البحث عن الذات (١)

حوالي ٩ سنوات فى التحرير

عن كتاب السادات أتحدث.. السيرة الذاتية للزعماء مهمة، خصوصًا عندما تكون للتاريخ القريب، من الوارد طبعًا، أن تكون السيرة الذاتية ليست مجرد بحث عن الذات، ولكن من الممكن أن تشتمل على تنزيه للذات، ومن الطبيعي أن الشخص وهو يكتب سيرته فإنه ينتقي مواقف، ويخفي أخرى باختيار شخصي بحت، ومن الممكن أن يكون بعض المواقف غير دقيق، لأنه من الصعب الاستيثاق من دقته، خصوصًا أن أصحابها جميعًا في رحاب الله، ولكنها في النهاية ستلقي الأضواء على زوايا كانت مخفية، وإذا كان الحديث عن عبد الناصر ومواقفه، فإن كثيرًا من الأحداث روي من أطراف كثيرة فعندها سيكون من المتاح وضع قطع البازل بجانب بعضها لتكون الرؤية أكثر دقة للصورة.لا تكون السير الذاتية موضوعية في غالبها، فليس من السهل، أن يعبر الشخص عن مشاعره الإنسانية الحقيقية، من الخوف أحيانًا والطمع أحيانًا أخرى، من الرغبة في تحقيق النفوذ والسلطة والمال، وهي رغبات فطرية، يقاومها الإنسان أحيانًا، ويضعف عن مقاومتها أحياناً أخرى، وما مستوى التنازلات التي يكون في مقدرته تقديمها والاعتراف بها للتاريخ، وما لحظات الضعف الإنساني، وما مشاعر الغضب أو الكراهية أو الحسد التي انتابته في لحظات.

عبد الوهاب المسيري عندما تحدث عن سيرته، عنونها سيرة غير ذاتية وغير موضوعية، رغم أنه تحدث عن تفاصيل كثيرة، ربما يراها البعض مسيئة، ولكنه ذكرها بكل أريحية، جلال أمين هو الوحيد الذي قرأت له، كشف كثيرًا من الأمور المسيئة، أو هي أمور إنسانية عادية ولكنها تعبير عن حالات الضعف الإنساني وإزالة للصورة المثالية حتى في ما يتعلق بوالده أحمد أمين وقد كان كاتبًا إسلاميًّا مهمًّا، ولا أعرف إن كان هذا صحيحًا أم لا، لأن الله أمر بالستر كما يقولون، ونهى الرسول عن أن الله يستر إنسانًا بالليل ويصبح ليكشف ستر الله في النهار، ولكنها أمور نسبية في العموم.

ولكن السير السياسية لها مذاق خاص، خصوصًا عندما تكون لأشخاص مثل السادات عاصروا أحداثًا هامة كمشاركين، وشاركوا هم في الأحداث بعد ذلك كفاعلين كبار ومؤثرين.

سننتقي بعض المقاطع، ونأخذها بالتحليل والنقد. 
يتحدث السادات عن الأحداث الجسام التي أعقبت هزيمة 67 فيقول كان تعيين محمد فوزي قائدًا عاماًّ للقوات المسلحة القرار الوحيد الذي استطاع عبد الناصر أن يتخذه بعد سنوات عديدة من الصراع مع عامر.. طبعًا لم يستقبل عامر هذا القرار بأي ترحيب.

ويقول بعد ذلك رفض عامر منصب نائب رئيس الجمهورية الذي عرضه عليه عبد الناصر، وتمسك بأن يشغل منصب القائد العام للقوات المسلحة الأمر الذي لم يقبله عبد الناصر على الإطلاق... 

ولكن عامر جمع الكثير من الأسلحة في بيته وراح يعقد الندوات مع الضباط يتحدث فيها عن الهزيمة وكيف أنه ليس مسئولاً عنها كما أنه ليس مسئولاً عن غضب الشعب بسبب المظالم.

ويقول عن عبد الناصر وهذه روايته لي ـأخذ طبنجة ووضعها جوار فراشه وجلس ينتظر.. وفي هذه الأثناء حاول الاتصال بعامر مرة أخرى، ولكن دون جدوى، فاتصل بمحمد فوزي رئيس أركان حرب القوات المسلحة في القيادة الذي أخبره بأن هناك 600 ضابط وأربعة فرقاء متجمعين في القيادة ويطالبون بعودة عامر، كان عبد الناصر كما هو معروف كثير الشك بطبعه خصوصًا إذا كان الموضوع يتصل بأمنه الشخصي... وربما كانت هذه النظرة إلى الأمن الشخصي وراء كل الإجراءات الاستثنائية التي حدثت وتطورت من مرحلة إلى مرحلة.

