معارك يوسف بك كرم وداوود باشا

أكثر من ٣ سنوات فى تيار

المنفى الثاني والأخير
بعيد المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين في صيف ١٨٦٠، وصلت في أوائل آب من تلك السنة إلى بيروت بعثة عسكرية فرنسية مؤلفة من ٧ آلاف عسكري. مهمتها التدخل لحماية المسيحيين في لبنان. فدب الخوف لدى الحكومة التركية من خسارة اهم مقاطعاتها في السلطنة. فأرسلت على الفور وزير خارجيتها فؤاد باشا إلى بيروت في محاولة منها لإحتواء الوضع.
باشر هذا الأخير بمحاكمة المسؤولين عن المجازر التي حصلت، فعُلقت المشانق وحُكم على عدد كبير من الضباط الاتراك بالاعدام. فأعدم رميًا بالرصاص ١١١ شخصًا، وشنق ٥٧ آخرين، وحكم بالأشغال الشاقة على ٣٢٥ شخصًا ونفي ١٤٥. وكان بعض المحكومون من كبار موظفي الدولة في الشام. خورشيد باشا والي بيروت والمسؤول الاول والمباشر عن مجازر جبل لبنان حُكم عليه بالسجن مع اشغال شاقة في قلعة في قبرص وتوفي هناك. أحمد باشا والي دمشق حُكم عليه بالإعدام. الزعيم الدرزي سعيد جنبلاط حُكم عليه بالسجن وتوفي بعد اشهر قليلة فيه بمرض السل... وبعد أن استتب الأمن وعاد الهدؤ إلى البلاد أقلعت البوارج الفرنسية عائدة إلى ديارها.
كان وراء إرسال الحكومة التركية لوزير خارجيتها فؤاد باشا الى لبنان إبعاد القوات الفرنسية بطريقة دبلوماسية عن البلاد.
في حزيران ١٨٦١ تم توقيع بروتوكول من قبل القوى الأوروبية الخمس، فرنسا انكلترا بروسيا روسيا والنمسا، قضى بموجبه تعيين متصرف مسيحي كاثوليكي من السلطنة العثمانية على لبنان، ومجلس إداري وجيش وعساكر مؤلفة من عناصر لبنانية يهتمون بالأمن والسلم . فتم تعيين الأرمني داوود باشا لفترة ٣ سنوات غير قابلة للتجديد.
الخطأ الذي وقعت فيه الدول الخمس كان تعيين مسيحي غير لبناني متصرف على لبنان، في مخالفة واضحة لروح ونص البروتوكول الذي وافقوا عليه، فسببت بذورها الحوادث المؤلمة التي وقعت فيما بعد.
مع استلام داوود باشا الحكم، وبالرغم من كونه اجنبي ولكن ذو صفات ادارية حميدة، تواجه مع معارضة شرسة من غالبية اللبنانيين الذين كانوا يعارضون أن يحكمهم متصرف بعيد كل البعد عن مشاعرهم وتفكيرهم اللبناني. فعمل على استمالة كرم وعرض عليه قيادة القوات العسكرية اللبنانية التي كان قد اسسها حديثآ. رفض كرم العرض واعتبره اهانة بحقه وحق اللبنانيين ان يأتمروا بأجنبي، ولا يمكنهم القبول بهذا العرض.
وبعد أن استمال المتصرف بعض أعيان البلاد دعا إلى اجتماع موسع في مدينة البترون في أواخر صيف ١٨٦١ لعرض سياسته الإدارية. وشارك فيه فؤاد باشا ويوسف بك كرم.
شرح كرم في الاجتماع بوضوح واسهاب أسباب معارضته لإدارة داوود باشا شؤون البلاد. وعندما رأى المتصرف استحالة في إقناع كرم بالقبول به متصرفآ على لبنان، بدأ يعد العدة والدسائس ويخطط في كيفية أبعاده عن لبنان، فإتهم في الاجتماع وأمام الحضور كرم بالعصيان والتمرد على الحكومة التركية وبأنه حضرعلى رأس جيش مسلح من انصاره لتهديده.
