النكسة في مذكرات صحفي الـ«لوموند» ظهور الإسلام السياسي (الجزء الثاني)

حوالي ٨ سنوات فى التحرير

كتبت - مارينا ميلاد:

في «عشاء ودي» دعا إليه عبد الناصر، بمنزله بعد هزيمة «67» بنحو شهرين، حضر المشير عبد الحكيم عامر، القائد العام للقوات المسلحة، وتملكه الذهول بعدما سمع من مضيفه عقب تناول الطعام أنه متهم بتدبير مؤامره ضده، وأنه «رهن الاعتقال» من الآن فصاعدًا.

ينقل الصحفي بجريدة اللوموند الفرنسية، إريك رولو، في مذكراته، تفاصيل هذا العشاء الذي يعتبر «الأخير» بين عبد الناصر، وصديقه، فخلاله، تمت مهاجمة فيلا المشير، فيما وقعت موجه من الاعتقالات داخل القوات المسلحة والبوليس السياسي (المخابرات) من القمة وحتى القاعدة، وفي غضون ثلاثة أشهر، تم عزل ألف ضابط في تكتم بالغ، وتم القبض على لواءات وقدموا للمحاكمة بتهمة «الخيانة العظمى».

كان ذلك يتم في سرية تامة، لكن رغم ذلك، وبفضل شائعة نقلها له صديقه، تمكن رولو من إجراء تحقيق انتهى بكتابة مقال حول القبض على المشير عبد الحكيم عامر، لكن «الرقيب» (الشخص المسؤول عن متابعة الصحف قبل صدورها والتقارير التي تُرسل للصحف الأجنبية) أذهله النص المقدم من رولو، وأخبره أن المعلومة مختلفة تمامًا، وحظر عليه نقلها إلى صحيفته.

كان رولو يتوقع ردة الفعل الرقيب، لذلك اخذ احتياطاته قبلها، وحجز مكان على متن طائرة متوجهة إلى السودان، ومن هناك استطاع إرسال مقالته، التي أحدثت دويًا هائلًا، وتأكد مضمونها بعد ذلك بأيام.

يقول رولو: «في أثناء استجواب عامر شعر بالمهانة، فقتل نفسه في 14 سبتمبر بتناول جرعة كبيرة من الزرنيخ، وكانت هى محاولته الثالثة للانتحار منذ انتهاء الحرب، ورغم كل ذلك خصته صحيفة الأهرام بنعي كال له الثناء ولم يَشر إلى اتهامه بالمؤامرة».

لم يبق شيئًا على حاله. كانت الهزيمة قادرة أن تُغير وتُبدل أراء وأفكار، تَخلق كيانات وتيارات وتبخس بأخرى، تكشف الغطاء عن تحالفات جديدة وتنهي ما كانت قائمة.

التيارات السياسية تنقسم

يلخص رولو الإنقسام السياسي الذي وقع بعد الهزيمة، في أن «تياران بارزين تبلوروا يقترح كل منهما إجراءات متناقضة لإصلاح الدولة»؛ الأول: اليسار الناصري والشيوعيون، الذين اقترحوا تقوية النظام من خلال تشديد قبضة الدولة على الاقتصاد، وإعادة تشكيل الحزب الأوحد (الإتحاد الاشتراكي)، والحيلولة دون تسيس الجيش، وتدعيم العلاقات مع الاتحاد السوفيتي.

أما الثاني: فكان الجناح اليميني المنادي بتصفية الخلافات مع الولايات المتحدة، وقطع العلاقات مع السوفيت، وإرساء الحريات بإنشاء التنظيمات السياسية.

ناصر يتخلى عن «أسطورة الانتقام العسكري»

وسط هذا الانقسام، لاحظ رولو أن ناصر راح يتباعد تدريجيًا عن اليسار والشيوعيين، الذين لم يثق فيهم ابدًا، وبدأ حوارًا متكتمًا مع مبعوثين أمريكيين عبر وسطاء دون أن يقطع صلته بالاتحاد السوفيتي (مورد الأسلحة الوحيد لمصر آنذاك).

كما شكل حكومة برئاسته، وجاءت «مطمئنة»، إذ جمع تكنوقراط قيل إنهم غير مسيسين، وأنصار الليبرالية، ومؤيدين للتطبيع مع الولايات المتحدة، وعلى رأسهم زكريا محي الدين.

قال ناصر في الاجتماع الأول لمجلس الوزراء يوم 19 يونيو: «إن نظامًا قد رحل، ونظام آخر قد ولد اليوم».

كان في ذلك إشارة إلى فِكره الذي ذهب إلى «معسكر الواقعيين» (المؤيدين لمخرج سلمي للنزاع العربي الإسرائيلي)، والتخلي عن «أسطورة الانتقام العسكري».

يرى رولو أن «وجهة نظر ناصر كانت بسبب مقتضيات الضرورة أكثر منها قناعة فكرية»، حيث نقل إحدى المسؤولين لرولو أن الرئيس كان يقول للمقربين منه أن «مؤيدي الكفاح المسلح ليسوا إلا حالمين غير مسؤولين».

