ظاهرة الصراع بين السلطات في الدولة التسلطية

حوالي ٧ سنوات فى التحرير

أحد أكبر مشكلات الدولة والنظام السياسي في مراحل الانتقال من التسلطية السياسية إلى التحول الديمقراطي وإعاقاته تتمثل في هيمنة ثقافة سياسية سلطوية تتأسس على قيم وسلوكيات الإجماع القسري، أو بالإغواء بالمصالح والمنافع، أو استخدام الضغوط من النخبة السياسية الحاكمة من خلال الملفات الشخصية وأسرارها الدفينة الناتجة عن متابعات أجهزة الدولة لبعض الشخصيات العامة، وذلك لإجبارها على دعم ومساندة النظام، أو الإقلاع عن النزعة الانتقادية لسياساته وسلوكيات النخبة الحاكمة، أو انحرافات بعض عناصرها من خلال الانغماس في شبكات الفساد المنظم، أو لفرض قانون الصمت السياسي عليها.

ظواهر وأساليب عمل لأجهزة الدولة المختصة في البلدان التي لا تزال حياتها تدور في نطاق الحكم التسلطي، وتتردد في اتخاذ سياسات فعالة نحو الانتقال إلى الحكم الديمقراطي، وتطوير العلاقات بين سلطات الدولة الثلاث التنفيذية، والتشريعية، والقضائية، من خلال مبدأ الفصل بين السلطات الذي يمثل أحد بوابات وآليات الحكم الديمقراطي، سواء الفصل المرن أو الفصل الكامل في بعض الدول والنظم السياسية، كالنظام الأمريكي، إلا أن ثمة بعض من أشكال التعاون النسبي بين الكونجرس، والرئيس، والمحكمة العليا في إطار النظام الرئاسي، في حين أن النظم شبه الرئاسية – كالنظام المصري- أو البرلماسية، أو البرلمانية الفصل بين السلطات الثلاث يتسم بالمرونة وبعض أشكال التعاون فيما بينها.

النظم الدستورية في بعض البلدان التسلطية، ومنها مصر، لا تزال هناك فجوات بين الوثيقة الدستورية، وبين السلوك الفعلي للسلطات إزاء بعضها بعضًا، ويتسم الالتزام بالدستور بالطابع الشكلاني، والإجرائي، وفي الخروج على ضوابطه ومضمونه في كثير من الأحيان. من ثم تشكل مشكلة الفصل بين السلطات واحترام كل سلطة للاختصاصات الدستورية للسلطات الأخرى، أحد أكبر الإعاقات الهيكلية للتطور الديمقراطي في مراحل الانتقال السياسي، وذلك لعديد الأسباب والاعتبارات التي يمكن طرح بعضها على النحو التالي:

1- النظرة والإدراك والوعي السياسي الأداتي للدساتير والقوانين السائد لدى النخب ذات الأصول العسكرية والأمنية، لاسيما في أعقاب وصولهم إلى السلطة، حيث يرون أن الدستور والقوانين لا يعدوا أن يكونوا سوى أدوات لتحقيق أهدافهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لاسيما في أعقاب ثورة يوليو 1952، ومشروع التنمية الذي قاده الرئيس جمال عبد الناصر. من ثم كان الهدف الرئيس هو ضرورة تحقيق أهداف السياسات الاجتماعية، واعتبار الدستور والقوانين واللوائح أدوات لتحقيق هذه الأهداف التنموية. من ثم لم يكن ثمة اهتمام بضرورة التطبيق الفعال لقواعد مبدأ الفصل بين السلطات، والقواعد الإجرائية والموضوعية لنصوص الدستور، والقوانين، لاسيما تلك التي تمثل ضمانات للحريات العامة والشخصية للمواطنين. من ثم حدثت تجاوزات عديدة للقواعد الدستورية لاسيما عندما يتم وضع القوانين المنظمة لبعض النصوص الدستورية، ويتم تجاوز بعض الحقوق والحريات العامة بدعوى تنظيمها، على نحو يؤدي إلى اغتيالها عبر القانون والسلطة التشريعية.

2- هيمنة وثقل السلطة التنفيذية في إدارة الدولة، ومن ثم تزايد أدوارها حتى في النظم الديمقراطية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، في المبادرة بطرح مشروعات القوانين على البرلمان، ومن ثم تراجع دور أعضاءه في المبادرة بتقديم مشروعات القوانين، وذلك على نحو نسبي مقارنة بالحكومات في الديمقراطيات الغربية، في حين أن دور أعضاء البرلمان والحزب السلطوي الواحد في مصر، كان يلعب دورًا تعبويًا ومساندًا للنخبة الحاكمة ورئيس الجمهورية والحكومات المتعاقبة فقط، ولا تأثير له في صياغة القوانين، أو طرح موجهات وقيم عامة للسياسة التشريعية التسلطية. من هنا تراجع دور أعضاء البرلمان في النظم التسلطية لصالح الدور المتزايد للسلطة التنفيذية في تقديم مشروعات القوانين التي يتم تمريرها من خلال البرلمان وإصدار رئيس الجمهورية لها.

