قبسات من الحكم العطائية (٤)

ما يقرب من ٨ سنوات فى التحرير

ما زلنا مع حكم ابن عطاء الله السكندرى، وقد انقضت العشر الأولى من رمضان التى أدعو الله أن يسبغ رحمتها علينا،كما انقضت العشر الثانية التى نلتمس فيها مغفرة ربنا تعالى، وأظلتنا العشر الأواخر التى جعلها الله عتقًا من النيران للفائزين بالتقوى فى هذا الشهر، ولعل تلك العشر التى كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها فى العبادة كما أخبر الحديث الشريف، فيعتزل الدنيا كلها بمتاعها معتكفًا فى مسجده يتقلب من طاعة إلى ذكر، لكن الدنيا التى تمسك بخناقنا وتسكن قلوبنا بحاجة إلى من يعرفنا على حقيقتها ومكانها الصحيح من نفوسنا، وهذا ما تنضح به سطور تلك الحكمة التى بين أيدينا والتى تقول "الأكوان ظاهرها غرة، وباطنها عبرة، فالنفس تنظر إلى ظاهر غرتها، والقلب ينظر إلى باطن عبرتها"، كلمة الأكوان هنا تعنى الدنيا، والمعنى الإجمالى السريع لتلك الحكمة أن هذه الدنيا التى من حولنا لها ظاهر سطحى تراه العين وتتأثر به النفس، ولها باطن خفى يدركه العقل الواعى المتدبر، فأما السطح فزينة وزخرف يأخذ بالأبصار، وأما الباطن فمادة اعتبار ومصدر للحذر من سوء العاقبة لمن تأملها بعقله الذى يرى المآلات، فالنفس هنا المراد بها تلك الغريزة الحيوانية وبواعثها، أما القلب فمهبط الأنوار العلوية والتجليات الربانية والعقل من آثار تجليات الله على الدماغ، وربما لدى البعض يتمثل فى العضلة التى وراء الصدر منبع العواطف والوجدان.
لكن عن أى دنيا يتحدث ابن عطاء الله؟ لا شك أنها الدنيا التى تجاوز حاجة المسلم فى طريقه لربه، فإذا نال المسلم ما يحتاج إليه من المعايش وما يلزمه للنهوض بتكليفات ربه من آداب وواجبات، ثم اتجهت نفسه إلى المزيد من المطامع مما لا يرتبط بتلك التكليفات أو ما يعين عليها، فهذا المزيد هو الدنيا التى لا يمثل القدر الزائد منها أى دور فى تقريبك لله، بل لا بد أن يكون فى الغالب شاغل لك عن الله. 

لكن لماذا لا ترى النفس من الدنيا إلا ظاهر غرتها، فى حين يرى القلب باطن عبرتها؟

النفس أو الغريزة الحيوانية تعيش دائمًا فى ما تتقلب فيه من شدة أو رخاء، وتستغرق فيه وفى حاضره، فلا تقيم وزنًا للمستقبل وما قد يأتى به، ولا لعلاقة الحاضر به فإذا ذاقت نعيمًا وعاشت فى نشوته ركنت إلى ذلك، فلا تعدل به شيئًا آخر وذهلت تمامًا عن هذا الغد، وتمثلت قول الخيام واغنم من الحاضر لذاته/ فليس فى طبع الليالى الأمان. 

أما القلب فالشأن فيه أنه ينظر إلى الحاضر من خلال كونه طريقًا للمستقبل وباعثًا عليه ومؤثرًا فيه، فهو حين ينظر إلى نعيم الدنيا وزخارفها وشهواتها إنما ينظر إليها من خلال مآلاتها وما قد تكون سببًا فيه. 

وقد تكونت من مجموع النظرتين اللتين يتعرض لهما الإنسان قاعدة لا تشذ، وهى أن الإنسان كلما حبس نفسه ومشاعره فى الحاضر تعاظمت أمام عينيه متع الدنيا وزخرفها، فاعتقدها كنزًا لا ينفد ونعيمًا لا يزول فازداد سعيه وراءها وتعلقه بها، إذن لا تحبس نظرك واهتمامك وطموحاتك فى الحاضر الذى أنت فيه تتعشقه مهما كان تافهًا، بل وجه اهتمامك ورغباتك إلى البعيد إلى المآلات التى أنت مقبل عليها، تجد أن سائر كنوز الدنيا ومتعها التى من حولك أضحت تافهة إلا بمقدار ما تكون سبيلًا إلى تلك المآلات والغايات. 

