ترامب يفجر المشهدين الإقليمي والدولي.. ومصير قطر وتركيا على المحك

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

كانت، وما زالت الحملات الإعلامية الموجهة ضد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تشكل أكبر خدعة للرأي العام العالمي. وكلمة "أكبر" هنا تعني أن الأمر والقضية والوضع في غاية الأهمية والخطورة.

عندما تحدثنا في السابق عن تلك الخدعة، تم التعامل مع الطروحات التي قدَّمناها باستخفاف، استنادا إلى الحملات الإعلامية قبل وبعد تولي ترامب مقاليد السلطة في البيت الأبيض. ولكن كل الشواهد تؤكد العديد من هذه الطروحات، وعلى رأسها سياسة "فك الارتباط" التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية الجديدة. هذه السياسة تعني بالدرجة الأولي تفكيك الارتباطات بين تركيا وروسيا من جهة، وبين روسيا وإيران من جهة أخرى، وبين إيران وتركيا من جهة ثالثة. إضافة إلى تفكيك الارتباط بين تركيا ومنطقة الخليج. هذه السياسة، وإن كانت تنعكس في مستوياتها الأولى على ما يجري في سوريا والعراق وليبيا، فإنها في مستويات أعمق تتعلق بخريطة العلاقات الإقليمية والدولية، وبدور الولايات المتحدة "الترامبية".

لقد كانت زيارة ترامب إلى الرياض (حيث تم عقد 3 قمم: قمة أمريكية - سعودية، وقمة أمريكية - خليجية، وقمة أمريكية - عربية - إسلامية) هي نهاية الطرح النظري لسياسة "فك الارتباط" وتنفيذها عمليا على أرض الواقع. إذ بدأت العلاقات تتصدع في العديد من المحاور الشكلية - الوهمية (المحور الروسي - الإيراني - التركي)، وفي العلاقات بين الدول (تركيا والسعودية، وقطر ودول مجلس التعاون الخليجي). وهناك أمثلة كثيرة أخرى. وفي المقابل محاولة الشروع في بناء علاقات جديدة (بين قطر وتركيا، وبين قطر وإيران، وبين قطر وروسيا) بعضها كان موجودا ويمكن تطويره، وبعضها الآخر كان هشا وهزيلا ويمكن تعزيزه.

لم يتوجه الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الرياض للمشاركة في القمة "العربية - الإسلامية - الأمريكية" نتيجة الخلافات ليس فقط بين تركيا والولايات المتحدة، بل وأيضا نتيجة الخلافات الحادة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ويمكن أن نضيف هنا، الخلافات بين تركيا والمملكة العربية السعودية من جهة، وبين الأولى ومصر من جهة أخرى. ويبدو أن واشنطن كانت تعرف ذلك جيدا، وحريصة على تحقيقه، لأنه يعني ببساطة عزل تركيا عن منطقة الخليج، حتى وإن كان ذلك بشكل غير كامل. المهم هو دق الإسفين، وبعد ذلك سيلعب الوقت دوره في تعميق الشروخ وتوسيع الهوة.

وفي نفس هذا السياق، العمل على توسيع الهوة بين روسيا وإيران، بإجراء مباحثات بين موسكو وواشنطن بشأن الترتيب لمنطقة "خفض توتر" في جنوب غرب سوريا، واستثمار التفاهمات الروسية - الإسرائيلية العلنية والسرية بهذا الصدد. وهذا الأمر يخص تركيا أيضا، وهي التي تحاول قدر الإمكان عدم ترك أي مساحات خالية، والحرص على أداء دور قيادي ضمن اللاعبين الرئيسيين، سواء بتفاهماتها مع إسرائيل أو بمناوراتها مع كل من روسيا وإيران.

الأمر الثالث، هو تفجير صيغة "أستانا" حول تسوية الأزمة السورية، وتوسيع المسافات بين الضامنين الثلاثة (روسيا وتركيا وإيران). وهو ما جرى بالفعل، إذ تم تأجيل مباحثات "أستانا - 5" من 12 و13 يونيو الحالي إلى 20 يونيو، ثم إلى 4 و5 يوليو المقبل. وبعد ذلك ظهرت معلومات بإمكانية التأجيل إلى أجل غير مسمى بسبب ليس فقط رفض المعارضة السورية المسلحة الدور والوجود الإيرانيين في أستانا وفي سوريا على حد سواء، واحتجاجها على فشل روسيا في تنفيذ وعودها بالنسبة لتحجيم إيران وميليشياتها في سوريا والضغط على نظام الأسد، بل وأيضا بسبب الخلافات بين تركيا وإيران على دور كل منهما، وعلى رؤيتهما لدور بشار الأسد وشكل الحكم في دمشق. هذا إضافة إلى الخلافات بين روسيا وكل من إيران وتركيا أيضا بسبب الأزمة السورية وطرق وآليات مقررات "أستانا 4"، ووضع بشار الأسد، ومستقبل الحكم في سوريا.

تركيا الآن تكاد تكون معزولة: علاقات متناقضة ومصالح متضاربة مع روسيا وإيران، خلافات حادة مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، خلاف أكثر حدة مع الولايات المتحدة، اتساع الهوة بينها وبين السعودية وبقية دول الخليج (عدا قطر)، وخلافات متفاقمة مع مصر. وهذا يعني أن دور نظام رجب طيب أردوغان قادم لا محالة، وينبغي حصاره جيدا إلى أن يحين وقته، لأنه ببساطة ارتكب أخطاء فادحة بحق الجميع، بما في ذلك بحق روسيا التي تتعامل معه في أطر محددة بسبب ظروفها السيئة والعقوبات الموجهة ضدها من جهة، وبسبب انعدام الثقة والمصالح المتفاوتة والخلافات الجوهرية حول سوريا وحول دور كل من موسكو وأنقرة إقليميا ودوليا من جهة أخرى.

