أيقونة المسرح العراقي فـي بيت المدى..ناهدة الرماح تاريخ حافل بالفرح والألم والنضال

حوالي ٧ سنوات فى المدى

تسللت روحها بعيداً عن جسدها، وطافت باحات المسارح، وزوايا المدينة، وزارت بيوت من أحبتهم، وأخرين احبوها، وطرقت الابواب دون انتظار جواب من أحد ذلك أنها اعتادت الحضور والعطاء دون انتظار مقابل. استعادت تلك الروح المتحررة ذاكرة الاشياء، المدن الصاخبة، برقصها الحزين، وتعاستها الموحشة ورغبتها، واسترجعت ما قدمته من فنون واعمال باسم المدينة، لم يبكها أحد ممن شاطرتهم سيرتها الفنية بل بكاها أولئك الذين حضروا اعمالها، وشاهدوها، بكوا بصمتٍ خجل، بينما تعالت روحها نحو السماوات بوقار وكبرياء، وشيء من العتب الصامت، فهي أسمى من تنطق كلماته او تستجدي الاهتمام بها.
هكذا رحلت الفنانة ناهدة الرماح، التي كانت من بين أبرز الفنانات المتحديات لواقع المدينة والمجتمع وتطرفه الذكوري، فدخلت مجال الفن دون الالتفات لكلمات لا مبرر لها وضعتها القبيلة والمجتمع، وتحدتها واستمرت بعطاءاتها.لم يلتفت احد لوجع الرماح التي كانت تصارع المرض، وتتحدى الأجل، وبعد أن تمكُّن الموت منها أيضا لم يلتفت احد لها، حتى أولئك الذين اعلنوا احتجاجهم لرحيلها وعدم اهتمام اولي الامر لحالتها، لم يولونها شيئا من الاستذكار والاهتمام وإن وجد فهو خجل جدا متوارٍ خلف سوءاتهم.في جلسة استذكارية اقامتها مؤسسة المدى للاعلام والثقافة والفنون، وضمن منهاج بيت المدى الاسبوعي في شارع المتنبي استحضرت ناهدة الرماح لتأبينها ورثائها وبكائها، وسط حشد من محبيها البسطاء صباح يوم الجمعة .إحترام الرموزالشعوب التي لاتحترم رموزها لا مستقبل لها، متحسراً أفتتح كلمته بهذه الجملة الاعلامي طه رشيد واضاف " عانت الراحلة الكثير بسبب فقدانها بصرها، ومرضها، وهجرتها مجبرة لترك العراق بسبب السلطات السابقة."مشيراً أن " من المؤسف ألّا يحتفى بها بعض من زملائها، الذين تنكروا لها ولريادتها للمسرح العراقي ."عفوية الأداءالحديث عن الرماح طويل وقد نتجاوز الوقت دون اكماله، نقيب الفنانين صباح المندلاوي يخشى ان يتجاوز حديثه عن الراحلة الوقت المسموح، وقد قال خلال كلمته  " الحديث عن هذه الفنانة الكبيرة قد يطول." مشيرا إلى ان "في عام 1956 تعرضت الرماحي  لوعكة صحية من خلالها تعرفت على احد الفنانين الذي أشار الى حاجتهم لممثلات ليتقدمن ويشاركن في أعمال التمثيل، اضافة الى هذا  كان هناك اعلانات تنشر بالصحف المحلية تكشف عن الحاجة لممثلات، فقامت هي والفنانة زينب بالتقديم للاختبار ونجحن في ذلك، وقدمت الدور الاول لها عام  1957  في فيلم "من المسؤول"، مع الكبير سامي عبد الحميد الذي شكل أرضية للانطلاقة وهذا دفعها للعمل في فرقة المسرح للفن الحديث، كما كان أول عمل مسرحي قدمته " الرجل الذي تزوج امرأة خرساء" وايضا مع سامي عبد الحميد وقد بدت في هذا المشهد خائفة حتى استجمعت قواها وشعرت ان المسرح يحتضنها."وأكد المندلاوي " أن ما عزز مواصلة مسيرة المسرح للرماح هو ان أدوارها كانت تسعد والدتها، وقد قدمت أعمالها تلك بمنتهى العفوية."فنانة الشعب لم تكن الرماح تمثل الدور بل هي تعيش الدور، بهذا تميز أداءها كما أكد المخرج والاكاديمي المسرحي سامي عبد الحميد الذي قال " أن المتلقي لا يستطيع ان يميز بين الرماح الممثلة والانسانة الاعتيادية، وفي جميع المسرحيات التي شاركت بتمثيل ادوار فيها كنا نحس قدرتها على اداء الدور التمثيلي بتلقائية عالية سواء أكانت  مسرحيات محلية او فصحى."وعن لقائهما الاول يقول عبد الحميد" التقيت بها اول مرة في استوديو بغداد حين كنا نصور فيلم من المسؤول في وقتها كنت أقف اول مرة امام الكاميرا وكنت مرتبكا اما هي فلم تكن كذلك وكانت تلقائية في ادائها، واثناء التصوير اقنعتها  بالالتحاق بفرقتنا فرقة مسرح الفن الحديث وبالفعل شاركت في تمثيل الدور الرئيسي وقد كانت بارعة في ذلك، واذكر حادثة طريفة مرت خلال فترة التمرين في هذه المسرحية، كنت قد كتبت نقدا لاذعا عن فيلم من المسؤول والذي كنت ألعب دور البطولة فيه وفي اليوم التالي كان لدينا تمرين على المسرحية في جمعية النداء الاجتماعي في الاعظمية ولم تحضر الرماح الى التمرين وقد قلت لنفسي انها قرأت النقد اللاذع للفيلم  وذهبت لشركة انتاج الفيلم وحرّضوها ان لا تحضر تمرينات المسرحية وكان ظني في محله، فلجأنا الى الراحل إبراهيم جلال ليقنع الرماح لتعود وهذا ما حصل، ثم شاركت في مسرحية "المقاتلون" ليحيى بابان وتحدثت المسرحية عن نضال الشعب الجزائري في الثورة الفرنسية وقد مثلت هي دور امرأة فرنسية وانا ضابط جزائري."