عازر فرج ذاكرة مقهى «ريش» وروح المدينة

حوالي ٨ سنوات فى التحرير

المقاهي تشكل إحدى علامات الفضاء العام في المدن الحديثة، وأحد مراكز التفاعلات اليومية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تدور داخل بعض هذه المقاهي، ومن ثم تبدو حاملة لتاريخ المدن وتطوراتها، وذاكراتها الجماعية والمساحات الحية داخلها. بعض هذه المقاهي خصصت للكتابة التاريخية المتخصصة على نحو ما حدث في فرنسا التي تشكل بعض المقاهي -مثل الفلور وغيرها- جزءًا من تاريخ الحركات والمدارس الفكرية والفلسفية والتشكيلية والموسيقية والمسرحية والأدبية عمومًا، التي نشأت داخل بعضها، أو تطورت من خلال مجالسها بين بعض كبار المثقفين والفنانين والموسيقيين والتشكيليين، من هنا يشكل المقهى جزءًا مهمًّا من الكتابة عن هذه الحركات والمدارس والمجموعات. المقهى حامل لتواريخ ورموز وعلامات المكان وتعكس الحرية الفكرية داخلها مستويات التطور السياسي والديمقراطي داخل أي مدينة ومجتمع ودولة. من ثم المقاهي في فرنسا وباريس هي عنوان وأيقونة ورمز على الحريات العامة في فرنسا، وعلى الديمقراطية وتعاقب الجمهورية الفرنسية وتحديدًا الجمهورية الرابعة، والخامسة التي لعبت المقاهي دورًا كبيرًا في حركاتها الفكرية على تعددها، ومثلت إحدى مساحات تحرك وتفاعل أعلامها الكبار في المجال العام.

توثيق وتأريخ تطور المقاهي في فرنسا، يبدو أيسر من الكتابة التاريخية عن مقاهي القاهرة والإسكندرية، أو بيروت وطرابلس، أو بغداد، أو طنجة، وذلك لأن تاريخ نشأة وتطور بعض هذه المقاهي التي شهدت أحداثا سياسية وثقافية وارتادها عديد من السياسيين وكبار المثقفين وعوامهم، لا يزال شفاهيا ونادرة الكتابات المتخصصة عنها، سواء على مستوى السردية التاريخية، أو التحليل الثقافي أو الاجتماعي، لأن بعض هذه المقاهي كان التكوين الاجتماعي لأعضائها، يتسم بانتمائهم إلى الفئات الوسطى العليا، أو الوسطى - الوسطى، وبعضها من الوسطى - الوسطى والوسطى الدنيا، وغالبًا كان المثقفون والفنانون ينتمون إلى الفئتين الأخيرتين، والسياسيون عمومًا إلى الفئة الأولى من الوسطى العليا، وبعض الأثرياء من رجال المال والصناعة أو عناصر شبه إقطاعية في المرحلة شبه الليبرالية المصرية. في ظل نظام يوليو تغير التركيب الاجتماعي لبعض المقاهي، وبدت غالبها من المقاهي الشهيرة تضم فئات اجتماعية.. وسطى - وسطى، ووسطى صغيرة كما في مقهى ريش الشهير الذي كان منذ أوائل القرن العشرين، 1908، ملتقى السياسيين البارزين من مختلف الأحزاب السياسية، وبعض الأثرياء وبعض الفنانين الكبار والمثقفين البارزين، وكان التغير في تركيبة رواد المقهى الاجتماعية قد حدث بعد ثورة يوليو 1952، حيث انحصر غالبهم في أبناء الفئات الوسطى، وبعض الأجانب والعرب المقيمين في مصر، أو العابرين لها سياحة أو لأداء أعمال لهم، وذلك لعديد الاعتبارات وعلى رأسها:

1- التاريخ السياسي والثقافي الطويل للمقهى، وخاصة في ظل تراجع مقاهٍ شهيرة أغلقت، أو أزيلت المباني التي كانت جزءًا منها مثل مقهى متاتيا الذي كان يرتاده جمال الدين الأفغاني، والإمام محمد عبده ومشاهير آخرون.

2- الرموز الثقافية والفكرية الكبيرة التي كانت ترتاد مقهى ريش، وعلى رأسهم عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.

3- استقطب المقهى بعضا من ألمع أبناء جيلي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وكانت فضاءً لحواراتهم، وجزءا أساسيا في حياتهم اليومية ويتبادلون خلالها آراءهم، وأفكارهم، وكتاباتهم القصصية والروائية، وأشعارهم.