وكانت ان توطدت العلاقات بين كرم وفؤاد باشا بعيد مجيء هذا الأخير إلى لبنان، فأقام له كرم مأدبة غذأ على شرفه في اهدن في صيف ١٨٦١ شارك فيها الأهالي وأعيان المنطقة. ولكن حين رأى فؤاد باشا خلال اجتماع البترون في كرم الشخص الذي يمكن أن يشكل خطرآ على السلطنة العثمانية لمطالبته بالحرية والاستقلال، والعدو الذي لا يمكن مصالحته، طلب من البيك أن يتوجه إلى مقر وزارته في بيروت دون تأخير.
تفاجاء كرم اثناء حضوره امام فؤاد باشا في الوزارة يأمره عدم التدخل في سياسة الدولة التي اعتبرها تهديدآ مباشرآ لمصالحها.
ايام قليلة مرت قبل ان يُستدعى كرم من جديد إلى المقر العام التركي حيث تم توقيفه وسجنه، ما أثار ردة فعل من قبل انصار كرم الذين هددوا الحكومة بإشعال الثورة في البلاد.
توصل داوود باشا بدهائه الى إقناع ممثلي الدول الأوروبية من الخطر الذي يمثله بقاء كرم في لبنان، واخذ موافقتهم على ابعاده خارج البلاد. فاصطحبه فؤاد باشا معه على متن الباخرة التي اقلتهما إلى اسطنبول في تشرين ١٨٦١ ريثما تنتهي فترة حكم المتصرف.
مرت السنوات الثلاث وكان كرم قد نقل اقامته من اسطنبول الى مصر، وقد سئم المنفى. فما ان تم تجديد ولاية المتصرف داوود باشا خلافاً للوعود التي كان قطعها له سفير فرنسا في الآستانة، حتى صمم كرم النية على مغادرة مصر والعودة الى وطنه رغم الصعوبات والعراقيل التى كانت تعترض عودته. فركب باخرة نقلته الى لبنان. فبلغ ميناء طرابلس في ١٢ تشرين الثاني سنة ١٨٦٤ ومنها صعد الى زغرتا خفية فدخلها ليلآ وذهب توآ الى كنيسة السيدة. وكان خبر قدومه قد شاع فتراكض الناس واخرجوا زعيمهم بين الزغاريد وطلقات البارود.
ذاع خبر عودة كرم الى عرينه، فاهتز له لبنان من اقصاه الى اقصاه، وجاءت الوفود من اطراف البلاد ترحب بقدومه. فأجفلت هذه الاخبار داوود باشا، اذ رأى ان كرماً لم يفقد شيئا من نفوذه. فأضمر الحذر وخشي شرآ من ناحيته. فلجأ الى البطريرك الماروني بولس مسعد ليوعز الى كرم ليكتب كتاباً يبين فيه انه يريد الإقامة في وطنه خاضعاً للشريعة والنظام . فقام كرم بما طلب منه البطريرك.
وكي يبتعد عن المشاكل، اتخذ كرم من اهدن مقرآ له. فمكث فيها حوالي السنة. وكانت قد شهدت عروس الشمال في تلك الفترة نهضة عمرانية لا مثيل لها، فرممت بيوتها وقصورها واصبحت محط أنظار يأتيها السياح والاجانب من كل أنحاء البلاد.
وفي شهر حزيران سنة ١٨٦٥ سافر داوود باشا الى الآستانة بعد ان اوعز الى نفر من اعوانه ليحدثوا قلاقل واضطرابات في لبنان اثناء فترة غيابه عنه، فيبلغ صداها الاستانة ويتخذها داوود حجة ضد كرم. فعمل هؤلاء برأيه وامره وحصلت حوادث واضطرابات في بعض الانحاء اللبنانية. فاغتنمها داوود فرصة سانحة ليعرض على حكومة الباب العالي ان وجود كرم في لبنان من شأنه ان يثير الفتن، وانه لا يستطيع ان يحكم البلاد الا اذا تخلص من كرم. فأعطته الدولة فيلقاً من الدراغون وفيلقاً من القوزاق مع قواد وذخائر ومعدات حربية.