حقيقة ربانا الله عليها منذ نعومة أظفارنا وتلفتنا لها تلك الحكمة، كنا ونحن صغار نتعشق لعبًا تافهة نراها متعة الدنيا ونتعلق بها، ونعتقدها كنوزًا نحفظها بقرب مكان رقودنا وقد تزاحمنا فى الفراش، فلما تجاوزنا تلك الطفولة الأولى وشب أحدنا عن الطوق وبدأت مداركنا العقلية تتفتح، بدأنا فى التطلع إلى حيازة أشياء وممتلكات بسيطة وربما تافهة، ولكنها أكثر جدوى بحيث تتفق وما ينسجه الواحد لنفسه من أحلام مستقبلية قريبة، ثم إن المدارك العقلية ازدادت تفتحًا ونضجًا واتجهت الرغبات الغريزية إلى آمال أبعد وطموحات أعلى، فأخذ يتطلع إلى بناء المسكن اللائق والزوجة المناسبة والحياة الفارهة، وفى غمرة التطلعات الجديدة للمستقبل الأبعد ظهرت الرغائب التى كانت قبل ذلك تافهة لا معنى للتعلق بها، إذن كلما ازداد العقل نضجًا واتجه بصاحبه إلى مآل أبعد، عاد الحاضر الذى كان متعلقًا به لا قيمة له ولا جدوى. 

الإنسان فى كل أطوار حياته يبحث عن مقومات سعادته وأسباب نعيمه، لكن كلما اتسعت مداركه وزاد وعيه نضجًا ألقى بحبال آماله إلى مستقبل أبعد، اليوم ألم تصح إلى المستقبل الأبعد والأهم؟ فما لك لا تتجاوز طفولتك الأولى والثانية؟ لقد طرحت التمسك بأوهام الأولى وما زلت متمسكًا بأوهام الطفولة الثانية التى تحجبك عن إدراك الأهم والأخطر فى مستقبلك. 

ما الفرق بينك وبين الصحابى الجليل الحارث بن مالك الأنصارى رضى الله عنه حين سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أصبحت يا حارث؟ أصبحت مؤمنًا حقًّا! فقال له انظر يا حارث إن لكل شىء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ قال: عزفت نفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهارى، وكأنى بعرش ربى بارزًا، وكأنى بأهل الجنة فى الجنة ينعمون فيها، وكأنى بأهل النار فى النار يتعاوون فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عبد نور الله قلبه. 
لماذا لا نفهم الدنيا كما فهمها الحارث، لماذا لا تعزف نفوسنا عن الدنيا كما عزفت نفس الشاب عن لعبه التى كان مأخوذًا بها أيام طفولته؟ إنه السكر بالدنيا. 
لقد مر صحابة رسول الله بهذا السكر فى جاهليتهم لكنهم تجاوزوه تأمل حال الخنساء (تماضر بنت عمرو بن الشريد) يوم كانت تنظر إلى الدنيا من خلال نفسها، فلا ترى فيها إلا ظاهر غرتها، فلما فقدت أخاها صخرًا رأت فى موته فاجعة لا عزاء لها، وقام الكرب بين جوانحها ولم يقعد حتى حدثت نفسها بالانتحار. 

لكنها لما أيقنت بنبوة رسول الله وخالط بهاء الوحى قلبها، بدأت تنظر إلى حاضر عمرها على ضوء المستقبل الذى هى مقدمة عليه، وتحت سلطان اليقظة العقلية لم تحفل بفقد فلذات أكبادها الأربعة فى القادسية فقالت: "الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم جميعًا، وأسأل الله أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته". 

إن هذا الذى آل إليه حال الخنساء والحارث وسائر أصحاب رسول الله، إنما هو مصداق القاعدة التى ذكرناها "علق قلبك واهتماماتك بالمستقبل الذى أنت مقبل عليه يهن الحاضر الذى بين يديك ويصغر فى عينيك:. 

لم تهن الدنيا ومتاعها على صحابة رسول الله بسهولة ودون جهد، وإنما هانت بكل ما فيها أمامهم عندما علقوا آمالهم وركزوا طموحاتهم على ما بعد الموت، الذى هو الحقيقة التى يمارى بعضنا فيها حتى تدركه قبل أن ينتبه أو يستدرك. 

اللهم لا تأخذنا على غرة، وألهمنا صحة النظر إلى الدنيا وحقيقتها، فلا تكبر فى قلوبنا بجوار آخرتك يا رب العالمين.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على