إلا باراك

حوالي ٧ سنوات فى التحرير

أحمل كمًّا كبيرًا من الاحترام والتقدير للدكتور محمد البرادعي، وأرى أنه رجل مفكر، صاحب مبادئ، وله بوصلة أخلاقية تحدد له المواقف التي يقرر أن يتبناها. وعندما عرفت من خلال تغريداته الشخصية أنه في طريقه للمشاركة في المنتدى السنوي الذي تنظمه جامعة ريتشموند الشهيرة في الولايات المتحدة لمناقشة ملف السلام المنسي في الشرق الأوسط، بجوار رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ومجرم الحرب بامتياز إيهود باراك.. احترمت بداية شفافيته ومبادرته هو إلى الإعلان عن ذلك اللقاء بدلا من إبقائه سرًّا، ولنعلم به بعد ذلك من الصحف الإسرائيلية كما جرى في لقاء العقبة الشهير الذي كشفت عن الصحف الإسرائيلية، وشارك به الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك عبد الله والرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كما كنت على ثقة بأن الدكتور البرادعي، المحامي القدير قبل أن يكون مديرا سابقا للوكالة الدولية للطاقة الذرية وحائزا على جائزة نوبل للسلام بسبب موقفه الصلب المعارض لحرب العراق في مواجهة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، كنت واثقا أنه سيلقن المجرم باراك درسا قاسيا في قواعد القانون الدولي، بما في ذلك أثناء الحروب، وسيقوم بفضحه أمام الرأي العام الأمريكي بصفته مشاركا في قتل المئات من الفلسطينيين في حرب "الرصاص المصبوب" ضد قطاع غزة في نهاية عام 2008 ومطلع عام 2009.
اعتقدت أن الدكتور البرادعي سيأخذ معه نسخة من تقرير القاضي الدولي ريتشارد جولدستون الذي صدر في أعقاب تلك الحرب الإجرامية، والذي اتهم وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت، باراك، بارتكاب جرائم حرب، وذلك باستخدام قنابل فوسفورية محرمة دوليا، وكذلك استخدام المدنيين دروعا بشرية، وقصف مقرات المستشفيات والمدارس والجامعات ومخيمات اللاجئين، بما في ذلك تلك التابعة للأمم المتحدة ومؤسسة الأونروا.
تقرير جولدستون فتح الباب لأول مرة أمام العديد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والدولية لبدء حملة مكثفة تدعو لاعتقال باراك وكبار قادة الجيش الإسرائيلي في تلك الحرب بصفتهم مجرمي حرب. وبالفعل، عندما زار باراك لندن، وكذلك وزيرة الخارجية تسيبني ليفني، تم تهريبهم بسرعة وعادوا أدراجهم بعد أن تقدم نشطاء بدعاوى أمام المحاكم البريطانية تطالب باعتقالهم. واضطر العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك بريطانيا وفرنسا وهولندا، إلى تعديل قوانينها لكي يتم استثناء المسؤولين الإسرائيليين من أوامر الاعتقال والمثول أمام المحاكم الأوروبية بصفتهم مجرمي حرب، وذلك لأن الجرائم التي ارتكبوها هي جرائم ضد الإنسانية يحق لأي محكمة عادلة النظر فيها.
أتحدث هنا باستفاضة عن آخر جرائم باراك فقط، حرب غزة 2008، وذلك لأن هذا الرجل تحديدا هو نموذج فاضح للصهيوني العنصري الدموي الذي يقتل الفلسطينيين والمصريين بدم بارد عندما يكون في موقع المسؤولية ثم يدعي بعد ذلك أنه يبحث عن السلام ويسعى لتحقيقه. باراك بدأ تاريخه الدموي في قتل الفلسطينيين والعرب منذ التحاقه بالخدمة العسكرية عام 1967، وعندما سألوه عن سبب قتله لما يزيد على مئة أسير مصري في حرب 1973، قال إنه لم يكن لديه أماكن لاحتجازهم، كما أنشأ لاحقا فرقة المستعربين المتخصصة في التخفي في الأزياء العربية، ثم دخول الأراضي الفلسطينية واغتيال الفدائيين. ولأنه قاتل محترف، فلقد انضم باراك شخصيا إلى فرقة الكوماندوز، وتخفى في زي سيدة شقراء وتوجه لقتل عدد من كبار قادة حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان، بزعم أنه كان لهم دور في عملية ميونيخ الشهيرة وقتل الرياضيين الإسرائيليين. وفي مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، توجه بصحبة فريق من القتلة لاغتيال الشهداء «أبو إياد وأبو جهاد في تونس». 
ومع بداية انتفاضة الحجارة في عام 1987، دافع بقوة عن سياسة تكسير عظام الفلسطينيين واعتبرها وسيلة مشروعة لقمع الاحتجاجات الشعبية ضد عنصرية الاحتلال.
بعد كل هذا السجل الدموي والإجرامي، لم يكن من الممكن أن ينطبق على باراك ما تحدث عنه الدكتور البرادعي في بيانه حول ضرورة السعي لمد جسور الحوار مع الإسرائيليين المؤمنين بالسلام، تماما كما فعل القائد المناضل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وكذلك المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد. 
باراك مجرم حرب ومقاول للقتل كما وصفته زعيمة حزب ميريتس الإسرائيلي السابقة، وليس رجل سلام. بل إنه عندما تولى رئاسة الوزراء في أعقاب اغتيال إسحق رابين في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، كان دائما يتراجع في اللحظات الأخيرة عن التوصل إلى اتفاقيات سلام حقيقية يتم بموجبها الانطلاق نحو بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وينحاز دائما لأعمال القتل وسفك دماء الفلسطينيين. 
وكان هذا هو تحديدا ما قام به في عام 2000 عندما سمح لشارون بزيارة المسجد الأقصى، وهو ما ترتب عليه قتل المئات من الفلسطينيين بعد انطلاق الانتفاضة الثانية، وكذلك تولى شارون نفسه رئاسة الوزراء بعد ذلك. وكان باراك يحمل ودًّا وتقديرًا كبيرين لشارون وكان يعتبره نموذجه الأعلى ورفض تماما الاتهامات التي تمت إدانته على أساسها بتسهيل وقوع مجزرة "صبرا وشاتيلا" في لبنان أثناء الاحتلال الإسرائيلي عام 1982.
 
لست من المؤمنين بدعوات الانسحاب من أي حوار أو مؤتمر به إسرائيليون وترك الساحة خالية لهم لكي يرددوا أكاذيبهم. بل إنني مع المشاركة في هذه المناسبات لفضحهم وتوضيح وإدانة جرائمهم أمام جمهور قد لا يكون أتيحت له الفرصة الكافية لمعرفة وجهة النظر العربية. ولكن ذلك لا يعني مطلقا مصافحتهم والابتسام في وجوههم والوقوف دقائق مطولة لالتقاط الصور التذكارية معهم. وأول جملة كنت أتوقع أن ينطق بها الدكتور البرادعي في ندوة جامعة ريتشموند هي أنه لا يشرفه الجلوس بجوار مجرم حرب مثل باراك، وأن مكانه الحقيقي هو السجن، تماما كما سلوبودان ميلسوفيتش رئيس صربيا السابق والعديد من القادة الأفارقة الذين حاكمتهم المحكمة الجنائية الدولية. 

 

شارك الخبر على