عصر الظرفاء «٢ ٢»
أكثر من ٨ سنوات فى التحرير
أستكمل الجزء الثانى، والأخير، من قراءتى الشخصية لعصر "الظرفاء"، والذى شهد بزوغه فى بدايات القرن العشرين حتى منتصفه تقريبا.
فى عصر "الظرفاء" هذا كان هناك تصور مختلف عن النفس، كان إبراهيم المازنى المتشائم فى كتاباته وآرائه فى الموت والحياة شخصية فى غاية المرح والسخرية، كما يصفه أصدقاؤه فى حياته العادية. كان يسرف فى تشاؤمه كما يسرف فى سخريته وهزله. يسمح لك هذا العصر بأن تؤدى أكثر من دور فى آن، بدون أن تشعر بتناقض أو بخيانتك لنفسك.
أيضا هناك شخصية السيد أحمد عبد الجواد فى ثلاثية نجيب محفوظ، كان له هذا الازدواج فى البيت وخارجه، الجدية والهزل معًا. جمع الاثنين فى ذات واحدة، الملهاة والمأساة معًا، وسار بهما إلى النهاية بدون تناقض. المأساة حدثت مع ابنه فهمى أو الابن الأصغر كمال لأنهما رغبا فى الاتساق بين الداخل والخارج، أن يعيشا بدون تناقض. فهمى مات شهيدا فى إحدى المظاهرات ضد الإنجليز، أما كمال فقد أصبح مأزوما ومأساويا فى شكل نظرته للعالم، كونه نظر لنفسه نظرة جديدة، أصبح يشعر بضعفه الذاتى، الناتج من أحد "عيوب" هذه الذات، التى بمجرد اكتشافها، على رأى برجسون، ودخولها فى دورة حياة الفرد؛ تميل شخصية صاحبها باتجاه الجزء المأساوى من الحياة، وليس الساخر.
تعدُّد البدايات
ربما عصر "الظرفاء" هذا، بدايات القرن العشرين، كان به تعدد البدايات، وبالتالى سمح بتعدد الأدوار، أو بمعنى آخر سمح بالتجريب والارتجال، بعكس العصور التى تلته التى تقلصت فيها أدوار الذات، فلن تقدر أن تتمثل فيها صورة أخرى غير صورتك، كى تكون موجودا. بمعنى آخر تجعلك تظهر بدون خيال، تعيش بدون ملهاة أو مأساة حتى. ربما كان هذا الثمن هو الذى دفعته الأجيال التالية لأجيال "الظرفاء" من خيالها الجمعى، من أجل نقد مفهومى "البطولة" أو "السلطة"، اللذين رافقا ظهور فكرة "البطل"، بمفهومه السياسى، مع ثورة 52. وكان أحد أسبابه، هذا الجزء المدفوع من الخيال الجمعى، هو تقليص حجم الأدوار المتاحة أمام الذات، واقتصرتها على نموذجين أساسيين: البطل، وضد البطل.
"ضحكتنا دومًا هى ضحكة المجموعة"
ربما كان عصر "الظرفاء" هذا يجيد "التمثيل" بكل المعانى، به أدوار وقوالب جاهزة صالحة للجميع: الحرامى والسكير والمحب والتقى والمثالى والخيالى والضاحك. بدايات عصر تقسيم الأدوار قبل أن تبدأ اللعبة الجدية. ربما امتد زمن اللعبة حتى ثورة 52، بعد ظهور "الإيجو القومى"، وبعدها انحسرت الأدوار وأصبح هناك دور/ قالب واحد للبطولة، أو ضدها.
ربما حضور المستعمر الإنجليزى، قبل 52، جعل "البطولة"، فى ذلك الوقت، موجهة للخارج، كونها فعلا اجتماعيا أكثر منه فعلا شخصيا. كما فعل فهمى ابن السيد أحمد عبد الجواد باستشهاده فى المظاهرة فى الثلاثية. وليست موجهة للداخل -كما ظهرت بداياته عند الابن الأصغر كمال- لداخل الذات نفسها، كما سيحدث بعد رحيلهم من مصر، وظهور عصر "التحرر"، مع عهد عبد الناصر، الذى أدخل مسألة "السلطة" و"الأبوية" و"الديكتاتورية" و"الرأى الواحد"، و"القالب الواحد" الذى حاول أن يصوغ المجتمع، وغيرها من الصيغ الأبوية، فى "قلب مشهد الذات" وليس خارجها.
