ليليان اتطردت يا رجالة

حوالي ٩ سنوات فى التحرير

تربيت على أن مصر هي "الشقيقة الكبرى" لكل العرب، وأن من يريد الانتشار في العالم العربي من كتاب وفنانين وأدباء، ومهما كانت درجة شعبيتهم في بلدهم الأم، يجب أن يمر عبر مصر بعدد سكانها الضخم، حيث الانفتاح ورحابة الصدر والتنوع. كان يقال لنا إن مصر لم ترحل في يوم معارضا لجأ لها، أو ضيفا حل على أرضها، وكم كنت أشعر بالفخر كمصري عندما ألتقي مواطنين عربا أشقاء بينما ترتسم معالم السعادة على وجوههم وهم يقولون: لقد تعلمت في مصر، أو لقد عشت أحلى أيام عمري في مصر "أم الدنيا".

أجهزتنا الأمنية أطاحت بكل هذه الأوهام في ثوان معدودة، وبحماقة وتبجح يفوقان الخيال، عندما أقدموا على ترحيل المذيعة المحترمة ليليان داوود بعد أقل من ساعتين فقط من قيامها بنشر تغريدة على حسابها الخاص على تويتر تعلن أن عقدها انتهى مع قناة "أون تي في" التي قدمت من خلالها برنامجها "الصورة الكاملة" على مدى السنوات كاملة. ومن أصدر الأوامر للملاك الجدد لـ"أون تي في" بإنهاء تعاقد ليليان، هم طبعا نفس الجهة التي طلبت منهم إبلاغهم "بتحرك الهدف" نحو منزلها لكي يتم اقتحامها وترحيلها فورا إلى موطنها الأصلي، لبنان، بعد 45 دقيقة من وصولها.

ليليان مصرية بحكم القانون، لأنها أم لفتاة مصرية تبلغ من العمر 11 عاما وكانت متزوجة بمواطن مصري. وعاشت في مصر سنوات طويلة، وتملكت في مصر، وكانت تبذل جهودا واضحة لكي تنطق المصرية العامية بطلاقة في مواجهة الغوغاء والفاشيين والأغبياء، ممن لا يستطيعون سماع أي آراء مخالفة لما يحملونه من معتقدات، ويقولون بتبجح "هي مالها، ما تخليها في لبنان بلدها".

ليليان كان لها بصمة واضحة في إعلامنا المحلي عبر برنامجها الذي كان مختلفا عن كل ما نشاهده تقريبا على شاشاتنا منذ اندلاع ثورة 25 يناير والإطاحة بحكم المخلوع مبارك. وحتى عندما كان لدينا تنوع واسع في وسائل الإعلام ومحطات التليفزيون والصحف والبرامج الحوارية خلال أول عامين بعد الثورة، كان "الصورة الكاملة" يسعى بالفعل إلى تغطية التفاصيل الخاصة بالموضوع الذي تتناوله ليليان من كل الزوايا والجوانب، وبطريقة كنا نفتقدها في البرامج المماثلة التي كانت تقوم على الرأي الواحد، الذي يعكس بالطبع مواقف مقدم البرنامج أو الجهة التي تدعمه، والزعيق والصراخ.

ليليان كانت هادئة ومتزنة في أسلوب عملها، وذلك لانتمائها لمدرسة عريقة في الصحافة بحكم عملها لسنوات طويلة في هيئة الإذاعة البريطانية، الـ"بي بي سي"، وتقوم على أن لكل قصة عدة جوانب، ولكل قضية مؤيدين ومعارضين، وأنه لا توجد وجهة نظر واحدة صائبة فقط. كما أن مدرستها الصحفية تؤمن بأن دور الإعلام هو تقديم أكبر كم ممكن من المعلومات ذات المصداقية والمدققة للمشاهدين، لكي يقرروا هم بعد ذلك الموقف الذي سيتخذونه من القضية المطروحة، وهو ما نختصره في مصطلحات الموضوعية والحياد.  

ولا شك أن ليليان أدركت سريعا وشعرت بالتوجيهات الرسمية التي طغت على المشهد الإعلامي بعد 30 يونيو، وأكثر بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي لمنصب رئاسة الجمهورية، والتي تقوم أنه لا مجال الآن سوى لإعلام الصوت الواحد، إعلام الحشد والتعبئة. فمن وجهة نظر القائمين على الأجهزة الأمنية وصناع القرار "والجهات السيادية" التي أمرت بترحيل ليليان عنوة، بل وبملابس المنزل وبشكل فظ أمام طفلتها الصغيرة مما أصابها بالرعب، فإن تنوع وتعدد الآراء والموضوعية والحياد وكل هذه المبادئ هي رفاهية لا نستطيع تحملها في ظل المعركة المتواصلة التي نخوضها ضد الإرهاب، ولكي لا تتحول مصر إلى سوريا والعراق.

وكما نعلم فالإعلام، وكما قال السيد الرئيس، يحتاج إلى "مايسترو" يوجه ويحدد ما يقال وما لا يجب أن يقال في الإعلام، وهو ما تأسف لعدم إمكانية القيام به في ضوء إلغاء الدستور لمنصب وزارة الإعلام. ولكن من قال إننا بحاجة إلى وزارة إعلام؟ فما تقوم به الوزارة يمكن أن تقوم به إدارة الشئون المعنوية في القوات المسلحة وإدارة الإعلام بوزارة الداخلية، وذلك لكي تنال شهادة "الإعلامي الوطني." وكل ما هو مطلوب من الصحفي أو مقدم البرامج في التليفزيون هو أن يتلقى البيانات والتوجيهات على طريقة "بتكتب يا أحمد،" ثم يقوم بإعادة قراءتها بطلعته البهية أمام الكاميرات، وهذا هو مفهوم الإعلام المسئول.

طبعا مهنية ليليان لم تكن تسمح لها بالاشتراك في هذه المهزلة، ولذلك كان الجميع يتوقع إنهاء تعاقدها مع "أون تي في" بعد أن اشتراها رجل الأعمال المسئول عن تمويل حزب "مستقبل وطن" المجهول،  الذي استطاع تحقيق معجزة غير مسبوقة بالحصول على عدد من المقاعد في البرلمان يفوق ما حصلت عليه أحزاب يقترب تاريخها من مائة عام.

ولكن ما لم يكن متوقعا، ويسيء لسمعة النظام قبل أي طرف آخر، هو التعامل بكل هذه القسوة والعنف من أجل إبعاد ليليان عن بلدها، عن مصر. نظامنا أراد أن يبعث برسالة واضحة للجميع في الداخل والخارج أنه لديه من البطش ما يكفي لكي يقوم بما يريد دون أي خشية من العواقب أو ردود الأفعال.

كنا نضحك عندما نستمع لـ"مرسي الزناتي" في مسرحية "مدرسة المشاغبين" وهو يقول أن الـ"بي بي سي" أذاعت نبأ هزيمته في معركة شارع، وأن الراديو اهتز بينما يعلن المذيع "مرسي الزناتي اتهزم يا رجالة." الآن الـ"بي بي سي" تذيع "ليليان اتطردت يا رجالة" صباح مساء وهناك حملة تضامن واسعة مع ليليان. ولكن هذه الفضيحة لن تحرك ساكنا لدى "الجهات السيادية" التي أمرت بترحيلها، فنحن الآن في جمهورية مصر الشمالية، ونتخذ من كيم إيل سونج نموذجا وقدوة. آسفين يا ليليان. 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على