«أستيكة» إردوغان
حوالي ٩ سنوات فى أخبار اليوم
من مفارقات الدراما التركية الجارية، أن الانقلاب العسكري العبثي فشل من أول لحظة، وكان لابد أن يفشل، فلا خطة ولا قادة ولا إعداد، بل تمرد عسكرى محدود متعجل، علم به إردوغان قبل أن يبدأ، وجرى خنقه فى المهد، لكن إردوغان الذى تباهى بالنصر العظيم السريع على انقلابيين لم يرهم أحد، يجرب هذه المرة أن ينقلب على نفسه، وبخطة مسبقة وإعداد شامل، فقد بدا كل شئ مدبرا بعناية، قوائم الاعتقالات والفصل من الوظائف بمئات الآلاف، والريبة فى كل شئ من حوله، وكأنه الأمير «هاملت» فى مسرحية شكسبير، وتوقع الخطر من كل سبيل، وإعلان حالة طوارئ مستديمة للتمكين لشخصه المذعور، والاستغراق فى لعبة «شقلباظات» مفاجئة على كل المواقف السياسية التى اشتهر بها، بالهرولة الملهوفة إلى إسرائيل، وتقبيل أقدام بوتين قيصر روسيا، وطلب الصفح والبركة من «الولى الفقيه» فى إيران، والبدء فى مفاوضات سرية مع نظام بشار الأسد، والجهر بقبول بقاء الأسد فى السلطة حتى إشعار انتقالى لا يجىء، والتنصل من «داعش» و»جبهة النصرة» التى أواها وسلحها ودعمها، وجعل من تركيا قاعدة خلفية وبيت إمداد ومنصة اجتماع لجماعاته «الإسلامية» التى يهجرها الآن، ويرميها كمناديل «كلينكس» فى سلة حمام العافية.
نعم، يخلع إردوغان نفسه، ويحطم بيده صورة حرص على رسمها وافتعالها طويلا، فقد قدم نفسه للغرب فى صورة الزعيم الديمقراطى، وبدت الصورة مغرية، وقابلة للإقناع فى عشرية إردوغان الأولى فى الحكم، فقد ألف حزب «العدالة والتنمية» من موارد متنوعة، بينها العنصر الإسلامى الذى ورثه عن أستاذه نجم الدين أربكان، ووضع نفسه وحزبه فى خانة «الديمقراطى المحافظ» لا الدينى الأصولى، وكان للخلطة تأثيرها الملموس، فقد قضى إردوغان على طبقة كاملة من السياسيين الأتراك التقليديين، ونجح فى الحلول محلهم بالسلطة بدءا من سنة 2002، والفوز فى دورات الانتخابات المتتالية، وإنعاش الاقتصاد التركى، وواصلت تجربته ازدهارها حتى عام 2012، ثم أغراه صعود الإخوان للسلطة بعد الثورات فى غير بلد عربى، أغراه الوافد الجديد برسم صورة جديدة لنفسه، وتخيل أنه السلطان العثمانى، لكن القضاء على حكم الإخوان فى مصر بدد أحلامه، وأصابه بلوثة عصبية، وشعر أن كرسيه يهتز من تحته، وتصاعد حديثه عن مؤامرات عفريته فتح الله جولن، خاصة بعد مظاهرات ميدان «تقسيم» فى أعقاب زلزال 30 يونيو فى مصر، وصب أردوغان جام غضبه على حكم السيسى، وجرب الادعاء بالمدنية ونصرة الديمقراطية ضد ما أسماه الحكم العسكرى، واتهم النظام المصرى بتصفية الإخوان ككيان مواز، واستنكر نعت جماعة الإخوان بالإرهاب، ولم تمر سوى سنوات قليلة لاهثة، حتى كان إردوغان يمضى على طريق من صورهم كخصوم للمبادئ، فإذا كان الإخوان قد اتهموا فى مصر بأخونة الدولة، فقد اتهم إردوغان جماعة فتح