وفي خريف ١٨٦٥ عاد داوود باشا الى لبنان وجعل مركزه صحراء جونية تحيط به الجيوش التركية واللبنانية. وأول عمل اتاه ان زاد الضرائب على اللبنانيين ليقوم بنفقات الجيش التركي الذي اتى به من الآستانة. فضج اللبنانيون وغضبوا. ولكي يجر داوود باشا كرم للتدخل في امور مواطنيه، القى القبض على البعض من اصدقاءه وانسبائه في كسروان من آل جدرا. وكان هؤلأ على عداوة مع آل بويز اصدقاء المتصرف. فأدرك كرم عندئذ ان داوود يريد التحرش به. فبدلآ من ان يدفع القوة بالقوة، اتخذ خطة سلمية وخرج من إهدن على رأس جمهور من أهل السلم وجاء الى كسروان لتهدئة الخواطر.
وفي تلك الفرصة اصدر داوود باشا اوامره الى العساكر الشاهانية المرابطة في دمشق للحضور الى لبنان والإنضمام الى الجيش التركي الموجود فيه.
واغتنم البطريرك الماروني بولس مسعد فرصة مجيء كرم الى كسروان ليعقد صلحاً بين هذا الاخير وداوود باشا. فخابر بذلك قنصل فرنسا في بيروت فجاء الى جونيه واظهر داوود باشا للقنصل وللبطريرك استعداده للصلح، بيد ان داوود الذي لم يكن يناسبه هذا الصلح، بذل كل ما لديه من خبث ومكر ودهاء لإفشال مساعي البطريرك الماروني.
ففي ليل ٥ - ٦ كانون الثاني سنة ١٨٦٦ اصدر اوامره الى جيوشه باطلاق النار على رجال كرم حالما يشاهدونهم، فيشتبك عندئذ الفريقان بالمعركة وتقع المسؤولية على عاتق كرم ويصبح مجرماً امام القانون وامام قنصل فرنسا والبطريرك الماروني، ويتسنى بعدئذ لداوود ان يجرد جحافله لمطاردة كرم والقضاء عليه، وهكذا حصل.
ففي صباح يوم الاحد ٦ كانون الثاني بينما كان رجال كرم يراقبون عن بعد حركات العساكر عند نهر ابراهيم، اطلق عليهم الجنود رصاص بنادقهم فقابلهم هؤلاء بالمثل واشتبك الطرفان بمعركة دامية. وكان كرم في تلك الساعة يسمع القداس في كنيسة مار دوميط البوار كسروان، فخرج ولحق برجاله خوفاً عليهم من غدر العساكر التركية. وكانت المعركة قد اشتدت، فأوعز كرم الى رفاقه بالابتعاد عن الشواطىء البحرية، فشقوا لهم طريقاً بين العساكر واخذوا ضفة نهر غزير اليمنى وساروا عليها صعودا الى الجهة المقابلة لبلدة غزير، وقد أبلى كرم ورفاقه في هذه المعركة بلاء حسناً.
ومنذ ذلك اليوم اشهر داوود باشا على يوسف بك كرم ورفاقه حرباً شعواء واخذت المعارك تتلو المعارك مدة ١٢ شهرا كان خلالها النصر حليف كرم ورفاقه البواسل.
وبعد معركة المعاملتين وغزير انسحب كرم ورجاله الى نهر ابراهيم ومن ثم عادوا الى زغرتا، وقد اعياهم التعب غاضبين من موقعة لم يكونوا لينتظروا وقوعها.
معركة بنشعي الشهيرة
واذ عرف كرم بأن الاوامر صدرت الى الجيوش التركية بالزحف الى زغرتا، دعا مواطنيه الى اخلاء البلدة والانسحاب الى إهدن. فانسحب النساء والاطفال وحمل الشباب والشيوخ السلاح والتفوا حول زعيمهم مصممين على مرافقته للحياة او للموت.
ذهب كرم الى قرية بنشعي يرابط فيها مع رجاله المؤلفين من حوالي ٤٠٠ مقاتل. وفي ٢١ كانون الثاني ١٨٦٦ دخل القائد امين باشا زغرتا على رأس ٣٥٠٠ جندي نظامي و٣٠٠ من الدراغون و٢٠٠ من القوزاق. ثم وصل اليه القائد الفرنسي الطاب Altabe على رأس ٨٠٠ عسكري لبناني، ثم انضمت اليهما عساكر طرابلس النظامية. وأقام امين باشا وضباطه وأركان جيشه في دار يوسف كرم في زغرتا التي خلعوا ابوابها. وفي ٢٥ منه غادر امين باشا وجيوشه زغرتا بعد ان احرقوا قسماً من بيوتها.
