روسيا لا تزال تغني على ليلاها

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

في الوقت الذي يواصل فيه التحالف الدولي بقيادة واشنطن عملياته العسكرية في سوريا والعراق، وتوسيع نفوذه على الأرض، وحشد المجتمع الدولي لخطوات مقبلة تتعلق بمصير الأسد وشكل الحكم في سوريا، تواصل روسيا "التنديد" و"الشجب" و"استخدام حق الفيتو"، محتفظة في الوقت نفسه بنفوذ ضئيل في مركز دمشق، وعلاقات وثيقة مع بشار الأسد شخصيا.
وعلى الرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أعلن، خلال مقابلة مع وكالة "رويترز"، أن هناك تغيرا طفيفا في الموقف الروسي إزاء الرئيس السوري بشار الأسد، فهمه بعد حديثه الأخير مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن كلمات أردوغان لا تمثل إلا صدى لتصريحات روسية مبطنة صدرت أكثر من مرة خلال السنوات الست الماضية التي تضمَّنَت أيضا استخدام الفيتو لتسع مرات بشأن الأزمة السورية. ولكن كلمات أردوغان مهمة للغاية لأنها تحسم التناقضات الروسية بشأن الأسد من جهة، وتعكس في الوقت نفسه إصرار تركيا على موقفها من الأسد، وتدهور علاقاتها مع روسيا.

الرئيس التركي قال لا يوجد أي سبيل للتوصل إلى حل للصراع في سوريا ما دام الأسد في السلطة. وقال أيضا إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أبلغه أنه ليس ملتزما بصفة شخصية بالرئيس السوري، وأنه لا يدافع عن الأسد ولن يكون محاميه الشخصي.

صحيفة "إزفيستيا" الروسية تطرقت إلى مسألة تحالف موسكو مع الغرب في مكافحة الإرهاب؛ مشيرة إلى دعوات روسيا للقيام بعمليات مشتركة ضد الإرهاب في سوريا، ولكن على أسس قانونية. والأسس القانونية تعني، حسب فهم موسكو، هي موافقة الأسد، والترتيب معه، حتى وإن تواجدت جيوش كل دول العالم في سوريا. المهم هو أن يتم ذلك بموافقة بشار الأسد. غير أن هذا الأمر موجود عمليا على الأرض بدون موافقة الأسد، وبدون موافقة روسيا أيضا.

روسيا تدور في حلقة مفرغة، تدفعها للإدلاء بتصريحات متناقضة. ولن نتحدث هنا عن الإعلام الروسي الأعرج والمعزول عن العالم والفاقد للإحساس بالواقع الحقيقي. وإنما سنتحدث عن المراوحة السياسية الروسية التي تثير البلبلة والفوضى وخلط الأوراق.

لقد صرح مصدران اثنان في الدوائر الدبلوماسية الروسية، حسب الصحيفة، بأن روسيا لن تنضم إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب في سوريا، الذي تقوده الولايات المتحدة، رغم دعوات ساسة الغرب المتكررة. وقرار موسكو هذا مرتبط قبل كل شيء بكون العمليات، التي يقوم بها التحالف في سوريا، غير شرعية. ويوضح رئيس لجنة الشؤون الدولية في مجلس الاتحاد قنسطنطين كوساتشوف، بن روسيا والغرب بحاجة إلى تحالف دولي فعال، لكن لا بد من تنفيذ شروط معينة لتأسيسه.

وترى الصحيفة، أن مشكلة التحالف الدولي تكمن في أنه ليس مدعوما بموافقة السلطات السورية الرسمية للقيام بعمليات على أراضيها. وإضافة إلى هذا، ليس هناك قرار من مجلس الأمن الدولي يخولهم القيام بهذه العمليات. أي أن موسكو، التي طلبت الحكومة السورية مساعدتها رسميا في محاربة الإرهاب، لا يمكنها الانضمام إلى التحالف الدولي، الذي يتعارض نشاطه والقانون الدولي. وقد نوقشت هذه المسألة بإسهاب خلال زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة ريكس تيلرسون الأخيرة إلى موسكو.

