نصف ساعة «ضحك»
أكثر من ٨ سنوات فى التحرير
فى أحد المقاهي الحديثة التى أجلس فيها أحيانا للكتابة، دخل فتى وفتاة، فى منتصف العقد الثالث تقريبا، وهما غارقان فى الضحك. كانا يستكملان ضحكهما، وعبرا به باب المقهى، والممر الصغير حتى وصلا به إلى الترابيزة التى عن يميني. يبدو، من قوة الضحك، أنه بدأ قبل دخولهما بفترة، حتى يصل إلى هذه الدرجة من الازدهار والقوة، ولا يعبأ بكل هذه الحواجز التى مرَّا بها فى طريقهما حتى وصلا به إلى المقهى وبدون أن ينقص.
كانا منفصلين بضحكهما تماما عن كل ما حولهما، كأنهما فى قوقعة دخلا فيها ولن يخرجا بسهولة. عبور النادل، أو دخول زبائن جدد للمقهى، أو صوت التليفزيون، وتداعي صوره، كل هذا لم يفتح ثغرة فى هذه القوقعة.
لو هدأ الضحك قليلا، لعادت الفتاة ونفخت في ناره، وأمسكت بخيطه من جديد وشدته عن آخره. كانت الفتاة، أكثر من الفتى، تتشعبط بأي كلمة يقولها لتعاود الضحك بقوة، وباستغراق، ولم تتوقف طوال نصف الساعة كاملة. ثوان غير ملحوظة ثم تستعيد قوتها وتجدد ماء الضحك. ربما كانت تخشى أن يتوقف فى لحظة، وساعتها لن تجد شيئا لتفعله. يقول الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر* عن الضحك فى استشهاد له استعان به الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون** فى كتابه عن الضحك: "إن الضحكة دلالة على جهد يلتقي فجأة بالفراغ". وأيضا يستشهد بمقولة عن الضحك للفيلسوف الألماني
"إيمانويل كانت"*** فى نفس الكتاب: "الضحكة تأتي من توقع ينحل فجأة إلى لا شىء".
فالضحك عابر ومؤقت، وإن لم يستدع ويثير حسا جمعيا، داخلنا أو خارجنا، يستكمله؛ سرعان ما يهدر ويصطدم بهذا الفراغ النفسي الذى تحدث عنه كل من سبنسر وكانت. هذا اللا شىء الذى ينتظر وراء هذه القوة والانتفاضة فى التعبير. ربما كانت فتاة المقهى تخشى الوصول إلى هذا الفراغ، أو أن تصطدم به لذا كانت مضطرة إلى عدم التوقف.
الضحك به شىء مغوٍ، لا يمكن التحكم به، كأنه يغرينا بالتقدم دون شروط باتجاه أعماق نجهلها فى أنفسنا، تجعل أجسامنا ووجوهنا ترتج بقوة وتتغير جغرافيتها. به اتصال بذات أعمق من كل الذوات التى نعرفها ونصادفها فى حياتنا اليومية، ولكن أيضا فى هذا الاتصال مخاطرة "أن نموت من الضحك"، أو "نغرق فيه"، وهما الجملتان اللتان نقولهما عندما يأخذنا الضحك إلى أعماقه المجهولة، نخرج تماما عن إيقاع حياتنا المستقرة، ننتفض بقوة، وننفض ملابسنا وأجسامنا وندخل فى أجسام أخرى، كأننا بالفعل نغادر هذه الحياة.
الضحك -كما يقول برجسون فى كتابه- هو أحد أشكال الدفاع عن الحياة، عن استمرار تدفقها، وضد آليتها التى تسبب الضحك. فالضحك عقاب ضد التعصب والآلية والتصلب والقوالب والجمود والتكرار، أو أى شكل من أشكال توقف الحياة، لأن الضحك يقف دائما مع استمرارها، مع سيولتها وازدهارها. ربما هي أعمق وظيفة اجتماعية له، وأكثرها فطرية.
شككت للحظة أنهما، الفتى والفتاة، يضحكان ضحكا صناعيا، تحت تأثير مخدر ما أو سيجارة ملغومة، فقد كانت هناك فجوات طبيعية مردومة فى هذا النوع من الضحك، ربما بتأثير هذا المخدر. لم يكن لضحكهما منحنى هبوط وصعود، أو تتخلله فترات صمت واستعادة وتجديد لمصدره وناره، بل خط واحد بدون انقطاع.
كل من بالمقهى التفت، حقيقة أو مجازا، لبؤرة هذه الضحكات، والتى تحولت بدورها لمركز داخل المقهى، غطى على صوت الشاشة، ولكنه كان مركزا غير مؤثر. ربما كل منا لم يجد له مكانا داخل خشبة المسرح التى نصبتها هذه الضحكات من حولنا. كانت مثل الحَجَر الذى رُمي فى بحيرة مستقرة، فأحدث تموجات أخذت تتصاعد ويتسع قطرها ولكن بدون أن تمس عمق الجمهور.