توسط جماعة من أعيان البلاد وسيادة المطران بولس موسى بأمر الصلح، وتبادل يوسف بك وأمين باشا المفاوضات الخطية. بعد ذلك تقرر الاجتماع في دير مار يعقوب كرم سدة في ٢٧ كانون الثاني.
وكان يوسف بك قد وزع رجاله بين قرى عرجس وكفرياشيت وبنشعي وكفرفو قبل الاجتماع بأمين باشا تحسبآ للمعركة التي يمكن ان تحصل، فقرر أن يكون ميدان القتال في بنشعي.
لبى كرم الدعوة وجاء الى كرسي الدير في صباح ٢٧ منه واظهر للقائد التركي خضوعه للسلطة العادلة ووضع سيفه بين يدي امين باشا دلالة على احترامه السلطة. فاتضح للقائد امين ان كرماً لم يكن متمردا على الحكومة. غير ان هذه المقابلة لم تسفر عن نتيجة لأن داوود باشا لم يرضى بأي اتفاق بينه وبين كرم. فأمر امين باشا ان يزحف بجيوشه على كرم والقضاء عليه. فزحفت العساكر النظامية الى قرية بنشعي وكان عددها من ٧ الى ٨ آلاف جندي. وما ان اطل غبارها في السهل ولمع بريق سيوفها في اسفل بنشعي حتى أمر كرم رفاقه بالانسحاب الى اعالي القرية والتحصن وراء الصخور ليصعدوا آمنين من هجمات العدو. بدأت المعركة واشتد وطيسها وقد استبسل كرم ورفاقه وقاتلوا قتال مستميت ودامت المعركة حوالي ١٢ ساعة اظهر خلالها كرم من الجرأة والمهارة الحربية ما ادهش العدو. فقد دحر العساكر وفاز بالنصر. وكانت خسارة الاعداء نحو ٤٠٠ جندي بين قتيل وجريح، وغنم كرم ورفاقه ما لا يحصى من البنادق و٣٠ برميلا من البارود. وقتل من رجال كرم ٨ اشخاص.
لقد حازت معركة بنشعى اسبقية من المجد عظيمة على جميع المعارك التي نشبت بين كرم وجيوش داوود باشا، لأنها جعلت الشجاعة فيها تتغلب على وفرة العدد٬ وقد تبارز فيها: من جهة جيش عرمرم، جيد التنظيم والأهبة، مجرباً في القتال، مستوفي القواد والمدافع، ومن جهة ثانية شرذمة من الاهدنيين، ضئيلة العدد، سلاحها من سقط المتاع، غير مدربة، تكاد لا تملك ذخيرة، وشيء وحيد كان يعضدها ويشجعها في غمرة الوغى إلا وهو محبتها للبنان ودفاعها عن حقه المهضوم.
بعد انتهاء المعركة ليلآ عمل يوسف بك على معاينة الجرحى ودفن القتلى والحفاظ على سلامة الأسرى الأتراك. فتعالت أصوات النصر والاغاني الملحمية في مخيم بنشعي وهي تذكر بأمجاد الماضي.
يقول الشيخ اسعد بولس المكاري في مذكراته: "ولما كان صباح يوم الأحد ٢٨ ك٢ خرجت فرق العساكر الشاهانية واللبنانية التي في زغرتا وبقيت الفرق التي في بكفتين وإيعال في مراكزها. وبلغت العساكر دير الجديدة وعسكرت الى جانبه. وكانت كشافتنا منتشرة في كفرياشيت وانا مع فرقتي في عرجس نترقب. ولم يمضي أكثر من نصف ساعة حتى تبادل الفريقان إطلاق الرصاص. وكان قسم من الأتراك يقاتلون رجالنا في كفرياشيت وقسم يهاجم فرقتي في عرجس. وكنت مشاهداً الموقعة، وعلى الرغم من موقفي الخطر في تل السهول الجرداء وقلة الرجال، لم أرَ بدّاً من مهاجمة العدو المسرع الى عرجس للقضاء على فرقتي الخاصة. فأصليناه ناراً حامية حتى أرجعنا العسكر فاتصل بخط كفرياشيت، فسرنا الى عرجس ومنها الى بنشعي ونحن نسمع صوت الرصاص وضجيج الأبطال لأن المعركة قد اشتدت.