هذا هو كلام الصحيفة الروسية الذي يأتي متأخرا كثيرا. ولكنه في كل الأحوال ضروري من أجل فهم كيف تفكر موسكو، وماذا تريد، وحجم المساحة التي تناور فيها. وقد صرحت مصادر دبلوماسية للصحيفة الروسية بأن "موسكو لن تنضم أبدا إلى تحالف تحت رعاية الولايات المتحدة. وقد أوضحنا هذا لشركائنا خلال اللقاءات المغلقة. ونعلل ذلك بأن عملياتهم في سوريا غير شرعية. هم فعلا عرضوا علينا الانضمام إلى التحالف ولكن بشرط أن يكون بقيادة الولايات المتحدة. لكننا لسنا مستعدين لذلك. وإذا حصل الائتلاف على تفويض من مجلس الأمن الدولي لمحاربة الإرهاب في سوريا، فسوف ندرس الموضوع، علما أن شكل الائتلاف سيكون مختلفا".

لقد دعا وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون روسيا قبل أيام إلى "اختيار الجانب الصحيح" وإلى محاربة الإرهاب في سوريا مع بقية دول العالم. لكن موسكو رفضت باستعلاء شديد، بصرف النظر عن مبدئية هذا الرفض من عدمها. ولم تكن دعوة جونسون هي الأولى من نوعها، بل سبقتها دعوات كثيرة منذ أيام إدارة باراك أوباما، ولكن موسكو تريد تعاونا يحقق مصالحها، وتدعو إلى صيَغ مطاطة وغير واضحة تبقي على بشار الأسد في السلطة، وتعمل على ترقيع سياساته، على اعتبار أن هذا هو المتاح، وليس في الإمكان أبدع من ما كان.

موسكو ترى أنه "من أجل تشكيل تحالف دولي لا بد من شرط واحد وهو تحديد أهدافه بدقة ووضوح، أي القضاء على الإرهاب في سوريا، وأن لا تكون هناك أهداف مخفية ثانية وثالثة، لأن التحالف الغربي لا يخفي أن القضاء على الإرهاب هو أحد هدفيه في سوريا، والهدف الآخر هو إزاحة بشار الأسد عن الحكم. وبالتالي، فهي ترى أنه لا يمكن لروسيا الانضمام إلى مثل هذا التحالف ولن تنضم أبدا، إلا إذا تخلى الغرب عن موضوع الأسد، وبدأ بالتعاون مع نظامه. بل وترى أيضا أن مطالبة الغرب برحيل الأسد هو سبب توسع داعش وانتشار الإرهاب في سوريا!!

في الحقيقة، لن تتخلى روسيا بسهولة عن الأسد، إلا في حال حصلت على ضمانات حقيقية مكتوبة بحصتها ي سوريا، وبمشاركتها في تشكيل الحالة السياسية في ما بعد رحيل النظام القائم. والولايات المتحدة وحلفاؤها لن يتخلوا عن فكرة خنق الأسد وتقليص مساحة نفوذه إلى أن يتم رحيله. وفي الوقت نفسه لن تنتهي العمليات العسكرية لدول التحالف مجتمعة، أو لبعضها بشكل منفرد مثل تركيا. ولن تنتهي العقوبات ضد موسكو ودمشق وطهران. ولكن الأولي، على وجه التحديد، لديها قدرة مدهشة على القراءات الخاطئة أو غير الدقيقة للمشهد السوري، وتحركات الغرب وتصريحاته. فهي ترى أن هناك جهات دولية من سياسيين ووسائل إعلام تحاول الضغط على روسيا لكي يتخلى رئيسها فلاديمير بوتين عن نظيره السوري بشار الأسد والتوقف عن دعمه.

