مع العارفين محمد بن سيرين

ما يقرب من ٧ سنوات فى التحرير

يعرفه الكثيرون باعتباره مفسرا للأحلام، نظرًا للسمعة الممتازة التى لحقت كتابه تفسير الأحلام، لكن ما لا يعرفه الكثيرون أن هذا التابعى بلغ شأوا بعيدا فى الفقه والورع، حتى قال عنه أحد أعلام التابعين وهو مورق العجلى "ما رأيت رجلا أفقه فى ورعه ولا أورع فى فقهه من محمد بن سيرين"، فقه بعيد مع ورع شديد لخص لنا سيرة هذا التابعى الجليل.

ولد علمنا محمد بن سيرين قبل نهاية ولاية عثمان بن عفان بعامين، ونشأ فى بيت مترع بالورع والتقوى فى كل أركانه، ولما بلغ مبالغ الصبا وجد مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يزخر بالبقية الباقية من أكارم الصحابة والتابعين، من أمثال زيد بن ثابت وأنس بن مالك وعمران بن الحصين وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وأبى هريرة، فأقبل عليهم متعلما وملازما لهم ونهل من علمهم بكتاب الله وفقههم بدينه وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فامتلأ عقله حكمة وعلما وامتلأت نفسه صلاحا وهدى، فلما انتقل إلى البصرة مع أسرته كانت المدينة يومها مدينة جديدة أسسها المسلمون فى أواخر خلافة الفاروق عمر، رضى الله عنه، وكانت مركزا من مراكز التعليم والتوجيه للوافدين إلى دين الله من أهل العراق وفارس، وهى صورة للمجتمع المسلم الجاد الذى يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدا ويعمل لأخراه كان يموت غدا، لذا فقد سلك محمد بن سيرين فى حياته الجديدة طريقين متوازيين ومتوازنين فى آن واحد، فجعل نصف يومه للعلم والعبادة والنصف الآخر للكسب والتجارة، فكان إذا طلع الصبح غدا إلى مسجد البصرة يعلم ويتعلم، حتى إذا ارتفع النهار مضى إلى السوق يشترى ويبيع، فإذا جن الليل انتصب قائما فى محراب بيته منحنيا على أجزاء القرآن بجسده وروحه، باكيًا من خشية الله حتى يشفق عليه أهله وجيرانه لما يسمعون من نحيبه الذى يقطع قلوبهم، فإذا مضى إلى السوق يطوف للبيع أو الشراء لا يفتر عن تذكير الناس بالآخرة وتبصيرهم بالدنيا وإرشادهم إلى ما يقربهم إلى ربهم، ويفصل فيما ينشأ بينهم من خلافات وكان له حضور ووقار، فكان الناس إذا رأوه فى السوق وهم غارقون غافلون انتبهوا فذكروا الله وهللوا وكبروا، وصدق رسول الله إذ يقول "إن أفضل الناس من يذكرك بالله حين تراه" هكذا كان ابن سيرين.

وصدقت مواقف فى حياته تلك الصورة التى نرسمها لها فى تلك السطور، من تلك المواقف أن رجلا ادعى عليه كذبا أن له فى ذمته درهمين، فأبى أن يعطيه إياهما فقال له الرجل أتحلف؟ وهو لا يظن أنه سيحلف من أجل درهمين، فقال نعم وحلف له فقال له الناس يا أبا بكر أتحلف من أجل درهمين؟! وأنت الذى تركت أمس أربعين ألف درهم فى شىء ارتبت فيه مما لا يرتاب فيه أحد غيرك..، فقال نعم أحلف فإنى لا أريد أن أطعمه حراما وأنا أعلم أنه حرام.