وصلنا بنشعي فرأينا خطّ العسكر ممتداً منها الى الخرائب التي قرب مفرق طريق سبعل. فأطلقنا عليهم بنادقنا ودهمناهم بالهجوم الشديد والصراخ المخيف حتى ضعفت عزائمهم. وكنا قد عدنا الى بيوت شبشول وهاجمنا متاريسهم فانهزموا شر هزيمة. ثم هجمنا بخطّ عريض كأسنان المشط فنزل الفشل بالعسكر وتشتت في أرض كفرياشيت. ثم عاد فجمع قواه وأخذ يطلق علينا الرصاص بانتظام، إلا أنه فشل ثانية وتشتت في كلّ واد تاركاً صناديق الذخائر الحربية، واستولى عليها رجالنا فزادتهم قوة. وغابت الشمس ونحن نطاردهم الى نهر جوعيت، وظل بعض رفاقنا يتتبع آثارهم الى نهر رشعين حتى أبواب طرابلس.
وبعد هذا الانتصار عدنا الى بنشعي وقد خسرنا ثمانية من رجالنا. أما خسارة العدو فزادت عن 400 رجل بين قتيل وجريح، وشيء لا يحصى من البنادق والذخائر.
ورأينا ثاني يوم أن نواصل الزحف على نقط إيعال زغرتا ومن هناك الى مركز المتصرفية في طرابلس ونستولي على الحكومة العسكرية والملكية فيها ونوطد دعائم الاستقلال المنشود، ونستريح من داوود باشا وتدخل الأجانب في أمور الجبل، لكن البيك أبى ذلك قائلاً: "ليس من حقنا الاعتداء على قوة الدولة، وما علينا إلا أن ننتظر ما يدبّرنا به الرب".أما المعركة فقد دامت من ١٢ ألى ١٣ ساعة وكان عددنا حوالي ال٤٠٠ مقاتل فيما عدد العساكر من ٧ إلى ٨ آلاف عدا الدرغون والجند اللبناني وعلى رأسها أمين باشا وثلاثة بشوات غيره والمسيو الطاب معلمجي الجند اللبناني ومراد بك التركي".
ارتدت اصدأ معركة بنشعي من شمال لبنان إلى جنوبه ودب الحماس في نفوس اللبنانيين الذين بدأوا ينضمون سرآ الى صفوف كرم مستعدين للنضال والتضحية من أجل الحرية والاستقلال.
في أوروبا وبالأخص في فرنسا بدأ اسم كرم يتردد على مسامع الفرنسيين بحرارة وحماس واصبحت بطولاته على يد حفنة من الرجال مسلحين بشكل سيء حديث الساعة، فتناقلت الصحف وقائع المعركة بكل تفاصيلها والهزيمة النكراء والمخجلة التي مني بها الجيش التركي العظيم.
تخوف داوود باشا من امتداد الثورة على كامل الأراضي اللبنانية، فعمد الى طلب المساعدة الفورية من اسطنبول "لإبادة كرم"، فاستدعي خصوصآ من اسطنبول القائد درويش باشا الذي اخمد الثورة في مونتي نيغرو في البلقان.
معركة سبعل
وصل درويش باشا الى بيروت في ٢٣ شباط ١٨٦٦ وبعث على الفور بإنذار أخير الى كرم يطلب منه الاستسلام خلال ٣ ايام دون شرط. وفي اليوم التالي ابحر إلى طرابلس ومعه المتصرف وحسن باشا وامين باشا وعباس باشا وقبولي باشا ومصطفى باشا من الجيش التركي على متن السفينة البحرية "لبنان"، وأمر جيشه التوجه على الفور شرقآ نحو الجبال بعد ان حاصر الشاطىء اللبناني الشمالي وأصدر مرسومآ منع فيه بيع المواد الغذائية للأهالي الذين يقطنون منطقة نفوذ كرم تحت طائلة حكم الإعدام. فوقف لهم كرم ورفاقه بالمرصاد في قرية سبعل التي هي على محازاة بنشعي.
