أردوغان.. وبرجماتية الإخوان الفاضِحة!
about 9 years in التحرير
تمكَّن أردوغان من فرض رؤيته وأسلوبه على المناخ العام فى تركيا، حتى وهو يتذبذب يمينًا وشمالًا، ويُغيِّر سياساته من جهة إلى نقيضها! برغم أن كل هذا يتعارض مع شعاراته عن دولة الحداثة، كما أنه يخرج على تعهداته الديمقراطية مع الاتحاد الأوروبى، وعلى الأخص انتهاكه لأهم القواعد الأوروبية التى تحمى حريات الفكر والرأى والتعبير والصحافة والتظاهر، حتى أنه يحيل صحفيين إلى القضاء فى دعاوى تتعلق بممارستهم لحرية التعبير، ويظل يعاند ضد المعارضين، مثلما حدث مع رئيس تحرير جريدة "جمهويات" العام الماضى لنشره تقريرًا عن مساعدة حكومته على تهريب السلاح لسوريا.
بل إنه يلاحق مواطنين أوروبيين داخل الاتحاد الأوروبى لأنهم استخدموا الحريات الراسخة لديهم، وسخروا منه شخصيًا بشكل كاريكاتورى، مثلما حدث ضد أحد المغنيين فى ألمانيا!
الواضح، من الأخبار والتقارير المتواترة على صفحات الصحف السيارة مما يدخل فى باب العلم العام، أنه يتلبسه كابوس الأكراد، وأنه يراهم العدو الأول له ولتصوراته عن تركيا، وهو يطاردهم داخل تركيا وخارجها فى العراق وسوريا، ويرى مبررات للتعاون والتحالف مع من يعاديهم أيًا ما كان، ومن هنا كانت سقطته الكبرى فيما لم تُعرَف تفاصيله الدقيقة بعد، عن مساعدته لتنظيم داعش الذى نال سمعة أسوأ تنظيم إرهابى فى العصر الحديث!
وبرغم إنكاره الرسمى إلا أن الحقيقة صارت أوضح من إخفائها، حتى إنها صارت موضوعًا لبحث أكاديمى فى جامعة كبرى مثل جامعة كولومبيا الأمريكية، حيث خلُص الباحث إلى أن تركيا تساعد داعش فى معاركه ضد الأكراد، وضد الحكومة السورية التى تعارضها! (وليت باحثًا متخصصًا يقوم بترجمة هذا البحث أو أن يُقدِّم له عرضًا وافيأً لإفادة عموم القراء).
هذا الاندفاع غير المحسوب وصل به إلى تعريض البلاد إلى جرائم داعشية رهيبة كان آخرها قبل أيام الهجوم الإرهابى الدامى على مطار أتاتورك ووقوع ضحايا أكثر من 40، وأعداد أخرى من الجرحى منهم حالات خطيرة مهددة بالموت! وقبلها فى أكتوبر الماضى كانت جريمتهم فى أنقرة التى راح فيها 103 قتلى! والتى قيل عنها إنها أسوأ عملية قتل فى تاريخ تركيا الحديث.
ولقد غاب عن إدراك أردوغان فى تحالفه مع داعش، أن الاتفاق يجرى مع زعامات التنظيم، وأما قواعد داعش فهى بعيدة عن معرفة الالتزامات، ثم أنهم يصدقون قادتهم الذين ينكرون أيضًا أن هناك تحالفًا، ويتحرك هؤلاء الإرهابيون فى آلية تسمح لهم بتنفيذ بعض العمليات وفق رؤيتهم، فحدث ما حدث، وما يمكن أن يتكرر فى المستقبل!
الكذب والإخفاء والتمويه والمناورة هى للحقيقة نهج إخوانى بامتياز، وهى تتجلى فى أردوغان كإخوانى عتيد، تُضاف صفة أخرى هى سرعة الانقلاب من اختيار إلى آخر، وقد يتضادان، دون أدنى إحساس بالتناقض، ودون أن يلتزموا بضرورة الشرح لكوادرهم وقواعدهم، ما دام أنهم جميعًا قد تربوا على السمع والطاعة!
ولكن الأمر مختلف فيما يخصّ حق الرأى العام فى المعرفة، وهو ما يبدو أن الإخوان لم يطوروا مهاراتهم بخصوصه، ربما بسبب طول السنوات فى العمل السرى الذى كان يجرى بمعزل عن الجماهير، أو على الأقل مع إخفاء الهوية الفكرية والتنظيمية التى كانت ملاحقة من أجهزة الأمن.
