بيرم العظيم يدافع عن ليليان

حوالي ٩ سنوات فى التحرير

فى أخريات النصف الأول من القرن الماضى قام الملك فؤاد بإصدار مرسوم ملكى بنفى الشاعر العظيم بيرم التونسى كشخص غير مرغوب فى وجوده بالبلاد لاهتمامه بالقضية الوطنية، فدافع عنه الضمير المصرى بكل أطيافه، ولم يتهمه أحد بالخيانة أو يتهكم عليه، قائلاً لماذا لا يعود إلى بلاده ويهتم بشؤونها ويتركنا لنحل مشكلاتنا بأنفسنا؟ بعدها بأكثر من عقدين من الزمان تم منح الجنسية المصرية لبيرم التونسى فى عهد الجمهورية وتتويجه بلقب شاعر الشعب المصرى.

ليليان داوود لا تنتظر حكمًا من القضاء بمصريتها مثل تيران وصنافير، فمصر أنضج وأعقل من أن يفرض أحد وصايته عليها باعتبارها مراهقة يختار لها من يحبها ويشترط عليه أن يعاملها معاملة الأطفال، ويتغزل فى عيوبها ونقائصها لكى يسمح له بالوجود فى رحابها. من الذى يقول إن مصر تشترط على غير المصريين أن يكونوا كاذبين لكى تقبل حبهم لها؟ وما الذى يمنع أن تحب مصر وأن تكون موضوعيًّا ومحايدًا فى عرض قضاياها وغير مصرى فى نفس الوقت؟

الحب يدفعك لشرح ما يلتبس على محبوبتك لكى تساعدها على فهم مشكلاتها وحلها، لا إلى الكذب عليها. أما البرامج التليفزيونية التى تنطع مذيعوها وتمطعوا وأقسموا بأغلظ الأيمان أن التفريعة الجديدة لقناة السويس ستدر دخلاً بمئات المليارات من الدولارات فى المدى المنظور، فلم يتهمهم أحد بالكذب على مصر، ولم يشكك أحد فى حبهم لها رغم مصارحة رئيس الجمهورية للشعب منذ أسابيع بأن مشروع القناة لم يتم لجدواه الاقتصادية بل لرفع الروح المعنوية للمصريين. أما الذين استضافوا الخبراء على شاشاتهم ليناقشوا بهدوء وموضوعية أهمية توجيه مليارات المصريين لمشاريع مدروسة تسهم فى صناعة تنمية عاجلة فقد تم اتهامهم بخيانة مصر وكرهها!

القضايا الشائكة التى يتناولها أصحاب دكاكين التوك شو الساخنة الذين لا يهدفون سوى للتهييج والإثارة لزيادة نسب المشاهدة وجلب المعلنين لا يتهمهم أحد بالتلاعب بمصر لتحقيق مصالحهم المادية الرخيصة، بينما يتم توجيه اتهامات العداء والخيانة لمن يحاولون بمهنية إتاحة الفرصة للرأى ونقيضه للدخول فى حوارات موضوعية تفك طلاسم الأحداث. كأنما حب الوطن صار قرينًا للكذب والإثارة الفارغة و"فضيلة" الاستماع بلا نقاش لأوامر تصدر من جهات تحتكر الوطنية وترى كل من يختلف معها خائنًا.

هنيئًا لنا فلن يبقى على الشاشات سوى البرامج التليفزيونية التى اعتاد أصحابها ومقدموها منذ ثورة يناير على تأييد أو معارضة الأشخاص والتيارات السياسية المختلفة بأوامر عليا تصدر لهم تليفونيًّا لتوجيه الرأى العام بكلمات مطاطة مرسلة، تعتمد على الغوغائية والجهل وضرب الودع والأكاذيب. مثلما صرخت مذيعة على الهواء من قبل، فى ذروة مأساة مذبحة ماسبيرو، لتحث أبناء البلد العزل للدفاع عن قواتهم المسلحة، لأن المسيحيين الخونة يقتلون الجيش! بعدها لم يفسر أحد للبسطاء لماذا عادى المسيحيون الخونة الجيش فى ماسبيرو، كما زعموا، ثم خرجوا ليناصروه فى الثلاثين من يونيو؟ ولماذا لم يحتموا به لينصفهم من السلفيين الذين أحرقوا كنائسهم مثلما احتموا به لينقذهم من الإخوان بعدها بعامين؟

أما البرامج الأخرى التى وضع أصحابها على عاتقهم مهمة إلقاء الضوء على الأحداث وإيضاحها واحترام عقول المشاهدين بتقديم تحليل علمى هادئ يتناول الأحداث والمواقف والخطط السياسية للأشخاص والأحزاب والقوى المختلفة فى إطار من الموضوعية، والحرص على تقديم الرأى والرأى الآخر، والسعى خلف الحقيقة بأكبر قدر ممكن من التجرد.. فلن تصبح للأسف سوى مجرد ذكرى.

المطلوب بالطبع أن يسير جميع الإعلاميين على خطى زميلهم أحمد موسى الذى أذاع لعبة فيديو فى برنامجه باعتبارها فيلمًا واقعيًّا لضربات جوية قامت بها الطائرات الروسية لقصف معاقل تنظيم داعش فى سوريا، لكى يقنع الرأى العام كذبًا بأن الروس لا يمزحون فى القتال لأنهم يكرهون الإرهابيين، ولا يؤيدونهم مثل الأمريكان المتأخونين! لكن فى الغد القريب، بعد أن يصبح التقارب الروسى التركى حقيقة واقعة، لا تتعجب عندما يخرج علينا نفس المذيع صارخًا ليحذرنا من غدر الروس الملاعين الذين يرتمون بلا خجل فى أحضان إخوان أردوغان الإرهابيين!

هؤلاء إعلاميون لا يهتم أحدهم بالقيام بأى محاولة جادة محترمة لشرح وتفسير مواقف القوى العظمى من الصراعات فى العالم لأنهم خدم لأية سلطة، ولا يعنيهم سوى أن يتخذوا من أى قضية، بمكالمة تليفونية واحدة، موقفًا موجهًا سابق التجهيز يعتمد على التهريج والترويج لأكاذيب كوميدية من نوع: قيام مهاب مميش بالقبض على قائد الأسطول السادس الأمريكى، أو على شاكلة: منع وزير الخارجية جون كيرى من إلقاء قنبلة نووية فى قناة السويس الجديدة فى إطار مقاومتنا الباسلة للمؤامرة الأمريكية التى تهدف لتركيعنا، والتى يدبرها ضدنا مجلس قيادة العالم! دون أن يكلف خاطره ويشرح لنا لماذا لا تتوقف حكومتنا عن قبول المنح والمعونات السنوية المهينة التى تحصل عليها ممن يتآمرون ضدها؟

المحترمون لا يحتاجون إلى من يدافع عنهم، فالتاريخ الذى أنصف بيرم سينصف غيره ولن يدفع الثمن سوى المخدوعين الذين يهنؤون بالعيش فى ظلال الأكاذيب. 

شارك الخبر على