السادات هنا يتحدث عن أصعب اللحظات عندما يتحدث عن عبد الناصر الذي ينام ومسدسه بجواره، وهو رئيس الجمهورية، وهو ليس أي رئيس، ويتحدث عن الخوف على الحياة الشخصية المبالغ فيه والذي كان سببًا في إجراءات استثنائية، فأكثر المشاعر تأثيرًا في قرارات الإنسان هي مشاعر الخوف والطمع، تصل إلى مرحلة أن تقود الشخص ولا يستطيع الإفلات من ضغطها على أعصابه.

ويتحدث عن التنصل من المسؤولية، عند الملمات الكبرى، وعندها تضيع الصداقة ويضيع العيش والملح، وتحتل المؤامرات الموقع الأهم داخل النفوس الإنسانية.

وعندما تكون السلطة ديكتاتورية مستبدة، يصبح موقع الزعيم العسكري خطيرًا ومؤثرًا ومخيفًا في نفس الوقت وهو وزير الدفاع عامر في تلك اللحظة، لأنه سيكون من السهل الانقلاب على النظام بدعوى الغضب الشعبي والاستبداد، وأن عصر النور قادم ومن السهل على الإعلام أن يمهد للقائد الجديد ويصيغ الجمل والعبارات التي تدغدغ مشاعر الجماهير، وهذا ما فعله السادات لاحقًا في ما سمي بثورة التصحيح، وإغلاق السجون وذهب ليكسر بنفسه أحد أحجار السجن في مشهد هوليوودي، فقد كان السادات مغرمًا بالسينما، ولم تخلُ تصرفاته من مشاهد سينمائية جديرة بالتقدير لذكائه. 

يقول السادات إن عامر كان يقول في لقاءاته مع القواد والضباط أنه ليس مسئولاً عن الأوضاع الداخلية والإجراءات الاستثنائية التي أدت إلى إذلال الناس وضيقهم بالنظام كله.. لم يكن من السهل تصديق ذلك، فالجميع يعرفون أنه كان وراء لجنة تصفية الإقطاع والبوليس الحربي وهي أجهزة أهدرت كرامة الإنسان.

كان عامر يعرف جيدًا أن لا شيء يغيظ عبد الناصر مثل الحديث عن الديمقراطية، وأنه ديكتاتور.. فلجأ إلى طبع الاستقالة التي كان قد قدمها لعبد الناصر سنة 61 في شكل كتيب ووزعها على أوسع نطاق، ليعلن فيها أنه لا يؤمن بحكم الفرد وأنه لا بد من إعادة الأحزاب... كلام لا يؤمن به عامر بل ولا يطرأ على فكره.. ولكن كانت آثاره على الناس غير حميدة.

هكذا يكون الصراع السياسي، ذكرني هذا الموقف بالخلاف الذي نشأ بين ابن عباس وعلي ابن أبي طالب عندما كان علي بن أبي طالب الخليفة وكان ابن عباس واليه على البصرة، وإن كانت الروايات التي رواها الطبري سليمة بأن ابن عباس سرق بيت مال المسلمين، وبعد رسائل كثيرة متبادلة بينهما، قالها ابن عباس صريحة، هل تؤاخذني على بعض أموال، وقد أوغلت يدك في دماء المسلمين.

لم يكن ابن عباس بعيدًا عن حروب علي مع معاوية ولا مع جيش السيدة عائشة ومعها طلحة والزبير في معركة الجمل، وكان ابن عمه في نفس الوقت، ولكن عندما تدب الخلافات السياسية، فكل شيء يصبح ممكنًا ومستباحًا.

هنا عامر يقوم بنفس اللعبة مع ناصر، ولكن الغريب أنهم سواء السادات أو عامر، يعرفون أنه حكم الفرد، وأنه حكم ديكتاتوري، وأن هناك غضبًا شعبيًّا من هذا، وعامر يناور، فقد كان مسئولاً عن السجن الحربي بمخازيه الكبيرة، ولا أظن أن عبد الناصر بأجهزته المخابراتية كان بعيدًا عما يفعله عامر، ولكن كلمة السادات أن عامر كان يعرف أن هذا كان يغيظ عبد الناصر، فرغم حب الناس الشديد لعبد الناصر، فإن ناصر نفسه كان يشعر أن هناك نقطة ضعف كبيرة في حكمه من السهل أن يستغلها أي شخص، حتى لو كان من أعمدتها، وعندما يتم الضغط على نقطة الضعف، فمن الطبيعي أن يستشيط غضبًا، خصوصًا أن عامر يغازل الأحزاب بالحرية السياسية، إنه بذلك يحاصر ناصر ويضعه في خانة اليك. 

سنكمل في المقالات القادمة إن شاء الله بعضًا من أوراق البحث عن الذات، فالتاريخ لنأخذ منه العبر، لنستطيع رؤية الحاضر والتخطيط للمستقبل. 

شارك الخبر على