هاجم درويش باشا سبعل وايطو واحتلها بعد عراك شديد بالسلاح الأبيض. وقد استولى ايضاً على مركز عبرا بعد ان مني بخسائر فادحة. فشجعه هذا الفوز واعطاه دفع على ان يوعز الى الفرق الباقية التي اخذت بالزحف الى اهدن في مسالك وعرة وضيقة. واذ ذاك وجب على كرم ان يدافع عما هو عزيز لديه، فوقف يقاوم مقاومة عنيفة جدآ، وكانت المعركة دامية، فاسترجع عبرا وايطو وضايق الجحافل بين عبرا وسبعل وحصرها في سبعل. وقد دامت المعركة طيلة عشر ساعات، ولم ينقطع اطلاق الرصاص الا ثلاث ساعات ونصف بعد غروب الشمس".
وتحت جنح الظلام، ارتد كرم ورجاله البواسل على العساكر التركية فهزموها شر هزيمة وغنموا كمية كبيرة من الذخائر الحربية. وقد قتل احد عشر بطلآ من رفاقه البواسل، بينهم البطل بطرس توما الذي توفي بعد ايام متأثرآ بجروحه في قرية بلوزا. وقد أقيم له جنازة فيما بعد في كنيسة مار ماما إهدن حضرها داوود باشا.
وكان المتصرف أن عرض قبل ايام على توما هدايا ثمينة بينها حصان خيل لإستعطافه واستمالته إليه، فرفض توما العرض.
وبعد هذه المعركة اشفق كرم على رجاله الابطال الذين كانوا يموتون في سبيله فصرف معظمهم وانسحب مع بعض رجاله الى جهات الكورة والبترون. فمر بكفور العربة ودير البصه وكفرحلدا ودوما ومار يعقوب الحصن وبشعلي ودير ميفوق. وفي قرية اهمج حصلت مناوشة بين كرم والقائد الفرنسي الطاب وعسكره وانهزم فيها هذا الاخير (٤ آذار١٨٦٦ ).
للتعويض عن هزائمه وللإبقاء على هالته وسمعته عمد المتصرف على نشر الأخبار الكاذبة عن مجريات الأحداث واعلن امام الباب العالي عن انتصارات وهمية وبأن الجيش التركي قد تكلل بالامجاد في هزيمة كرم، ووصلت الاخبار عن اعتقال البيك وحتى عن مقتله.
وكان القائد درويش باشا وهو من أهم القادة الأتراك في تلك المرحلة قد شعر وتأكد بنفسه من بسالة وشجاعة رجال كرم، وأدرك بأنه اذا طالت الحرب وقت أكثر فإن اللبنانيين سوف يضطرون الى الالتحاق في صفوف كرم، فأعلن عن عزمه التوقف عن ملاحقة كرم في حال القى البيك سلاحه وقرر مغادرة لبنان، وهو على اتم الاستعداد لمساعدته في هذا الشأن.
وفي تلك الاثناء جاء داوود باشا وقواد الجيوش التركية الى إهدن واقاموا في دار كرم عدة ايام. ولدى مغادرتهم إهدن نهبوا هذه الدار واضرموا النار في جوانبها وكانت تلك الدار ملأى بالتذكارات التاريخية النفيسة.
وغادر كرم ورفاقه القلائل دير ميفوق مارين في قرى مشمش والعاقورا حيث ابقاهم عماد الهاشم صديق كرم القديم واستاذه في ركوب الخيل ليلة في داره، ثم اكملوا طريقهم الى عيناتا الارز ومن هناك ساروا الى وادي النسور حيث اشتبكوا مع العساكر التي أتت تطاردهم من بعلبك تحت قيادة قائمقام بعلبك.
وكانت الحكومة التركية خوفآ من سمعتها في الخارج، وتحت ضغوط المتصرف داوود باشا لإرسال تعزيزات عسكرية اضافية، قد أرسلت اسطولها البحري إلى لبنان لإخماد ثورة كرم، وفيها "فرمان" يأمر باعتقال كرم وقطع رأسه فورآ ودون محاكمة.
عمدت العساكر التركية بعد وصولها الى الشواطئ اللبنانية على احتلال القرى والبلدات في جبة بشري وجبيل ومقاطعات اخرى من شمالي لبنان حيث يعتقد وجود انصار كرم فيها، ومنعوا انتقال الأهالي من مكان إلى آخر دون شهادة خاصة لحسن السلوك.
