من صحة هذه المعطيات". أما المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية فقد أعلنت، في نفس ذلك اليوم، أنها لا تملك أي معلومات جديدة حول هذا الموضوع.

من الواضح أن هناك صراعا شديد الوطأة بين أجهزة الاستخبارات الروسية والأمريكية على اصطياد البغدادي لما لذلك من فوائد سياسية مهمة على مستوى الداخل والخارج في البلدين الكبيرين. وبالطبع، فروسيا لا تنسى، ولن تنسى أن الولايات المتحدة هي التي اصطادت أسامة بن لادن. ولكن ما الذي يدفع موسكو إلى المجازفة بسمعة ليس فقط وزارتي دفاعها وخارجيتها، بل وأيضا سمعة أجهزتها في سياق تصريحات غير مؤكدة؟! الإجابة على هذا السؤال صعبة للغاية وموجعة بشدة.

إن جميع التصريحات الروسية في هذا الشأن تمت صياغتها بشكل لا يؤكد المعلومة، ولكنه يعطي انطباعا بأن المعلومة صحيحة. وهذه معادلة دبلوماسية – إعلامية لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل تضارب وتناقض شديدين، وانعدام ثقة، ومحاولة "أداء" الواجب الوظيفي أمام القيادات العليا وتعبئة الأوراق. ولكن المستوى الأخطر لذلك، هو أن روسيا تحجز لنفسها الترتيب الأول في حال تمت تصفية البغدادي في أي وقت لاحق، وربما تعوِّل على "بدائية" وسائل إعلامها في خلط الأوراق في ما بعد لإعطاء انطباع بأن موسكو تعادلت مع واشنطن في مباراة بن لادن - البغدادي. هنا لا يمكن أن يفوتنا شيء مهم للغاية، ألا وهو أن الأجهزة الروسية تعاملت ببراعة منقطعة النظير وبحِرَفية عالية مع قادة الإرهاب في الشيشان، ونجحت في تصفيتهم عبر عمليات نوعية رفيعة المستوى. ويبدو أنها تعوِّل على هذه الآليات بشأن تصفية البغدادي، على الرغم من الاختلافات النوعية والجوهرية في الحالتين.

الأمر الآخر أن موسكو ظلت طوال أسبوع كامل تعلن أنه ما دام تنظيم داعش الإرهابي لم يعلن عن مقتل البغدادي، وأن البغدادي لا يظهر للعلن، فإن احتمال مقتله وارد. أي أن الروس يطالبون داعش بالإعلان عن مقتل البغدادي من عدمه، وإلا فإنه سيصبح في عداد المفقودين. وبالأحرى، يطالبون التنظيم الإرهابي بالإعلان عن مكان البغدادي! وبعد ذلك، بدأ ترويج السيناريوهات المثيرة للتساؤلات ليس حول مقتل البغدادي هذه المرة، بل عن "الغموض الذي يحيط بالشخصية التي قد تخلفه في حال تأكد مقتله، لقيادة التنظيم". مثل هذه الجملة المُرَكَّبَة لا تؤكد أي شيء ولا تنفي أي شيء، ولكنها تعطي انطباعا بأن البغدادي قد قتل، وأن هناك حراكا لتحديد "الخليفة" الجديد، ما يعني أيضا استفزاز التنظيم للإعلان عن خططه من جهة، ولحجز مكان الصدارة والسبق في حال تصفية البغدادي.

الطريف هنا أن الأجهزة والخبراء يعرفون كل التفاصيل عن تنظيم داعش! فهم يعتبرون أن أحد أكبر مساعديه الاثنين، إياد العبيدي وعياد الجميلي، وهما ضابطان سابقان في جيش صدام حسين أقوى المرشحين، رغم أنه قد لا يُمنح أي منهما لقب "الخليفة"، وأن العبيدي، وهو في الخمسينيات من عمره، يتولى "وزارة الحرب" في التنظيم، بينما يرأس الجميلي وهو في الأربعينيات الوكالة المسؤولة عن الأمن في التنظيم، وأن الاثنين انضما إلى حركات التمرد المتشددة في عام 2003، وأن الاثنين تحوَّلا إلى أهم مساعدين للبغدادي بعد مقتل كل من نائبه أبو علي الأنباري وأبو عمر الشيشاني وزير الحرب السابق بالتنظيم وأبو محمد الجولاني مسؤول الدعاية في ضربات جوية العام الماضي، ولكن فجأة يتم نسب هذه التصريحات إلى السلطات العراقية، وبعد ذلك يقولون إن قتل عياد الجميلي لم يتأكد حتى الآن.

هذا العصف الذهني والخلط أوصلا الأمور إلى أن اختيار الزعيم الجديد للتنظيم يحتاج إلى موافقة "مجلس شورى" الجماعة المؤلف من 8 أعضاء وهم ستة عراقيين وأردني وسعودي. ومن المستبعد أن يجتمع الأعضاء الثمانية لدواع أمنية.

إن الجملة الأخيرة تثير السخرية بعض الشيء، لأنهم يفترضون استحالة اجتماع 8 أشخاص "لدواع أمنية"، بينما يمكن تمرير اجتماع 30 قياديا، بينهم أبو بكر البغدادي في الرقة، حيث قتلته الغارات الروسية!

شارك الخبر على