3- تزايد الدور التشريعي لرئيس الجمهورية في النظام المصري تاريخيًا، من خلال أداة النظام القانوني للقرار الجمهوري بقانون، وعدم التقيد بضوابطه الموضوعية والإجرائية، ووصل الأمر إلى إصداره في غير حالاته، وفي النطاق المحجوز للسلطة التشريعية، كما كان يحدث طيلة تطور نظام يوليو من ناصر إلى السادات، إلى مبارك، وغالبًا ما كان يتم تمرير هذه القرارات بقوانين من البرلمان، وهو ما برز في أعقاب 30 يونيو 2013 في مصر، لاسيما القرارات الجمهورية بقوانين التي أصدرها الرئيس المؤقت المستشار/ عدلي منصور، ورئيس الجمهورية المنتخب المشير/ عبد الفتاح السيسي، وطرحت بعد انتخاب مجلس النواب على أعضاءه لتمريرها وإقرارها.

4- العلاقات بين السلطات الثلاث اتسمت في ظل نظام يوليو بالاختلال لصالح السلطة التنفيذية، وهو ما يبرز في عديد النقاط على نحو ما نشير إلى بعضه فيما يلي:

أ- دور الحزب الحاكم ونوابه – ومثاله الوطني الديمقراطي المنحل بعد 25 يناير 2011- في تمرير مشروعات القوانين المقدمة من الحكومة والموافقة عليها في الغالب، أو تعديل نسبي ومحدود في بعضها إذا كان يمس بعض المصالح الاجتماعية والاقتصادية لرجال الأعمال، أو لملاك الأرض الزراعية، لاسيما في مجال الضرائب .... إلخ.

ب- وجود بعض القيود على سلطات القضاء والقضاة، ومن ثم كان خطاب استقلال القضاء في أعقاب مذبحة القضاء ذائعة الصيت، أحد أبرز مطالب شيوخ القضاة وأجيالهم الشابة تاريخيًا قبل المذبحة على نحو ما ظهر في بيان نادي القضاة الشهير، وبعد ذلك في ظل حكم السادات ومبارك مما أدى إلى إدخال بعض التعديلات على قانون السلطة القضائية ومجلس الدولة للتخفيف من بعض هذه الضوابط، وحذف بعضها، إلا أن الاستقلال الكامل لا يزال يحتاج إلى إصلاح دستوري وقانوني وسياسي شامل.

ج- نزوع غالب رؤساء الجمهورية إلى تركيز السلطات الدستورية وفوائض السلطة الواقعية الموروثة لمن يشغل موقع رئيس الجمهورية في ظل الطابع التسلطي لتقاليد الدولة والنظام والثقافة السياسية السائدة منذ 23 يوليو 1952، وإلى الآن.

شكلت المراحل الانتقالية الثلاث، حالة من الاضطراب في علاقات السلطات وعدم التوازن، ومن ثم اختلال مبدأ الفصل بين السلطات لاسيما في أعقاب وصول الإخوان المسلمين والسلفيين إلى السلطة، - البرلمان ورئيس الجمهورية - حيث انتهك غالب النواب هذا المبدأ الركين للدولة الحديثة من خلال الهجوم المستمر على القضاء المصري، ومحاصرة السلفيين لمجلس الدولة ومعهم الإخوان المسلمين للمحكمة الدستورية العليا للحيلولة دون إصدار أحكام مفصلية في بعض القضايا الهامة، وعلى رأسها ترشح حازم صلاح أبو إسماعيل للانتخابات الرئاسية، ومدى توافر الشروط المقررة في حقه، لأن والدته تحمل الجنسية المزدوجة المصرية والأمريكية، ومن ثم تم حصار مجلس الدولة. ثم قيام جماعات من الإخوان المسلمين بحصار المحكمة الدستورية العليا في أول يناير 2013، لمنعها من الانعقاد وإصدار حكمها في قضايا تحملُ طعونًا في الإعلان الدستوري المعيب الذي أصدره الرئيس الإخواني محمد مرسي. لا شك أن هذه الضغوط الكثيفة شكلت مساس بمبدأ فصل السلطات، من خلال الإعلان الدستوري في 22 نوفمبر 2012.

من ناحية أخرى الهجوم الضاري من أعضاء البرلمان من الإخوان، والسلفيين على القضاء والقضاة، وعلى الحكومة والتدخل في شئون كليهما، بما يجاوز مبدأ الفصل بين السلطات. هذه المرحلة من السيولة والاضطراب، والاعتماد على سياسة الشارع من قبل القوى الإسلامية السياسية، أدت إلى حالة صراع بين السلطات، لا يزال بعضًا منه سائدًا في العلاقة بين السلطتين التشريعية والقضائية على نحو ما نشهده أولاً: في مشروع تعديل قانون السلطة القضائية الذي تم الموافقة عليه من حيث المبدأ، وأثار خلافات حادة من قضاة مجلس الدولة، ومن نادي قضاة مصر، والنوادي الفرعية. ثانيًا: في طريقة تعامل السلطة التنفيذية مع أحكام المحكمة الإدارية العليا بخصوص جزيرتي تيران وصنافير، وهو ما سوف نتناوله في المقال القادم.

شارك الخبر على