ألغى عصر عبد الناصر الأدوار والزوايا المتعددة للبطولة الاجتماعية، ولخصها فى مفهوم/ قالب واحد، والذى بدوره أفقد السخرية أهم عناصرها وهى "الجماعية" والتعدد، كما يكتب برجسون فى كتابه "الضحك": "إننا لا نتذوق الهزل (النكتة) إن شعرنا أننا وحدنا. إن ضحكتنا هى دوما ضحكة المجموعة. الضحك يخفى فكرة خلفية تفاهمية إذ يبدو أن الضحك يحتاج إلى الصدى. إن الضحك يجب أن تكون له وظيفة اجتماعية".
صلاح جاهين وعبد الرحمن الخميسى
عصر "الظرفاء"، هو عصر النكات والمقالب والأرواح المتسعة والفرفشة، الذى أنتج، ضمن ما أنتج، فى نهاياته فى الستينيات، شخصيتين فى غاية الأهمية على المستوى الشخصى والإبداعى: "صلاح جاهين"، و"عبد الرحمن الخميسى"، واللذان يعدان فى رأيى، نموذجين انتقاليين يجمعان بين عدة عصور، يجمعان بين جنباتهما بين الملهاة والمأساة.
عصر "الظرفاء" هو عصر السخرية من النفس بدون تعذيبها أو تعذيب الآخر، قبل أن تصل النفس إلى أزمتها القادمة، التى ستصادفها الأجيال التالية، حيث يحدث فيها التمثيل للذات، بدون وسيط، أو بدون أدوار لها بعداها الفنى والخيالى.
غياب الخيال، أو تقلص دور الفن مع الوقت، مع جمود المجتمع، أدخلنا فى أزمة حادة، وأفقدنا ضمن ما أفقدنا، روح المرح والنقد والسخرية. ربما فقدنا لهذه الروح الساخرة ليس فقط بسبب داخلى، بل عالميا بسبب طرق تحديث استغلالية، امتصت الخيال وسحبت حس المفاجأة أو المفارقة. ولكننا لم نقاوم وندافع عن ملهاتنا، بل استسلمنا لمأساويتنا الناقصة والمعطلة، بسبب جمود المجتمع. استسلمنا لحجم محدود من الخيال لم تطل منه سوى "الفردية" بوجهها الأنانى، حيث الدور الواحد والبطل الواحد بعد ثورة 52. ربما لأنه الدور الأسهل تمثلا، ولم نخترع أدوارا جديدة لتعيش بداخلها فرديتنا. شغلتنا مسألة السلطة والأبوية، وشغلتنا، فى رأيي، مسألة تحطيمها والخروج منها، خاصة بعد هزيمة 67.
ولكنى هنا أتساءل أيضا: هل كانت هناك طرق أخرى للمرح، خاصة بعد تضخم حجم "العيب الذاتى" بعد هزيمة 67، كأن أى أخطاء اجتماعية أو سياسية من الصعب تدارك عيوبها بسهولة، ويظل الخطأ كامنا فى جينات المجتمع إلى مدى أبعد من زمن حدوثه.
كانت هناك ذات لا تظهر الحقيقة ولكنها حقيقية
فى عصر الظرفاء كان أغلبهم أصحاب مزاج وفنانين. ربما الفن فى بداية القرن أنقذ الذات من الصدام، وكلما انحسرت وظيفته وتقلصت أدواره وتمثلاته، فى العقود الأخيرة، ضاقت هذه الذات، وانحسرت أدوارها ولم تجد نفسها العارية إلا هدفا كى تخرج من الأزمة. أصبح هناك حل وحيد للتعدد والسخرية والضحك، أن تعبر من نفق مأساتك وعيوبك، وتحركها وتتحرك معها، تجر قناعى المأساة والملهاة معًا، على أمل أن تجد فى نهاية النفق ضحكتك ومرحك فى انتظارك.
فى عصر "الظرفاء" كانت هناك ذات لا تظهر الحقيقة عن نفسها، وبالرغم من ذلك حقيقية. ربما كانت الحقيقة نفسها لها معيار مختلف واسع، بتعدد الذوات التى تسعى إليها، هو الذى سمح بهذه التمثلات العديدة لها، معيار ما بعد ثورة 19 وبداية الحقبة الليبرالية وصعود الطبقة المتوسطة، والجمعيات الخيرية، والصراع بين القديم والحديث والالتفاف الشعبى حول الوفد الذى خلق مخيلة جمعية، وظهور سيد درويش وزكريا أحمد وعبد العزيز البشرى، وبديع خيرى وفرقة زكى عكاشة والريحانى، والتى جعلت محمد المويحلى فى "حديث عيسى ابن هشام" يخرج أحد الموتى فى نهاية القرن التاسع عشر، بعد خمسين سنة من موته ليقابل الكاتب ويتحركان سويًّا ليشاهد التحولات فى القاهرة بعين الماضى. هذه المفارقة بين عصرين أوجدت السخرية. وجعلت يوسف الشربينى فى "هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف" يسخر من حياة الفلاح وبؤسها، ويتتبع أحدهم فى رحلته للقاهرة، فى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ويرصد المفارقة فى علاقته بالمدينة. كان هناك عصر مفارقة بامتياز والتى هى أساس النكتة على رأى العقاد.