وترى أيضا أن مجموعة الدول الصناعية الكبرى "فشلت" بشأن فرض عقوبات على موسكو ودمشق ما يعني عدم وجود أي أوراق ضغط للتأثير في موقف أكبر حليفة لسوريا. هذه "الرؤى" تعكس إما فهما خاظئا لتحركات الغرب وإجراءاته، أو تعمد إثارة الفوضى واللغط حول الأزمة السورية، لأن موسكو "تعتقد" أيضا أن هناك خلافات فظيعة في الغرب على شخص بشار الأسد، وخلافات أفظع بكثير بشأن العلاقات مع روسيا، وتناقضات أكثر وأشد فظاعة بشأن العقوبات المفروضة على روسيا!

الأمر مختلف بعض الشئ، لأن هناك تنسيقا بين الولايات المتحدة من جهة وبين أوروبا من جهة أخرى. وهناك أيضا تنسيق بين الدول الأوروبية، وتنسيق آخر بين كل حلفاء واشنطن، بما في ذلك أنقرة. كل ما في الأمر أن روسيا تظهر أمنياتها وكأنها الواقع. وبعد أن تقوم بإظهار هذه الأمنيات، تعود لتبكي وتندد وتشجب، وتعارض مواقف الغرب التي تدعو إلى التخلي عن مساندة الأسد، وأنه لا حل للأزمة السورية طالما بقي الأسد في السلطة.

صحيفة "ديلي تليجراف" البريطانية، قالت في هذا الصدد إن هناك مصالح مشتركة بين روسيا والغرب، مشيرة إلى أن الاقتصاد الروسي يعاني جراء العقوبات ضد موسكو بعد ضمها شبه جزيرة القرم في 2014، وإن أي عقوبات إضافية ستزيد من معاناة الشعب الروسي، وإن بوتين في عزلة كبيرة إلى درجة إصدار الكرملين بيانات مشتركة مع ميليشيا حزب الله، التي يعتبرها الغرب تنظيما إرهابيا. ولكن صحيفة "التايمز" البريطانية، تعتبر أن العلاقات بين روسيا والغرب دخلت نفقاً مظلماً، لأن الأولي تطالب الجميع بإغماض عيونهم عن دعمها للأسد، وهو ما يمكنه أن يهدد بحرب حقيقية، في حال تركها تفعل ذلك. وفي المقابل يعمل الغرب على توظيف العقوبات الذكية لفك الارتباط بين الكرملين ونظام الأسد وإيران. وتتوالى الدعوات للرئيس الروسي من أجل المساعدة في إيجاد بديل لبشار الأسد.

في نهاية المطاف، هناك تحالفات غربية واضحة، ولعبة غربية كلاسيكية من حيث التنسيق. ففرنسا لم تخف موقفها من بوتين، إذ قال وزير خارجيتها جان مارك إيرولوت إن "مجموعة الدول السبع لم تتفق على توسيع العقوبات المفروضة على روسيا وسوريا"، موضحاً أن هناك ضرورة للتوصل إلى حل لوقف إطلاق النار في هذا البلد برعاية المجتمع الدولي كخطوة أولى للحل. أما وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، فقد قال إن "تحالفات روسيا مع الأسد وإيران وحزب الله لا تخدم مصلحتها ويجب عليها التحالف مع الولايات المتحدة وحلفائها".

الصراع والمواجهات، والحرب الفعلية، تدور كلها في مستويات بعيدة تماما عن الشعب السوري ومصالحه، وتفادى فنائه وفناء سوريا. والأسد وروسيا وإيران ليسوا استثناء، وإنما مثلهم مثل الآخرين، يبحثون عن مصالحهم تحت أقنعة ودعاوى وغطاءات متعددة. لكن الملفت هو اقتناع بعض الأطراف بأنهم يحاربون ويقتلون ويدعمون القتلة من أجل الخير والسلام. الأمر الذي يعكس دورانهم في حلقة مفرغة من التصريحات المتناقضة والمواقف الأكثر تناقضا.

شارك الخبر على