قراءة معاصرة كاشفة لـ«ليلة القدر» (١ من ٤)

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

«1»

هذه رؤية جديدة.. وجديرة بالتأمل.. ومثيرة للانتباه وجريئة في مسار القراءات الكاشفة للتنزيل الحكيم.

موضوعها: (ليلة القدر) التي نعيش تجلياتها في أجواء هذه الأيام والليالي.

صاحبها: المفكر الإسلامي السوري الدكتور محمد شحرور.

غايتها: قراءة معاصرة وتأويل حديث وفهم موضوعي.

محورها: إن ليلة القدر ليست ليلة بالمعنى التقليدي المستقر في المخيلة الإسلامية أنها تحمل طابعا زمنيا معينا من المغرب حتى الفجر، وإن معنى الشهر في الآية (خير من ألف شهر) لا يعني الشهر الزمني ولا يعني أنها خير من 83 سنة وثلث السنة! 
وأن (سلام هي حتى مطلع الفجر) تعني أنها سلام إلى يوم القيامة.
أما فهم (حتى مطلع الفجر) على أنه فجر الشمس «الصبح» فهو فهم ساذج، لذلك عندما شرحها النبي في قوله «العشر الأواخر من رمضان»، فقد حددها ضمن برهة زمنية، ولم يحددها في ليلة بعينها، وهذا كلام دقيق من الناحية العلمية، حيث ينطبق على كل الكرة الأرضية، فليلة القدر هي مصطلح يعني صدور أمر رب العالمين بإشهار القرآن بلسان عربي مبين.

وأن ما يتردد أنه في ليلة القدر تحصل ظواهر غير طبيعية فيما يتعلق بشروق الشمس أو الأشجار أو مشاهدة ظواهر غريبة، إنما هو وهم كالخرافة الشائعة التي تقول إن فلانا شاهد ليلة القدر، ومن ثم فإن علينا -استنادا إلى ما جاء في سورة الدخان- أن نعلم أن كل الأوامر الصادرة في ليلة القدر بحق أي إنسان هي أوامر غير قابلة للإشهار، ولا يتبلغها أحد، وكل ما نعلمه أن ليلة القدر هي موسم من رب العالمين.

التخلي والتحلي والتجلي
لكن قبل الدخول إلى تفاصيل هذه الأطروحة ينبغي الإشارة إلى أن المفكر المجدد الدكتور محمد شحرور يتجلى بمنظومة فكرية تحوي رؤاه، كإنسان عربي.. وكمفكر مسلم.. وكباحث إسلامي، يعيش مطالع القرن الحادي والعشرين، تحت لواء القرآن الكريم، تؤرقه قضايا فكرية إسلامية، وتهزه مفاهيم ينبغي (التخلي) عنها، ليكون (التحلي) بفهم جديد، بعيدا عن السائد والمألوف والتقليدي، ومن ثم يكون (التجلي) بقراءة معاصرة تنطلق من الأرضية المعرفية التي نتحرك عليها بين الاستقامة والحنيفية، بين الثوابت والمتغيرات، بين التأويل والتفسير، بين الالتزام والاجتهاد في فهم النص المقدس، سعيًا إلى تأصيل نظرية معرفية قرآنية، لا سيما وأن المذاهب والنظريات والفلسفات التي تتنازع خريطة الفكر في العالم، نشاهدها تتهاوى وتساقط.. لأنها مؤقتة ومرتبطة بأسماء شخوصها، وبالتالي سرعان ما تنتهي بانتهاء أسبابها أو بالأحرى تتكسر موجاتها قبل الوصول إلى شواطئ غاياتها.

منظومة الدكتور محمد شحرور تتمثل في عدة مؤلفات تشكل ملامح مشروع فكري إسلامي بالمعنى الشامل والإنساني لكلمة (الإسلامي) وليس بالمفهوم الضيق: زمانا ومكانا وإنسانا.. والمنظومة تتشكل من ثلة من المؤلفات: (الكتاب والقرآن) ثم (دراسات إسلامية معاصرة.. في الدولة والمجتمع) و(الإسلام والإيمان) و(فقه المرأة) و(تجفيف منابع الإرهاب) ثم (القصص القرآني).

في كتابه الأول (الكتاب والقرآن.. قراءة معاصرة) سعى إلى فض الاشتباك في فهم المصطلح القرآني: الكتاب والذكر والفرقان والقرآن، والسبع المثاني، وتحدث عن النبوة والرسالة والإنزال والتنزيل وإعجاز القرآن وتأويله وجدل الكون والإنسان، ونظرية المعرفة الإنسانية، وأم الكتاب والسنة والفقه، وطرح عشرات القضايا التي لا تزال تثير علامات الاستفهام والإعجاب والتعجب، في سياق الاجتهاد الذي نفتقر إليه.