كان للمجتمع أكثر من وجه ولكنه ليس مزدوجا أو منافقا
وأيضا كان الظرف العالمى، ما بين الحربين الأولى والثانية، أقل وطأة فى محاصرتنا، حتى فى وجود الاستعمار. هذا الاستعمار أسهم فى أن نلهو ونشحذ ذواتنا، لأنه شغلنا عن أن ننظر لذواتنا بقسوة، لم يجعلنا نكون ضد أنفسنا، جعل لسخريتنا من أنفسنا لعبة فنية تزيد مساحة الذات، بدون أن تدميها، وبدون أن نسقط فى عدائنا لنفسنا.
كانت الدراما مكانا جديدا للحقيقة لأن المجتمع كان يتحرك بدون "رقيب ذاتى"، مدفوعا بشحنات عبقرية من تفتحات بدايات القرن العشرين فى كل المناحى، كان هناك طموح اجتماعى وإصلاحى فى توسيع المساحة حول الحقيقة.
فى عصر "الظرفاء" هذا كان للمجتمع أكثر من وجه، وفى الوقت نفسه ليس مزدوجا أو منافقا، بل يعيش حالة فنية، حتى داخل البيوت، كان "رتم" الواقع العالمى يسمح بهذا، بيت الحربين، أن تجوّد من حياتك، وتذهب بها بعيدا فى الخيال والمثاليات.
ولكن بعد الحرب العالمية الثانية، وسرعة الإيقاع العالمى وبطء إيقاعنا الداخلى وتصلبه فى قالب، جعلنا نخسر هذه الحالة بسهولة.
ذوات عصر الظرفاء كانت فى غاية التعقيد
كان عصر "الظرفاء" هذا به تمثيل مختلف عن النفس، "تمثيل تمثيلى"، هناك تعقد فى دور الذات كى تسمح لها بأن تؤدى أكثر من دور بدون أن تشعر بالتناقض والدخول فى دوامة الأمراض النفسية والانقسام. لذا ذوات هذا العصر مركبة للغاية وليست بسيطة كما تبدو، كما السخرية والنكتة وغيرهما من أدوات المرح عناصر فى غاية التعقيد فى النسيج الاجتماعى. ومن هذه الذات المركبة خرجت المواهب الكبيرة، أغلبها من نفس العصر ذى الأدوار المتعددة.
ربما الشعور بالتحقق، لذوات عصر الظرفاء، وسط هذه الأدوار المتداخلة كان يحدث بإدارة عقد يجمع هذه الأدوار تحت مظلة الذات. التجاور، وليس الصراع، كان سمة اللحظة، الاعتراف المتبادل بين الذوات الداخلية. وربما لعدم وجود ضغط من الآخر الخارجى، سمح بتمدد وبإدارة التجاور، وأحيانا التجاوز، تحت مظلة منصفة للذات.
فى حياتى الشخصية، بعد التأزم، وفى السبعينيات، كان فى بيتنا صورة عبد الحليم حافظ، بنصفه الخالى من المرح والسخرية والضحك، بنصفه البطولى الذى يصارع أو يستسلم للضعف المتمثل فى "عيب" المرض، أو "الفقر".
عقدة "أوديب" ونهاية عصر الظرفاء
فى عصر "الظرفاء"، لم تكن المأساة قد تأكدت بحدودها التى ظهرت بها فيما بعد. لم تكن "عقدة أوديب" والصراع مع الأب من أجل حيازة الأم، قد دخلت الأدب المصرى بعد، لتصنع بطلا مأزوما بلا مرح كما عند "كمال" الابن فى الثلاثية، بعكس أبطال توفيق الحكيم فى "عودة الروح" أو "سجن العمر".
ربما افتقدنا مرحنا الآن، لأننا افتقدنا التعدد والجماعية وحس المفارقة، فقد تشابكت عناصر المفارقة. ربما سنكون ساخرين من الذات بحدة، بدون صناعة "نكتة"، ربما سنكون حادين جدا فى نقدنا، لأن أداة السخرية والضحك نفسها اتسمت بالعداء والتجريح للذات، بعد أن رأت "عيوبها" العميقة معكوسة فى الآخرين.
هل ظهور الشتائم الآن بهذا الكم المريع يعبر عن هذه الأزمة؟ أو أنها أداة نتجت عن الثورة؟
تظل هناك أسئلة من المهم الإجابة عنها، منها: هل فقدنا مرحنا؟