الله جولن بأنها «تجولن» الدولة التركية، وأطلق على جماعة جولن صفة الكيان الموازى، وسعى لاقتلاعها وتصفيتها جسديا بعد نعتها بالإرهاب، وتجاوز بإجراءاته فى شهر أضعاف أضعاف الإجراءات المصرية فى ثلاث سنوات، وحتى بدت الإجراءات المصرية كأنها لفحة صيف قياسا إلى جحيم إردوغان، وفيما عارضنا نحن إجراءات عقابية تأديبية جرت بحق عشرات معدودة من القضاة المصريين، فقد تجاوز إردوغان كل حد يمكن تصوره أو تخيله، وشطب كل ادعاءات الديمقراطية وحكم القانون بجرة قلم، وفصل فى ثانية ثلاثة آلاف قاضٍ، اتبعهم بفصل واعتقال الآلاف المؤلفة من المدرسين والكتاب والصحفيين وأساتذة الجامعات والموظفين والسفراء والفنانين ورجال الأعمال ونجوم الكرة، وكلهم من القوى «المدنية» التى يدعى الانتساب إليها، ناهيك عما جرى من تصفيات للجيش التركى والشرطة والمدعين العامين، فلا يمر يوم واحد، دون أن تسمع عن اعتقال وفصل الآلاف، وحتى ضاقت سجون تركيا كلها بما رحبت، وأخرج منها المساجين الجنائيين، وحتى يخلى العنابر والزنازين للمعتقلين السياسيين، فقد أعلن وزراء إردوغان عن اعتقال ما يزيد على أربعين ألفا حتى الآن، وربما لن يمر شهر آخر، حتى تسمع عن زيادة عدد المعتقلين السياسيين إلى مئة ألف، فوق فصل مئات الآلاف وتشريدهم من وظائفهم، وفى إجراءات عصف وحشى امتدت إلى أعضاء وقيادات حزب إردوغان نفسه، أصبح وصف الرجل لنفسه بعدها بالديمقراطى عبثا من العبث، ونكتة سخيفة لا يضحك لها أحد.
وبعد نسف صورته الديمقراطية المدعاة، ينسف إردوغان بنفسه صورته كإسلامى، ففى حديث له عن الداعية فتح الله جولن المقيم على بعد آلاف الأميال فى بنسلفانيا الأمريكية، قال إردوغان عن جولن إنه أصولى متعصب، وأنه داعية بليغ مؤثر، يبكى ويبكى المصلين معه فى خطب المساجد، واتهم جولن باستغلال اسم الله ورسوله الكريم، واستغلال دين الإسلام لكسب القلوب، وتسخير «الجن» لاستعباد العقول، وهى اتهامات غريبة حين تصدر عن شخص كإردوغان، خرج من معطف الإخوان والإسلام السياسى، ويستنكر على جولن ما فعله هو بنفسه، وما يشهد به تاريخه وحاضره كله، وكأنه يسلم ضمنا بكونه نصابا باسم الدين، ولا يريد لنصاب آخر ـ فتح الله جولن ـ أن يزاحمه على بضاعة النصب الدينى، فما عدوك إلا ابن «كارك»، ولا مانع عند إردوغان من قلب المائدة على «أولاد الكار» من أتباعه الإسلاميين والإخوان، وإن لم يحدث ذلك إلى اليوم، فقد يحدث غدا، ولن يعجب أحد إذا سعى إردوغان للتصالح مع مصر وحكم السيسى، وطرد الإخوان وتليفزيوناتهم من تركيا، وانقلب على أوليائه فجعلهم فى مقام الأعداء والمخربين، وقد بدأ بالانقلاب على جماعاته الإسلامية المحاربة فى سوريا، وعرضها للبيع فى سوق مساومات النخاسة مع روسيا وإيران.
وبالجملة، لا مانع عند إردوغان من الانقلاب على صورته التى صنعها على عينه، ومسح تاريخه بأستيكة !.