كان مجلس ابن سيرين مجلس خير وبر وموعظة فإذا ذكر عنده رجل بسيئة بادر فذكره بأحسن ما يعلم من أمره، بل إنه سمع أحدهم يسب الحجاج بن يوسف الثقفى بعد وفاته، فأقبل عليه وقال: صه يا بن أخى فإن الحجاج مضى إلى ربه، وإنك حين تقدم على الله عز وجل، ستجد أن أحقر ذنب ارتكبته فى الدنيا أشد على نفسك من أعظم ذنب اجترحه الحجاج، فلكل منهم يومئذ شأن يغنيه، واعلم أن الله عز وجل، سوف يقتص من الحجاج لمن ظلمهم، كما سيقتص للحجاج ممن يظلمونه فلا تشغلن نفسك بسب أحد بعد اليوم.

وقد كانت لمحمد بن سيرين مع ولاة بنى أمية مواقف مشهودة صدع فيها بكلمة الحق وأخلص النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين، من ذلك أن عمر بن هبيرة الفزارى رجل بنى أمية الكبير وواليهم على العراقين بعث إليه يدعوه إلى زيارته، فمضى إليه ومعه ابن أخيه فلما قدم عليه رحب به الوالى وأكرم وفادته ورفع مجلسه وسأله عن كثير من شؤون الدين والدنيا، ثم قال له كيف تركت أهل مصرك أى أهل بلدك؟ فقال تركتهم والظلم فيهم فاش وأنت عنهم لاه، فغمزه ابن أخيه بمنكبه فالتفت إليه وقال إنك لست الذى تسأل عنهم وإنما أنا الذى أسأل، وإنها لشهادة "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" فلما انفض المجلس ودعه بنفس الحفاوة التى استقبله بها، وبعث إليه بثلاثة آلاف دينار فلم يقبلها فقال له ابن أخيه ما يمنعك أن تقبل هبة الأمير، فقال إنما أعطانى لخير ظنه بى فإن كنت من أهل الخير كما ظن فما ينبغى لى أن أقبل، وإن لم أكن كما ظن فأحرى بى ألا أستبيح قبول ذلك.

ولم يسلم ابن سيرين من المحن التى يختبر بها الله عباده الصالحين، فقد اشترى فى تجارته ذات مرة زيتا بأربعين ألفا مؤجلة، فلما فتح إحدى عبوات الزيت وجد فيها فأرا ميتا متفسخا، فقال فى نفسه إن الزيت كله كان فى المعصرة فى مكان واحد وإن النجاسة ليست خاصة بهذا الوعاء دون سواه، وإنى إن رددته للبائع بالعيب فربما باعه للناس، فأراقه كله شفقة على الناس وخوفا عليهم وقد وقع ذلك فى وقت كان يعانى فيه خسارة كبيرة حلت به، فركبه الدين وطالبه صاحب الزيت بماله فلم يستطع السداد، فرفع أمره إلى الوالى فأمر بحبسه حتى يسدد ما عليه، فلما صار إلى السجن وطال فيه مكوثه أشفق عليه السجان لما يعلم من علمه وورعه وطول عبادته، فقال له أيها الشيخ إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك وبت معهم، فإذا أصبحت فعد إلىَّ واستمر على ذلك حتى يطلق سراحك، فقال له لا والله لا أفعل، فقال له السجان ولم هداك الله؟! 
فقال له: حتى لا أعاونك على خيانة ولى الأمر، كم من ولاة أمر يخونون الرعية فى يومنا هذا! فلما احتضر أنس بن مالك، رضى الله عنه، أوصى بأن يغسله محمد بن سيرين ويصلى عليه، وكان لا يزال سجينا فلم يقبل الخروج من السجن بأمر الوالى حتى يستأذنوا صاحب الدين فأذن له، فخرج فغسل أنسا وكفنه وصلى عليه ثم عاد إلى محبسه دون أن يرى أهله، وقد عمَّر حتى بلغ سبعة وسبعين عاما، فلما أتاه اليقين وجده خفيف الحمل من أعباء الدنيا كثير الزاد لما بعد الموت.

شارك الخبر على