استغل ناصر مشاركته في القمة العربية بالخرطوم في 28 أغسطس، وحاول أن يحقق مسعاه باقناع نظرائه العرب بوضع «حل وسط مُشرف يضع نهاية للنزاع العربي الإسرائيلي». خاب أمل الرئيس.

ففي البداية رفض ثلاثة من الأعضاء المشاركة كونهم يرووه «مؤتمرًا لتأييد استسلام الوطن العربي»، وهم أحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسا الجزائر وسوريا، ثم تبعت ذلك خيبة أخرى عند إعلان الأعضاء الأخرون قرارهم المسمى بـ«اللآءات الثلاثة»: لا تفاوض مع إسرائيل، لا صلح، لا اعتراف بدولتهم.

بعد انتهاء القمة العربية، وصلت لرولو معلومة أن كل من عبد الناصر، والملك حسين، العاهل الأردني، كانوا مستاءين بشدة من نتيجة الاجتماع، واتفقا سويا على تسوية النزاع بشكل سري حتى لو ابرما سلامًا منفردًا.

خدم الحظ إريك رولو بعد ذلك بأسابيع قليلة، وجعله شاهدًا على هذا «التفاهم السري»، الذي كان يعلم به مسبقًا، فعندما كان في باريس، طلب منه سفير الأردن هناك أن يبلغ رسالة إلى السفير الإسرائيلي يخبره فيها أن «المملكة على استعداد لإبرام سلام منفرد لو اعادت إليها الدولة العبرية الضفة الغربية متضمنة القدس».

وكان رد الدبلوماسي الإسرائيلي على رولو صارمًا، واضحًا، محملًا بموقف دولته التي لازالت تتمسك به حتى الآن: «لا مجال لإعادة القدس التي تعد جزءا أصيلًا من الدولة اليهودية».

ورغم ذلك الرفض، انضم عبد الناصر والعاهل الأردني إلى «القرار 242» بمجلس الأمن، الذي يعترف عمليًا بدولة إسرائيل، ويصف الفلسطينيين بـ«اللاجئيين» ليس شعبًا له حقوق. يقول رولو: «لم يكن أمام ناصر شيئًا أخر غير الخضوع».

الإعلام يُهادن

تماشت وسائل الإعلام مع سياسة الرئيس، وكما يقول رولو، أخذت بالتدريج تُغير من مفرداتها ونبرتها، فتشير إلى إسرائيل دون أن تصفها بـ«الكيان»، وأقلعت عن المناداة بتحرير فلسطين، وتم إقالة أحمد سعيد، مهاجم إسرائيل الأشهر في «إذاعة صوت العرب»، واُستبدل بالصحفي المعروف أحمد بهاء الدين، الذي تجرأ – كما هو ليس معتاد في هذا الوقت - واقترح إنشاء دولة فلسطينية بجوار الدولة الإسرائيلية.

«بالطبع أخذ اقتراح بهاء الدين موافقة رئاسة الجمهورية أولًا» يقول رولو.

الأغنياء لا يكترثون بالهزيمة.. والإسلام السياسي يظهر

بعد الحرب بفترة قصيرة، تسنى لرولو أن يذهب إلى «مصايف الأغنياء» بقصر المنتزة، وهى المنطقة التي كانت مفضلة عند الملك فاروق، وهناك – كما يقول - لم يكن من شئ يشير إن مصر تعرضت لكارثة كبدتها عشرات الآلآف من القتلى والجرحى، فكان عامة الشعب يعلنون الحداد و«أولاد الذوات» يمرحون في صغب وأي محاولات لفتح حديث عن الحرب أمامهم تذهب سدى.

على الجانب الأخر من هؤلاء، لفت انتباه رولو «منظر غير مألوف» بالنسبة له. إذ بلغ ارتياد المساجد أبعادًا جعلت المصلين يؤدون صلواتهم على الأرصفة: «كانت الظاهرة طبيعية تمامًا، فالدين هو ملاذ الناس في الشدة. وأخذ شعار (الإسلام هو الحل) الذي رفعه الإسلاميون لاحقًا يكتسب مصداقية متزايدة لغياب البديل. كما أن بعض المسلمين كانوا يربطون النصر الإسرائيلي بتمسك اليهود بدينهم».

من هنا ظهر ما يسمى بـ«تيار الإسلام السياسي»، تفهم عبد الناصر هذه التغيرات، أفرج عن ألفِ من الإخوان المسجونين، وبدأ حوار مع قادتهم، ولما خفت نشاط الحزب الناصري، باتت جماعة الإخوان المسلمين هى القوة السياسية الوحيدة المالكة لبنية منظمة ونشطة، وفقا لما يذكره رولو.

جمال عبد الناصر مع قيادات الإخوان محمد حامد أبو النصر ومحمد فرغلي

بدأت الإذاعة والتليفزيون تبث آيات القرأن بانتظام، وتم إعطاء الكلمة للواعظين المحافظين، زادت المؤسسات الإسلامية، وتدفقت أموال السعودية، وكان ذلك كافيًا بالنسبة لإيرك رولو ليقول إنه «منذ ذلك الوقت، تغير وجه العالم العربي إلى الأبد».

لقراءة الجزء الأول: النكسة في مذكرات صحفي الـ«لوموند»: إهمال أم خيانة عظمى؟

شارك الخبر على