معركة صلاح الدين الأيوبي

حوالي ٧ سنوات فى التحرير

معركة حامية الوطيس بين يوسف زيدان من ناحية وعدد لا يستهان به من النخبة الثقافية في مصر، إثر حديثه مع عمرو أديب بأن صلاح الدين الأيوبي هو أحقر شخصية في التاريخ بصيغة المبالغة بالتأكيد، لأنه لغويًّا تقديم الـ"أ" هي صيغة مبالغة بالتوصيف اللغوي، سواء أجمل أو أظرف أو أذكى أو أي أأأأ في الموضوع، وأنا لست هنا بصدد الدخول في الاشتباك بمع أو ضد، ولكني مع تحليل حالة الاشتباك نفسها، وربما يذكرني هذا بالفيلم الساخر "محاكمة علي بابا" للرائع أحمد رجب والقدير يحيي الفخراني وإسعاد يونس من إنتاج عام 84.

ترسخ في وجداننا ونحن أطفال شخصية علي بابا والأربعين حرامي من خلال الشخصية الفنية القديرة علي الكسار، حيث كان إسماعيل ياسين في بداياته، وبعقول الأطفال وعاطفتهم التي لا تعرف إلا الطيب والشرير، الصح والخطأ، وربما تتعاطف مع شخصية توم في الكرتون الشهير توم وجيري بنفس الطريقة التي تعاطفت بها مع شخصية الكسار في فيلم علي بابا.

ورغم أن الفيلم هزلي وساخر فإنه شديد العمق، وهو يناقش قضية في منتهى الخطورة، وطرق علي قضية وجدانية في منتهى الخطورة، هل الذي رسخ في وجداننا بشكل ما إيجابي أو سلبي هو محل شك وهل هو قابل للنقاش والاشتباك معه؟ هذا هو العصف الذهني الذي أثاره الفيلم الساخر لأحمد رجب، بالسؤال القنبلة: هو صحيح علي بابا راجل طيب ولا راجل حرامي؟

نفس المشكلة أثيرت عندما تحدث الكاتب الكبير إبراهيم عيسى عن عرابي، وأنه لم يقف أمام الخديوي وأن القضية كلها محض اختلاق وليس لها توثيق تاريخي إلا رواية عرابي نفسه وهي مجروحة بالطبع.

ولا يكتفي المعارضون لهذا القول أو ذاك بمجرد الانتقاد، ولكن يزداد الأمر سوءًا بأن يوجهوا تهم الخيانة والتمويل والأغراض الخبيثة، ومحاولات الهدم، وهذه العينة من التهم.

عقليتنا العربية والمصرية في قلبها تحتاج إلى إعادة ترتيب، سبب هذا البلاء هو التعليم المصري الأحادي، والأحادية هي أكبر خطأ وأكبر تلويث عقلي من الممكن أن يصيب به تعليمٌ أبناءَه، بمعنى أن حكمنا على الأشخاص من نوعية هو كان حلو ولا وحش، هو كان شرير ولا راجل طيب، وينتصر التاريخ لشخصياته بهذه الطريقة، الخلفاء ناس حلوين طيبين، وأي منتقد لهم هو مغرض كاره للدين، محمد علي هو راجل حلو بالطبع باني مصر الحديثة، عبد الناصر بالتأكيد راجل جميل حاول يعمل حاجة بس المغرضين الوحشين هما اللي فشِّلوه، ومافيش مانع نحبش الموضوع بالمؤامرات الخارجية وخلافه.

العالم المتقدم الذي سبقنا بساعات ضوئية في مجال العلم والمعرفة، أول ما عالج عالج تلك القضايا، لا ثوابت، كل شيء هو محل نقاش وجدل، والنسبية معيار حياة، والدوغمائية خطر يهدد المستقبل دائما، إن كان هناك ثمة ثوابت، فهي ثوابت مؤقتة نختارها نحن دون وصاية، ولكنها ليست ثوابت بالمعني الممتد على الإطلاق.

وإذا كنا نتحدث عن التاريخ، فهناك محوران: المحور الأول الحادثة ومدي صدقيتها من عدمها، ثم النقطة الثانية الحكم عليها، فعلى سبيل المثال، هل صنع محمد علي مؤامرة للمماليك، وقتلهم في القلعة وفر أحدهم أو أكثر؟ ربما نقول إن الحادثة مؤكدة، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي الحكم على الحادثة، بالصواب أو الخطأ، وهذا يكون محل نسبية كبيرًا، رغم أن الحكم على الحوادث نفسه بالتأكيد أو النفي هو محل نسبية، ولكنه أقل كثيرا من نسبية الحكم على الحادثة، وكثيرًا مايلجؤون إلى كلمة الترجيح للحادثة المعينة لورودها في مصنفات تاريخية معينة، حتى الحكم على مدى مصداقية مؤرخ، تخضع لاعتبارات ومعايير هي نسبية بالطبع.