عاد كرم الى إهدن بعد ان كانت العساكر الشاهانية قد تركتها لشدة البرد. وقد قاسى كرم ورفاقه في تلك الجبال العالية والمسالك الوعرة بين الثلوج المتراكمة من البرد والمشقة ما لا يدركه عقل.
وفي ١٥ حزيران جاء كرم ورفاقه عيناتا الارز لمصادرة الذخيرة القادمة الى طرابلس بخفارة عدد من الجنود فصادروها بعد عراك دامٍ.
وفي ٤ تموز ارسل كرم رفاقه لقتال العساكر التي اوفدتها السلطة الى بلدة حدث الجبة قضاء بشري، فأقبلوا على الحدث وقد ارخى الليل سدوله وباغتوا العساكر فيها، فهبت مذعورة من رقادها واخذ الجنود يضربون بعضهم بعضاً، فتركهم رجال كرم يجمعون شملهم واشلاء قتلاهم.
وبينما كان كرم ورفاقه في محلة عين الجوز (٧ تموز) بأرض بشناتا في قضاء الضنية، جاءه احمد آغا الانجا مدير الضنية على رأس ٨٠٠ جندي. فذكره كرم بحقوق الجوار فلم يحفل. فصاح عندئذ كرم برفاقه البواسل وهجموا على الاعداء واخذوا يضربون بهم حتى هزموهم شر هزيمة.
وكان قد ضاق داوود باشا ذرعآ من انتصارات خصمه المتوالية، فجرد عليه حملة جديدة من آلاف الجنود فطوقت كرم ورفاقه الثلاثين في محلة عين قرنة في جبال إهدن. واذ كان الوقت ليلآ جمع كرم رفاقه واوقد النار في جوانب القمة وخرج ومن معه تحت جنح الظلام الى غابة إهدن. ولما طلع الصباح ساروا الى قرية تولا. فرأى كرم ان العساكر تحاصره من كل جنب ولم يعد امامه سوى وادي مزياره العميق الذي لم تجرؤ العساكر على النزول اليه. فجمع رفاقه وخاطبهم قائلا: "هوذا ساعتنا الاخيرة قد دنت، ولم يبق لنا سوى ان نختار بين الموت تحت السلاح او الحياة تحت الاستعباد. فأي الامرين تختارون؟" فاجابوا "الموت تحت السلاح!" فعجلوا بالسير في بطن الوادي ووجدوا العساكر تسد مخرجه، فهجموا مقتحمين صفوف العساكر بصدورهم فانحسرت من امام وجوههم. وهكذ ا تمكنوا من ان يفتحوا لهم طريقاً بين العساكر بعد قتال مستميت وخرجوا من ذلك الوادي سالمين، بعد ان وقع اربع رجال منهم بأيدي العساكر بينهم القائد اسعد بولس المكاري.
وبعد هذه المعركة سرح كرم رفاقه ثانية وتوارى عن الانظار مدة اربعين يوماً، وبقي متخفيا الى ان جاء إهدن مدير بشري مفتشاً عنه ومعه ٣٠٠ جندي. وما ان اقتربوا من دار كرم حتى خرج عليهم شاهرآ حسامه بيمناه. ولما رأوه ولوا الادبار (١٥ كانون الأول ١٨٦٦).
واخيرآ لما رأى كرم ان هذه المعارك لا تنتهي الا بقتله او قتل المتصرف داوود باشا. ورأى انه اخطأ بتساهله وبالخطة السلمية التي اتخذها تجاه العساكر، اذ كان يتحاشى قتالها ما أمكن٬ وانه اضاع الوقت وضحى بالفرص السانحة لأخذ الثأر، ترك التحجب وسار في رائعة النهار الى برية اجبع ودعا رجاله للقتال فلبوا مسرعين. وقد أبت عليه نفسه وشجاعته وشرفه الا ان ينذر اعداءه الهائجين. وقد افهمهم قبل الزحف عليهم بأنه لما كانوا ما برحوا يطاردونه بالرغم من المعاهدات والاتفاقات، فقد عزم على مقابلتهم بالمثل وانه سيسحق كل من يجده من اصحاب داوود باشا اينما رآه.