أما انقلابات أردوغان الأخيرة، وفقط فى الأيام الأخيرة، فهى أنه تحوَّل دون سوابق مبرِّرة إلى المرونة الشديدة بعد طول تشدد مع كل من روسيا وإسرائيل، برغم اختلاف الأزمة مع كل منهما! فقدَّم لروسيا اعتذارًا رسميًا عن إسقاط قواته لطائرتها فوق سوريا، بعد طول إنكاره لأى خطأ من جانب قواته، بل مع أنه كان يُصرّ على اتهام الروس بأنهم يتعمدون اختراق حدود بلاده واستفزاز جيشه! والثانى، تصفية خلافه الذى نفخ فيه كثيرًا ضد إسرائيل، أيضًا بعد سنوات من خطاب مشحون بالرفض لسياسة إسرائيل وإعلان تعاطفه مع الفلسطينيين، منذ واقعة سفينة مرمرة التى كانت مبحِرة للتضامن مع الفلسطينيين فى غزة، فاعترضتها إسرائيل فى البحر المتوسط، وقتلت عددًا من ركابها وسحبت السفينة إلى ميناء إسرائيلى فى استعراض مهين لأردوغان شخصيًا الذى ظل يهتف ضد إسرائيل منذ هذه الواقعة قبل 6 سنوات وحتى لقائه مع نتينياهو قبل أيام فى روما واتفاقهما معًا على التطبيع، مع قبول التعويضات الإسرائيلية. إلخ
لاحظ أن الإخوان يحرصون دائمًا على تخصيص خطاب مفصل على المقاس إلى البسطاء، سواء فى مصر أو تركيا أو غيرهما، دائمًا هناك عبارات صارت محفوظة عن الدفاع عن الإسلام وعن العداء لإسرائيل، ليس لكونها إسرائيل المحتلة للأرض والمعتدية على الحقوق، وإنما لأنها تضم يهودًا، وأن اليهود أعداء الله. إلخ. وبالتوازى مع خطاب الديماجوجية الذى يُراد له أن يبدو مبدئيًا، هناك المساعى السياسية البراجماتية التى لا تتوافق مع هذا الخطاب إلا بالصدفة غير المخططة، وإلا فلا يهم أن تكون هنالك تناقضات ظاهرة، فهذه تحلها قاعدة السمع والطاعة، وأن ذاكرة الجماهير ضعيفة!
وهكذا، وفى مرة واحدة، سوّى أردوغان خلافاته الكبيرة التى كان يعمد إلى تصعيدها بنفسه طوال سنوات، وانتقل برشاقة من موقف حاد متشدد إلى موقف شديد اللين مع كل من روسيا وإسرائيل!
كان ينقصه فقط تسوية خلافه المختلَق ضد مصر، ولو كان أبدى ذكاء فى محاولة المصالحة مع مصر، لكان تحول بنسبة 180 درجة عما كان عليه قبل سنوات قليلة!
أما موقفه من داعش، حيث انقلب عليهم مؤخرًا، بعد أن وصل معهم إلى أبعاد تدعو إلى الدهشة، فى استقبال مقاتليهم من عبر العالم، والإشراف على نقلهم إلى سوريا، ومدهم بالخدمات اللوجيستية، وأراض يتدربون عليها، وقيل عن مستشفيات يتلقون فيها العلاج من جروج عملياتهم الإرهابية. وقبل كل هذا، شراء البترول الذى يهربونه من الموصل عبر ميناء جيهان التركى، وتمويلهم بمقابل الشراء بالعملات الصعبة. إلخ
فها هى بوادر انقلاب ضد داعش! بل وإعلان المشاركة ضدهم فى طلعات العمليات التى تقودها أمريكا، والتى ما كان يمكن أن تتم إلا بعد أن أثبتت روسيا إصرارها على محاربة داعش الذى صار منبع الإرهابيين داخل الأراضى الروسية.
وهو ما تلقفه أردوغان لإرضاء روسيا وفق سياسته المستجدة معهم، بإبداء حماسته لضرب داعش العدو الروسى فى هذه المرحلة.
لقد أثبت أردوغان أن الأصيل فيه هو النزوع للاستمرار فى الحكم باستغلال ما يُتاح له من أوراق، أى أوراق. وأما كلامه عن المواقف المبدئية فهو مجرد كلام!