وأكد عبد الحميد أن الرماح " افتقدها المسرح العراقي وافتقدها الشعب العراقي لانها احدى فنانات هذا الشعب ."رسالة مفتوحةهذه الرسالة أهديت من قبل الفنان صلاح القصب للراحلة قال فيها " الدموع تغرقها الرياح في ذلك الليل المفجع، طيفك يا ناهدة ألم جليل منتشر من أمام مسرح بغداد، كان موكب رحيلك صمت يطفو فوق موج ذكريات شيدتها النخلة والجيران، والمفتاح، والرجل الذي صار كلبا، وغيرها... جميعها توقظ فينا ذكريات وذكريات لم يكن هناك في رحيلك  غير صوتك يغني للغيوم المفتوحة حتى البحر  اغنيتك التي كنت ترددينها بغربتك " يالماشية بليل الهلج حولي عدنه الليلة يبعد الدرب شيوصلج اهواية المسافة طويلة." واغنية غريبة الروح والكنطرة، كيف نعتذر لك يا اخت الشمس؟ فرحيلك مرّ بصمت، ولا احد هناك كان يمر في شوارع بغداد كرحلة شاقة جدا تودع البرق ولحظات ذكريات وايام عروض مسرح بغداد الجميلة، كم كانت جميلة تلك اللحظات بكتك حتى ارصفة المدن التي مررت بها، ارصفة الموانئ والمطارات وحقائب السفر والمنفى وقصائد البياتي ومظفر النواب وألبومات صور وذكريات واصدقاء، يا اخت الشمس برحيلك انطفأت الانوار داخل مسرح بغداد عندما غفوت وحيدة منفية في رهبة الصمت والوفاء المفقود، حتى في رحيلك كنت كالمطر ودموعك تمطر مساءً لتغسل الشوارع الحزينة."بين لقاءينمن ينتقد الرماح لن يجد حتى وجدانه يصفق له، هذا ما قاله  وكيل وزير الثقافة والسياحة والآثار فوزي الاتروشي خلال كلمة القاها بحق الراحلة، وأضاف " ان ذاكرة الرماح تمثل ذاكرة مدينة وشعب، فقدت الرماح بصرها ولكن بصيرتها كانت أعمق بكثير، ويشرفني اني كنت من الاوائل الذين استقبلوها خلال الثماني والاربعين ساعة الاخيرة في حياتها، وكنت معها لحظة بلحظة، كما اني التقيتها اول مرة بعد عودتها الاولى من مهجرها، وبين اللقاءين التقينا عشرات المرات وكنا نعمل معاً من اجل النهوض بالواقع الفني والثقافي العراقي." وأكد الاتروشي قائلا" حاولنا في وزارة الثقافة كثيرا أن نركز اهتمامنا على حالة الرماح الصحية، وان نسلط الضوء عليها ونركز العناية بها، كما اثبتنا ذلك من خلال تواصلنا الكثيف معها، انا لا أبرر أن الوزارة عملت شيئا للراحلة، لأننا رغم كل شيء مقصرون في حقها."قديسة المسرحقبل ايام قليلة من رحيلها كان يتدرب معها من اجل تقديم عمل جديد، ولكن دور الموت يفوق جميع الادوار المسرحية فسبقه اليها وخطفها الى الأبد، الفنان غازي الكناني تحدث عن الراحلة ايضا خلال الجلسة وبحسب ما ذكر فأن حديثه سيكون رسالة عتب وقال " قديسة المسرح وراهبة الفن، حزني على رحيلها كبير وما زادني ألماً ألا أن أحداً لم يحضر لتشييعها، فكيف ترحل الرماح دون أن يحضر لتشييعها أي فنان؟؟ لم نجد في فاتحتها سوى وجوه غريبة نجهلها، وبهذا يمكننا أن نؤكد أن مشكلتنا تقبع في أعماقنا وأرواحنا وليست الحكومات فقط هي مشكلتنا، فنحن لسنا متلازمين ولا متكاتفين ولا حتى مجتمعين مع بعضنا البعض كل منا نسي الآخر وفكر بذاته فقط وبهذا خسرنا الرماح ولم نمنحها حقها، علينا بدءا أن نصفي انفسنا وننقيها ثم نرمي باللوم على السراق الذين جاؤوا لحكمنا ودمروا كل شيء."الفنان استمرار للتاريخ والتراثمن ديالى ايضا أتى بمن يحمل حزنه على كتفه لاستذكار الرماح، فقال الممثل عن اتحاد ادباء ديالى الشاعر باقر موسى " أن الفنان يفضل على تاريخ المدينة وتراثها  لأنه المسؤول عن استمرار ذلك التاريخ واستذكاره، الفنانة ناهدة الرماح تألقت على المسرح العراقي وتعد ثروة وطنية لا يستهان بها وقدمت رسالة للمسرح العراقي تحاكي معاناة المجتمع العراقي في ذلك الوقت."

شارك الخبر على