إن قطر في هذا السياق، تحاول اللعب بنفس أدوات تركيا، ولكن حتى الثراء في مجالات المال والاستثمار والغاز والنفط، لا يمكنه أن يؤهل الدوحة للعب دور إقليمي ودولي فعَّال. وبالتالي، فقطر قد تصبح ألعوبة في يد تركيا وروسيا وإيران لفترة محددة، إلى أن تحترق ورقتها، ويتم الانتقال إلى مشهد سياسي إقليمي ودولي جديد. في هذا الوقت لن تكون قطر كما كانت عليه قبل أزمتها مع دول الخليج، وقبل أن تتلاعب بها أنقرة وطهران وموسكو. ستكون الأمور مختلفة كثيرا في الدوحة، حتى وإن عادت العلاقات جزئيا مع دول الخليج.

لقد جاء ترامب ليغير قواعد اللعبة التي لا يمكن أن تستمر وفق القوانين القديمة، سواء في الداخل الأمريكي أو في الخارج الكبير الذي تعتبره الولايات المتحدة مناطق نفوذ لها. فعلى مستوى الداخل، لن يتم السير وفق "روشتة" باراك أوباما من حيث ضرورة الحفاظ على نفوذ الكتل القديمة في الداخل الأمريكي، وعلى بناء عالمي قديم يتناسب مع تفكير أوباما وأمثاله ممن يشكلون الكتل التقليدية في المجتمع الأمريكي، لأن ترامب جاء ببساطة ليهز هذا البناء القديم، في خطوات تستجيب لتطلعات قطاعات يجري تهميشها وإهمالها وتجاهلها في الداخل الأمريكي من جهة، وقطاعات مماثلة في الدول الأخرى أيضا.

وهذه التحولات "الترامبية" مرهونة بعامل الزمن وبتوازن القوى في الداخل الأمريكي، وفي الساحة الدولية ككل. كما أنها لا تعني أبدا أن يصبح ترامب "تاجر العقارات" العابر للقارات نصير الفقراء والكادحين وأصحاب "الرقاب الحمراء". كل ما في الأمر أن ترامب كتاجر عقارات استطاع أن يقرأ المشهد الداخلي الأمريكي بفهم وإدراك، وأن يفهم المشهد الدولي في العديد من جوانبه وتناقضاته، ويظهر قدرة على إمكانية التعامل معه واستخدامه، وربما أيضا في إعادة تشكيله وتوجيهه.

ترامب ليس مجنونا أو متطرفا، لأنه ببساطة رئيس أكبر وأقوى "دولة - مؤسسة" في التاريخ الحديث. وقد جاء بأجندات مختلفة لا تروق للديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء. وهي أجندات تغييرات جذرية في الداخل الأمريكي وتركيبة النخب الأمريكية نفسها، وببرنامج لتغيير العالم، ورفع أمريكا إلى مستوى آخر، بصرف النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع طروحاته وسياساته وأجنداته. وربما كان نجاح ترامب، رغم كل الحملات اللي اشتعلت ضده في الداخل والخارج، يشكل جزءا من "الترامبية الأمريكية" المقبلة.

دعنا من وسائل الإعلام والخبل الذي تمارسه بشأن ترامب، وبشأن الإطاحة به أو حتى بسيناريوهات الاغتيال والمخاوف من القوى اليمينية واليمينية المتطرفة التي تدور حولها وسائل الإعلام والحملات الإعلامية - السياسية المثيرة للسخرية. إنه جاء ببساطة لتحقيق نقلة نوعية "خطيرة" وجبارة في بنية النظام العالمي الجديد، وفي منظومة العلاقات الدولية. هذه النقلة النوعية تظهر على خلفية طروحات ترامب وإدارته حول الاقتصاد عموما، والسياسات الاقتصادية الأمريكية المقبلة، وفي طريقة عمل المؤسسات الاقتصادية الأمريكية، وفي طريقة صعود ونجاح ترامب في الانتخابات، وبسبب طبيعة الفريق الذي يعمل معه وقراءتهما للوضع الداخلي الأمريكي اقتصاديا واجتماعيا. غير أن الأهم، هو طبيعة الصراع الحالي بين مفاهيم ونسق الرأسمالية الحالي، والرأسماليين وكبار طواغيت المال في أمريكا والعالم، أي أن هناك معادلة جديدة ستتم صياغتها في إطار الصراع بين الرأسمالية كمفاهيم ونسق في الوقت الراهن (كأيديولوجية)، والرأسماليين (الأفراد والشركات) الذين سبقوها (أي الرأسمالية) بخطوات كثيرة ويعملون الآن على شد هذا البناء الرأسمالي (الذي صار متخلفا عن حركتهم) أيديولوجيا وميدانيا إلى الأمام.

إن ترامب وإدارته أحد أدوات صياغة هذه المعادلة في السنوات المقبلة، بصرف النظر عن كون ترامب نفسه يدرك أبعاد هذا الدور من عدمه، وبصرف النظر أيضا عن كون ترامب شخصية "مؤدلجة" على دراية فكرية وتاريخية ومعرفية بهذا الأمر من عدمه.

إن تنفيذ وتحقيق ما تقدَّم تحديدا، بحاجة إلى تفكيك المشهد الإقليمي والدولي بمنظومة علاقاته الاقتصادية والمالية والعسكرية القديمة من جهة، وصياغة مشهد جديد للعلاقات الإقليمية والدولية بتوازنات قوى جديدة تلعب فيها الولايات المتحدة دورا رئيسيا من جهة أخرى.

شارك الخبر على