وفي الكتاب الثاني (دراسات إسلامية معاصرة.. في الدولة والمجتمع) طرح مفاهيم جديدة للأسرة والأمة والقومية والشعب والثورة والحرية والديمقراطية والدولة والاستبداد والجهاد في رحاب الفهم الإسلامي والاجتهاد المستنير..

وفي كتابه الثالث (الإسلام والإيمان.. منظومة القيم) شغلته منظومة القيم هذه وقدم رؤى مغايرة لأركان الإسلام والإيمان والشهادة والشهيد والإسلام والسياسة، وغير ذلك من المفاهيم داعيا إلى إعادة اكتشاف منظومة القيم على بينات جديدة.

وفي كتابه الرابع (تجفيف منابع الإرهاب) يثير مواضيع ذات حساسية تلعب دورا أساسيا في صياغة قناعات العنف تحت عنوان الجهاد والقتال والشهادة، وهل هناك شيء اسمه عمليات استشهادية؟ أم هي بدعة على الثقافة الإسلامية؟ هذه المواضيع هي الولاء والبراء والرِّدّة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاصد الشريعة التي تضمنها هذا الكتاب الذي حاول فيه الدكتور محمد شحرور إلقاء الضوء على هذه المواضيع مجتمعة، لا كلٍّ على حدة.

وفي كتابه الخامس (القصص القرآني) يقدم تحليلا جديدا وعلميا لقصص الأنبياء، إذ يستهلّ المجلّد الأول بمقدّمة أساسية تطرح فلسفة للتاريخ من خلال قراءة القصص القرآني بمنهجيّة علمية توظّف المعارف المستجدّة في مجال العلوم الأنثروبولوجية والآثارية، ويصل إلى نتائج تنفي التناقض بين القرآن والعلم، مخرجا القصص من إطار السرد التاريخي إلى آفاق إنسانية ومعرفية، ويفكّك المؤلّف العقلية التراثية التي تعاملت مع القصص، وينتقد اعتمادها على الأساطير البابلية والتوراتية وتغييبها لمبدأ البحث والسير في الأرض كمنطلق رئيسي في فهم التاريخ، ويتابع المؤلّف في الجزء الثاني منه السير على طريق النبوات ليرى كيف تراكمت علوم النبوة ومعارفها، وكيف اكتشف الإنسان النار ودفن الموتى، ثم كيف تعلّم على يد نوح اجتياز الحواجز المائية، وعلى يد شعيب الوفاء بالكيل والميزان، وعلى يد يوسف ادخار محاصيل مواسم الخير لأيام القحط، ويتابع السير على طريق الرسالات ليرى كيف تنوّعت الشرائع وتطوّرت من شرائع حدية إلى شرائع حدودية، مع ميل واضح إلى التسهيل والتخفيف؛ وكيف اختلفت الشعائر، من حيث الشكل، في صورتها التعبدية. فالصوم كان صوما عن الكلام مطلقا، وصار صوما عن الطعام والشراب وملامسة النساء واجتناب الكلام البذيء والفاحش، والصلاة كانت دعاءً وذكرا، ثم أخذت شكلا شعائريا قياما وقعودا وركوعا وسجودا يشترط فيها الخشوع.

وفي كتابه السادس (السنة الرسولية والسنّة النبويّة: رؤية جديدة) يقدّم المؤلف قراءة معاصرة للسنّة بشقّيها: الرسولية والنبوية، بديلا للمفهوم التراثي لها، الذي يفيد الاتباع والقدوة والأسوة والطاعة.. ويفصّل المقامات المحمدية الثلاثة: الرسول  النبي - الإنسان. كما يقرأ مفاهيم العصمة والمعجزات وعلم الغيب والشفاعة، ونقد مفهوم الشافعي للسنّة، وكذلك مفهوم عدالة الصحابة.

وفي كتابه السابع (الدين والسلطة.. قراءة معاصرة للحاكمية) يتناول الباحث جدلية العلاقة بين الدين والسلطة، انطلاقا من مفهوم الحاكمية، مستعرضا مراحل تطوّر هذا المفهوم بدءا من الكتب الفقهية التراثية، مرورا بالإسلام السياسي المعاصر، وصولاً إلى الحركات السلفية الجهادية، ويقدّم مفهومه المعاصر للحاكمية الإلهية التي يرى أنها تمثّل الميثاق العالمي الذي يمكن من خلاله تحقيق السلام في العالم. والولاء له هو ولاء للقيم الإنسانية، ويتجسّد من خلال احترامه لهذه القيم وتمسّكه بها والدفاع عنها من منطلق قناعة شخصية مبنية على الانقياد الطوعي للحاكمية الإلهية. ويرى أن هذا الولاء الديني الإنساني هو الرادع لكل من تسوّل له نفسه ممارسة الطغيان على الناس لسلبهم حرّياتهم، وهو الذي يمكنه أن يحقّق السلام العالمي الذي يحثّ عليه الدين الإسلامي.
ويتابع شحرور في هذا الكتاب مشروعه النقدي التحديثي للفكر الإسلامي، مضيفا لبنة جديدة إلى المنهج الذي يسعى من خلاله إلى إبراز عالمية وإنسانية الإسلام بوصفه رسالةً رحمانية، لا عقيدةً طاغوتية.