طبعا الكلمات أو المواقف التى دعتهما للضحك، كانت مبهمة جدا بالنسبة لنا، وغير واضحة، ربما كلمات مجتزأة من سياق، أو أسماء إشارة لـ«هو أو هى»، أو زاوية صغيرة من موقف ما طريف حدث فى يوم ما، كلها كانت مسببات لتصاعد ألسنة راكية الضحك بينهما.
بدا الضحك، فى لحظة، مثل جدار عال يحتميان خلفه، أو يضعانه مثل الحذاء فى وجه التخين. كان به نوع من التحدى والمواجهة، ولكن بشكل غير مباشر، لأنهما لم يلتفتا بالفعل طوال العرض لمن حولهما. ولكن من حولهما كان قابعا فى الداخل، فى أغوار هذه النفس، حيث يتصاعد الضحك والبكاء. فالضحك صدى لروح جماعية كما يقول برجسون، ولا وجود لضحك بدون جمهور، فالضحك يأخذ حريته وتألقه وازدهاره وسط الناس. لو كانا جالسين بمفردهما، ربما عندها لن يكون لهذا الضحك معنى وسيموت بمجرد ولادته ويبتلعه الفراغ، فالضحك كان موجها بشكل ما لجمهور المقهى، الذى اختارا أن يشاركهما إياه.
بدون أن يلتفتا لنا، نحن الجمهور، كانا يوجهان لنا الضحك، يرموننا به، يغطوننا بهذا الكم الهائل من الاهتزازات والتلامسات الجسمية. كان حوارا من طرف واحد. جاءت لحظة شعرت فيها بالاستفزاز، ربما كان هذا الضحك به تحد وإدانة لسكوننا نحن جمهور المقهى. كنا فى هذه اللحظة رمز المجتمع الذى يقفان أمامه، ويلطخان حائطه بالكتابات والهجاء والضحكات والسخرية.
استمرارُ الضحك لنصف الساعة وربما أكثر، -فقد غادرت المقهى قبل أن ينهيا وصلتهما- جعل الشابين يتمردان على قانون الضحك ذاته، المؤقت والعابر، ويبغيان ديمومة له، ويحولانه إلى غاية. ربما بسبب هذه الأمنية المستحيلة حدث الاستنزاف، وتم هتك قانون الضحك الجماعي، وتحويله إلى وصلة شخصية بدون مشاركة من الجمهور. كان ضحكها غير مُعْد، فاقدا لشفرة الحوار، به شىء أنانى وغاية أخرى غير الاتصال بالمصدر الجماعي المجهول الذى يفجره.
بالرغم من أن الضحك، بطبيعته، معد، كالتثاؤب والبكاء، فإنه كلما ضحك الشابان ازدادت المسافة بعدا بينهما وبين الآخرين، وكل الخيوط التى نثراها فى هذه الموجات من حولهما لم تجذب في طريقها أحدا، ولم تصل بمركز الضحك ومشهديته أبعد مما يجلسان.
بالتأكيد الضحك ليس حالة شخصية، وإن بدا هذا، هو حالة من الانتشاء الجماعي المصحوب بالاهتزاز، للداخل والخارج، رعشة أورجازم، كأننا وضعنا إصبعنا فى مقبس كهربائي لذات جماعية، أصبحنا متحدين بها وداخلها، متسعين بقدر انفتاحنا على هذه الذات. فالضحك تعبير عن قوة حياة هذه الذات الجماعية بداخلنا.
ربما استمرار هذا النزف الهادر من الضحك، للفتى والفتاة معًا، سببه هذا الجدار الذى كان يفصلهما عمن حولهما، والاستغراق فى القوقعة. كان ضحكا شبيها بالضحك الاصطناعي داخل العوامة فى فيلم "ثرثرة فوق النيل" عن رواية نجيب محفوظ، فبمجرد خروج أبطال الفيلم من العوامة بخمرها وحشيشها، سرعان ما يدخلون فى حالات من النجوى المأساوية لذواتهم الفارغة. كانت العوامة، فى الفيلم، القوقعة التى تفجر هذا الضحك.
المفارقة أنه بالجوار من هذه الفتاة والفتى اللذين يضحكان بشكل هستيري؛ كانت هناك فتاة وفتى آخران: الفتاة تبكي وهى تجلس على طرف الكنبة، بينما الفتى يجلس بجوارها وهو مستلق بظهره ورأسه على الكنبة ليستوعب حجم هذه المشكلة التى يتقاسمها مع الفتاة، والتى أظهرتها جديتها فى الحديث ودموعها.
لم يكن هناك جسر يصل بين نهرى الضحكات والدموع المتدفقين.
...............................................................
* هربرت سبنسر (1820 - 1903) يعد واحدا من مؤسسي علم الاجتماع الحديث.
** هنري برجسون (1859-1941). حاصل على جائزة نوبل، ويعد من أهم فلاسفة العصر الحديث.
*** إيمانويل كانت (1724- 1804). يعد أحد أهم الفلاسفة الذين كتبوا فى نظرية المعرفة الكلاسيكية.