وصل بهم العلم في الغرب إلى تقديم الشك، حتى إنهم يناقشون الآن في ألمانيا مثلاً، هل شخصية محمد عليه الصلاة والسلام حقيقية أم أسطورية؟ وحتي لا يظن أحدهم أن هذه مؤامرة على الإسلام من مستشرقين مغرضين، ألحقك بالقول، أنهم يناقشون تاريخية عيسي وموسي وإبراهيم وكل الشخصيات النبوية الموجودة بالكتب المقدسة وليس نبينا وحده، ويخضعون تلك الشخصيات لمعايير المخطوطات والتاريخ المدون للأمم السابقة، وحتى بعد وصولهم إلى ترجيح حقيقة الشخصية، فإنهم يذهبون إلى مستوى آخر، وهو مستوى المبالغة في الأحداث، وما مدى مصداقية الأحداث المروية، ودائما ما يخضعون هذا للروايات المتناقضة، فيحللون ما كتبه المسلمون عن الأحداث، ويحللون ما كتبه الآخرون عن هذه الأحداث، وبالمقارنة يصلون إلى مقاربة أو صورة ترجيحية، وهي نسبية بالطبع، يكون لكل قارئ جديد، لما كتبه من قبله يكتب كتابة جديدة لها بصمتها ورؤيتها الخاصة وإضاءاتها للصورة الكلية.

العقلية العربية تلقت المعلومات شفاهة، فلان وحش، وفلان حلو، وكل يسمع من فصيله، فربما يقول التنويريون لأتباعهم محمد عبده راجل حلو تنويري، ويقول الراديكاليون لأتباعهم محمد عبده راجل وحش تغريبي متعفن.

وهذه هي المشكلة، فلا يحكم على الأشخاص وعلى الأفكار هكذا، لا بد أن يقرأ تاريخه وكتاباته بالطبع، بالطريقة المزدوجة، مصداقية الأحداث أولاً ومدى ترجيحها، ثم الأفكار والمواقف التي نختلف عليها كل موقف وكل حدث وكل كلمة على حدة.

عقلية الأبيض والأسود هي عقلية فاسدة من الأساس، العقلية الرمادية، هي ما نحتاج إليها في الوقت الراهن، ونحتاج إلى تنشئة جيل جديد يكون أقل تعصبًا، وأكثر رحابة وتسامحًا، وأكثر فهمًا للطبيعة البشرية المعقدة والنسبية والمليئة بالتناقضات.

عندما يتعلم الأطفال دائمًا السؤال الأهم، عندما يقول أحدهم إن هذا ثابت ويقيني، يكون السؤال ومين اللي ثبته ومين اللي خلاه يقيني، هذا هو السؤال الأهم، لأن الشخصية التابعة الأسطورية تبدأ عندما توضع ثوابت ومسلمات، لا تخضع للنقاش ابتداء ويبنى عليها أمور تحتكم إلى هذه الثوابت، ورغم نقاشنا في الفروع المبنية على الثوابت، فلم يفكر أحدنا من التثبت من الثوابت، والتيقن من اليقينيات، وتزداد العقليات تيبسًا، كلما زادت الثوابت التي تبثها هذه الطائفة أو تلك، ولذلك تجد الجماعات المغلقة، التي بالغت وتوسعت في الثوابت، تضاءلت لديها مساحة التفكير، وزادت مساحة التبعية، كلما زادت الثوابت زادت التبعية، حتى تصل إلى الطاعة العمياء، لبشر لا ميزة لديهم ولا إمكانيات ولا حتى حكمة.

نحن أمام فرصة هائلة لم تتوفر لأجيال سبقتنا، ربما كانت العقلية الشفهية والسماعية مبررة، فلا يوجد مجال للاستيثاق والبحث، لعدم توافر الكتب، وعدم توافر المراجع، ولا وجود لمكتبات عامة متاحة للبحث الحر، فكان الشخص مضطرا إلى تلقي معلوماته وحكمه على الأشخاص سماعة مما هو أكبر منه، والذي أخذها سماعًا هو الآخر وهكذا دواليك، الآن بضغطة كليك واحدة، تبرز إليك الآلاف من الكتابات عن القضية الواحدة، فتقرأ لهذا ولذاك، وبالتبعية سيتيقن لديك مدى النسبية التي تحيط بالموضوع فحنانيك، وأيا ما كان الرأي الذي ستنتصر إليه، سيكون انتصارًا بلا عصبية، لأنك تعلم يقينًا، أنه انتصار نسبي ليس محل يقين، وهو مجرد ترجيح شخصي لرأي على رأي آخر.

وإذا كنا نختلف الآن على شخصية صلاح الدين الأيوبي من 8 قرون، بل وتدق طبول الحرب، بسبب خلاف من ألف وأربعمائة سنة بين علي ومعاوية بين سنة وشيعة. وربما نختلف على عبد الناصر ويحتدم الخلاف بيننا على شخصية من خمسين سنة. فماذا بنا الآن ونحن نختلف على شخصية السيسي بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وربما يأتي بعد عشرين قرنًا من الزمان أناس يبدؤون بالسؤال الأول: هل السيسي شخصية حقيقية أم أسطورية؟

إذا بقي التاريخ المصور على ما هو عليه فلن يحدث جدل كبير في هذه النقطة، أما إذا حدثت تحولات دراماتيكية، وعاد العالم بدائيًّا من جديد، وتغيرت اللغات، ربما يكونون في حاجة إلى شامبليون جديد ليفك لهم طلاسم اللغة العربية!!

شارك الخبر على