وفي كتابه الأخير والثامن (أمُّ الكتاب وتفصيلها.. قراءة معاصرة في الحاكمية الإنسانية) يتابع الدكتور محمد شحرور في كتابه هذا قراءته المعاصرة للتنزيل الحكيم، وذلك من خلال تطبيق منهجه على موضوع المحكم والمتشابه، متتبعا المفاهيم التي تحملها هذه الآيات حول هذين المصطلحين، وما يرتبط بهما من مواضيع ذات علاقة كالتأويل والاجتهاد، ويقدّم المؤلّف دراسة معاصرة لعملية الاجتهاد في نصوص التنزيل الحكيم، انطلاقا من نسخ كل الاجتهادات الإنسانية السابقة في تفصيل المحكم من هذه النصوص، وإعادة الاجتهاد فيه بروح معاصرة، بعيدا عن القراءة التراثية الأحادية الملزمة وراثيا. تلك القراءة التي أوقفت التاريخ وصيرورته عند لحظة معينة، مما جعل الثقافة العربية الإسلامية هشة ضعيفة يستحيل صمودها أمام ثقافات الدول الأخرى المتطورة إلا بممارسة العنف، من خلال قطع الرؤوس والرجم والجلد، لإثبات وجودها.

ثبات النص ونسبية الفهم

ينطلق الدكتور محمد شحرور في أطروحته التأويلية هذه، من الجزء الأخير من الآية السابعة من سورة آل عمران:

(فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب).

إن أم الكتاب هي الكتاب المحكم وهي رسالة سيدنا محمد، وإن القرآن والسبع المثاني هما المتشابه، وهو نبوة محمد، ومع تفصيل الكتاب، وبما أن النبوة فيها قوانين الحق والباطل تنطبق على كل إنسان، شاء أم أبى، وجاءت بصيغة متشابهة «تغير المحتوى وثبات النص ونسبية الفهم». لذا قال: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) حيث إن القرآن (هدى للناس) والكتاب (هدى للمتقين).

فمثلا إذا قلنا لأكبر ملحد في العالم: إن هذا الكون مبني على جدل داخلي يقوم على صراع تناقضي في اتجاه واحد بين عنصرين مكونين لكل شيء مادي (مخلق وغير مخلق) (صنوان وغير صنوان)، وعلى جدل خارجي هو جدل تلاؤم الزوجين (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (الذاريات 94). فسيكون جوابه بالإيجاب مباشرة، فإذا قلنا: هذا القانون العام الكوني هو من القرآن، فيقول: لا مانع، وإذا قلنا: جاء هذا القانون من الله تصديقا لأحكام أم الكتاب من صوم وصلاة وعبادات وأحكام.. إلخ والتي جاءت من الله أيضا. فعندئذ سيقول: كلا، أنا أقبل بهذا القانون، ولكن لا أقبل بالصوم. وهنا بيت القصيد في قوله: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) فأحد معاني الزيغ في اللسان العربي هو النقصان، فإذا أعطينا زيدا مئة تفاحة وزاغ في العد فهذا يعني أنه عدها أقل من مئة، وإذا عدها أكثر من مئة فإنه طغى في العد، وقد وضع الله سبحانه وتعالى الزيغ والطغيان من المتضادات بقوله: (ما زاغ البصر وما طغى) (النجم 71). بذلك يصبح المعنى في منظور الباحث أن الذين يقبلون القرآن ويتبعونه لأنه قوانين موضوعية، ولا يقبلون اتباع أم الكتاب (رسالة محمد) هم ذوو عقول ناقصة لأنهم رفضوا أم الكتاب. لماذا؟ لأن الذي يؤول القرآن ويستنتج منه النظريات والقوانين العلمية والتاريخية ويطبقها لأنها أساس التقدم العلمي والتكنولوجي يفتن الناس، وكلنا يعلم مدى فتنة الناس بالصعود إلى القمر وبالكمبيوتر والتليفزيون، إذ إن الذين تمكنوا من الصعود إلى القمر واختراع الكمبيوتر وصناعته تمكنوا من فتنة الناس.. وهذا ما حصل فعلا.

 

(وللحديث بقية...)،،،،

@@@@@@@@@@

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على