من هنا كان المقهى ولا يزال نسبيا أحد أبرز مكونات الحياة الثقافية في مدينة القاهرة، وإحدى علامات الحداثة الفكرية المصرية في القرن الماضي ولا تزال إلى حد ما. مقالات وكتابات عن مقهى ريش نشرت منجمة بين الحين والآخر وعديد من الأفلام الوثائقية ظهر خلالها بعض روادها من كبار المثقفين المصريين سردوا خلالها بعضا من ذكرياتهم في المقهى، ومعاركهم ونقاشاتهم، لكن لم يكتب تاريخ المقهى كاملا من النواحي التاريخية والسوسيولوجية، والثقافية، والسياسية، حيث شهدت بعض مطاردات الأمن لبعض المثقفين من ذوي الانتماءات الأيديولوجية اليسارية عمومًا، وكان يرتادها بعض المثقفين العرب الكبار في المرحلة الناصرية تحديدًا، وبعض من مرحلة السادات. تاريخ مقهى ريش لا يزال بعضه مطمورًا ويعتمد على الشفاهية، واستدعاءات ذاكرات بعض مرتاديها، كثير من هؤلاء سافروا إلى الأبدية والحياة الأخرى وحملوا في أعطافهم بعضا من مكونات ذاكرة المكان، من أبرز هؤلاء كان عازر فرج هو حامل ذاكرة المقهى والمدينة، رجل أنيق الملبس واللغة، ينتمى إلى الفئات الوسطى العليا، ذو أصول صعيدية كريمة، المحتد، مسيحي أرثوذكسي يحملُ في أعطافه روح المسيحية الأرثوذكسية الوطنية المصرية وتاريخها وتعاليمها السمحة، وطابعها التاريخي والقومي المصري، بوصفها إحدى علامات ومكونات القومية المصرية الحديثة ذات الجذور الممتدة في تاريخنا العريق. عازر هو الرجل الأنيق العبارة، وذو الروح الساخرة في رصانة وعمق، والذي يحملُ في ذاكرته ومخيلته تاريخ القاهرة، ومصر ويعرف الأصول التاريخية والاجتماعية والمهنية للعائلات الكبيرة من الأقباط والمسلمين، وأملاكهم وثرواتهم والآخرين من أبناء الفئات الاجتماعية الوسطى على تعددها، وكيف صعدوا إلى فئة رجال الأعمال، ومن أين راكموا ثرواتهم، وأساليب عملهم المشروعة أو اللا مشروعة.

كان وما أصعب الكلمة، يمثل تاريخ وذاكرة النخبة المصرية الحديثة والمعاصرة، والجماعة الثقافية المصرية وسجالاتها، ويرتبط بعلاقات وثيقة برموزها الكبار وبالهامشيين فيها ممن رادوا تجارب سردية وشعرية جديدة، وبداياتهم وتحولاتهم وصعودهم، بل وهبوط بعضهم. كان صديقي الأعز عازر بك فرج -هكذا كنا نناديه نحن أصدقاءه المقربين وغيرنا- يمتلك ذائقة أدبية متميزة، وحسا سياسيا تحليليا يتسم بالعمق للظواهر والوقائع والأزمات السياسية والاجتماعية، ولا يبوح بأسراره ورؤاه وتحليلاته المشفوعة بالمعلومات والأسرار إلا لقلة من أصدقائه الخلص الذين يأتمنهم على آرائه. عازر بك فرج رصين وعميق ولم يكن يميلُ إلى الاستعراضية على نحو ما يفعل بعض رجال الأعمال الذين صعدوا اجتماعيا مع الانفتاح الاقتصادي من أبناء الفئات الوسطى، أو بعض من أبناء الأرستقراطية المصرية القديمة في المرحلة شبه الليبرالية. كان يتسم بالكرم والروح الخيرة التي تساعد من يحتاجون دون منٍّ أو استعلاء، وإنما في الظل ودونما إفصاح، سلوك اتسم بالنبل والغيرية واللطف المهذب.

صديق غال وعزيز ونادر اتسم بالتواضع المحمول على الكبرياء والنزاهة والأنفة والذكاء النادر، والنزاهة. كان يحمل تاريخ مقهى "ريش" كله وشخوصه وخفاياه، كنت أطالبه وآخرين من أصدقائه بضرورة كتابة وتسجيل تاريخه الشخصي، ومعه مقهى ريش والقاهرة والسياسة المصرية وبعض أسرارها، لكنه آثر الصمت إلا مع محبيه وعارفي فضله. قارئ نهم للكتب الجادة ويشير إلى أهم ما جاء بها من أفكار، وينتقد بعض مثالبها في عمق واضح. كان حضوره مشعا ولامعا، وحديثه شيقا وطليا، ورشيق اللغة والتراكيب والمفردات في عفوية وسلاسة نادرة لمثقف مصري بارز، ورجل أعمال ناجح في المجالات التي عمل بها وأنجز. كان أحد خبراء السكك الحديدية ومتابعا يقظا لتطوراتها التكنولوجية، والتخطيط لها سواء على المستوى الدولي، أو العربي. 
من ناحية أخرى كان دارسًا في عمق لمشكلات السكك الحديدية المصرية في جوانبها المختلفة. شغل موقع سكرتير عام غرفة الصناعة الألمانية/ المصرية باقتدار، وكانت ثقافته القانونية متميزة على الرغم من كونه أحد خريجي كلية التجارة، وعمل بالقطاع العام لفترة، ومن ثم عرف عن قرب ثقافة الدولة والبيروقراطية المصرية ومشكلاتها.

برحيله المفاجئ عن حياتنا ترك في القلب وحشة وحزنا مُقيما على غيابه، وهو من كان ملء السمع والبصر والوجدان في حياة القاهرة ووسط المدينة ومجالس الندماء، وصائغ خيوط الصداقة العميقة مع محبيه وأصدقائه الخُلص من القلة التي كان يصطفيها بعناية، ويحرص على مد خطوط الود معهم ويلتقي بهم، ويحادثهم هاتفيا، ويدعوهم إلى مجلسه الكريم في المنزل، أو مقهى ريش، أو بعض الأندية والأماكن الخاصة التي يحملُ عضويتها، عازر بك فرج نموذج للتسامح والمودة والصداقة، والقلب الكبير الذي يحملُ روح مصر الجميلة التي كادت تغادر الأمكنة وغالب البشر، لا يعرف روح الكراهية أو التعصب وإنما يحمل في وجدانه وعقله روح الإخاء الوطني والعقل المنفتح على كل مكونات وأرصدة بلاده الروحية والثقافية والإنسانية. لتسكن روحك في سلام أخي وصديقي الغالي عازر بك فرج مع القديسين، نحبك ونتذكرك دائمًا، وستظل حاضرًا معنا نستعيد ذكرياتنا وأيامنا الجميلة معك. طبت حيا وميتا يا صديق.

شارك الخبر على