والتف الاهدنيون حول قائدهم كرم العظيم وفي طريقهم سحقوا عوض بك حماده وجنوده في قرية عرجس الساحلية وراجي بك وجنوده في نواحي بشري. فدبت الحمية في صدور الشماليين فامتشقوا سيوفهم وتقلدوا سلاحهم ومشوا. فاهتز الشمال مرحاً وقرعت الاجراس طرباً وساروا الى حيث ينتظرهم النصر.
وكان خروج كرم من عزلته عيدآ بهيجاً في البلاد ورجاء وحياة لأهله. وكان كرم اينما حل يقابل في القرى بالهتاف والترحيب وعدد رجاله يزيد كلما تقدم. فسار وقوات داوود باشا وجحافله تتقهقر من امامه منهزمة حتى بلغ بكفيا. ففر داوود باشا من مركزه في دير القمر الى بيروت بعد ان حزم حقائبه لمغادرة لبنان، حائرا لا يلوي على شيء.
وكان داوود باشا بدهائه قد راسل القناصل من مرفأ بيروت قبل محاولته مغادرة لبنان ووضعهم تحت امر واقع وفرض شروطه عليهم: ان يغادر هو لبنان أو يوافق القناصل على ابعاد كرم عن البلاد. وطلب للحال عقد مؤتمر قنصلي الذي بعد مفاوضات عدة قرر الشروع بمفاوضة كرم بأمر الصلح. فجاء قنصل فرنسا العام الى بكركي ودعا كرم رسمياً الى مقابلته، فنزل كرم عند رغبة القنصل بعد ان اصبح على مشارف جبل لبنان الجنوبي. فعقد اجتماع حافل بالسيد البطريرك والمطارين والاعيان وقنصل فرنسا والالوف من اللبنانيين. فصرح القنصل لكرم: "اذا اردت ان تؤكد للدولة الفرنسية حبك وولاءك لها٬ فان جلالة الامبراطور نابوليون الثالث يمنحك حمايته الخاصة. وانا الآن اخاطبك باسم جلالته واصرح ان الامبراطور يمنح الحماية لرفاقك المعتقلين وان المتصرف يحترم اللبنانيين ويحافظ على املاكهم"
فأمام هذه العهود التي قطعها القنصل بصورة رسمية امام الحضور باسم جلالة الامبراطور، لم يسع كرم الا القبول بها حقناً للدماء، شرط اخلأ سبيل رجاله الأربعة الذين كان قد تم اعتقالهم، وكان له ما اريد. وقد بذل كرم كثيراً من نفوذه لاقناع الجماهير الهائجة التي كانت تمانع بعقد الصلح وبمغادرة زعيمها لبنان. فصرخ احدهم في الاجتماع : "يا بيك ما رح يرحمك التاريخ. فأجابه كرم مقولته الشهيرة : فلأضح انا وليعش لبنان". واكمل كرم بأن فرنسا لم تتعود الخداع وانه واثق بها وبممثلها تمام الثقة. وبعد ان مسح كرم تلك الدموع الغزيرة التي سكبت من اجل ابعاده ركب والقنصل وسائر من كان هناك قاصدين بيروت (١٩ كانون الثاني سنة ١٨٦٧) فخرج اهلها لاستقباله استقبال الفاتحين.
وكان موكب دخوله المدينة حافلآ جدآ لم يسبق لبيروت ان شهدت مثله، اذ مر الموكب بين سورين من الناس ممتدين من نهر الكلب الى بيروت. ومن تمكن من رؤية بطل لبنان عدً نفسه سعيدآ. وقد اقام له اعيان الموارنة في بيروت مآدب انيقة حضرها قناصل الدول واعيان لبنان.
في ٣١ كانون الثاني ١٨٦٧ غادر كرم لبنان الى مصر على متن باخرة كانت فرنسا قد وضعتها في تصرفه وسط حشود كبيرة ودموع غزيرة كانت في وداعه الأخير. وكانت كلما ابتعدت الباخرة عن الشواطىء اللبنانية خرجت الصلوات من شفاف كرم وقربته من ربه أكثر فأكثر. لقد بدأ صراع كرم مع القدر حتى الموت ويجب أن يخرج منه منتصر الوقت والشدائد، وبالرجال والأهواء.
غسان مكاري

شارك الخبر على