تهمة التعاطف

أكثر من ٨ سنوات فى التحرير

أعرف ماذا يعني التعاطف في المشاعر الإنسانية، ولكني لا أعرف تصنيفه في عرف القانون، هل هو إحساس خفي أم تهمة تستحق العقاب عليها؟

التعاطف، كما أفهمه، هو أن توجه مشاعرك نحو الآخرين، تحاول التقرب من الطريقة التي يشعرون بها ورؤية كيف ينظرون للأمور المختلف عليها، هو درجة متدنية من التفهم، لست ملزما فيها بتفهم دوافع الآخرين أو تبرير تصرفاتهم، أو حتى الموافقة عليها، يمكن أن أعتبره فضيلة سلبية، تحدد موقفك دون أن تلزمك بالقيام بأي عمل، ومع ذلك يراها القانون المصري واحدة من الجرائم التي تستحق العقاب، أو هذا على الأقل ما كشفت عنه القوائم التي نشرتها قوات الأمن، والتي تحتوي على أسماء 203 متهمين شملهم العفو الرئاسي الثاني، فللمرة الأولى كتب أمام كل واحد منهم التهمة التي استحق العقاب عليها، 200 منهم كانت تهمتهم "التعاطف"، والثلاثة الآخرون وبينهم فتاة كانت تهمتهم الإثارة، لا سرقة ولا قتل ولا تخريب، لا اعتداء على الممتلكات ولا تزوير أو رشوة وفساد، دون أي فعل مادي يمكن الاستناد إليه ويبرر تلك السنوات التي قضوها خلف القضبان، السبب فقط هو ذلك الإحساس اللعين بالتعاطف الذي يدور في أغوار النفس الإنسانية، ومع ذلك استطاعت قوات الأمن التوصل إليه، وقامت بتقديم الدليل المادي الذي أقنع القاضي ليصدر حكمه، وكلها أحكام مشددة بالسجن من ثلاث حتى سبع سنوات، والغريب أن القاضي قد استطاع أن ينام بعدها مرتاح الضمير لأنه أنقذ الوطن من أخطار المتعاطفين.

وربما كانت مصر هي البلد الوحيد الذي يعاقب على هذه التهمة، ولا أعتقد أن لها سندا أو ذِكرًا في أيٍّ من قوانين العالم، كما أنها المرة الأولى لقوات الأمن التي تفصح فيها عن تصنيفها للذين تقبض عليهم، وأن تصبح تحرياتها والشبهات التي تثيرها ضد بعض الشخصيات كافية لأن تكون مبررا لاستصدار الأحكام، فلا يمكن أن يوجد في القانون أو في مواد الدستور مادة يمكن أن تجرم الشخص بسبب التعاطف الذي لم يصل حتى إلى درجة الاقتناع.

في الاجتماع الثاني الذي عقده الرئيس السيسي مع دفعة من المثقفين المصريين كنت واحدا منهم، كنت حاضرا في الاجتماع الأول أيضا، ولكن ذلك كان في بداية عهد الرئيس، وكان الحوار خليطا من الأحلام والأمنيات، ولكن الاجتماع الثاني جاء بعد ثمانية أشهر من حكمه، كانت المشكلات رغمًا عن أنف الجميع قد تراكمت، فالمشكلات في مصر لا تتكاثر، لكنها تتضاعف، ولم يعد يجدي التحدث بلهجة رقيقة، خاصة وأنه كانت هناك مساحة من الحرية تسمح لنا بالحديث، كما نشاء، وتصاعدت درجات الحديث لدرجة أن الرئيس قال ممتعضا: أنا لم أتولَّ الحكم إلا منذ أشهر قليلة، فلا تعلقوا كل شيء في رقبتي، ولكن موضوع السجناء، خاصة الذين كانوا من ضحايا قانون التظاهر، كان مطروحا بشدة، الجميع كانوا يتحدثون عنه بطريقة غير مباشرة أو صريحة، وكان الصديق إبراهيم عبد المجيد منفعلا وهو يتحدث عن حالة أحد السجناء الشبان، كان مهددا بفقد ساقه داخل السجن، وكان قد قبض عليه فقط، لأنه كان يرتدي قميصا مكتوبا عليه "لا.. للتعذيب"، وتساءل: هل الذين قبضوا عليه كانوا يريدون أن يكتب على القميص "نعم للتعذيب"؟! وقد دعا هذا الرئيسَ إلى أن يطرح علينا سؤالا مهما: كيف يمكن التوفيق بين ضروريات الأمن وصون حريات المواطنين في الوقت ذاته، وبعد طول نقاش، وضع الرئيس الكرة في ملعبنا، كما يقولون، طلب منا أن نعد قائمة بسجناء الرأي، والذين يقبعون في السجون دون أن توجه لهم تهم محددة، وخرجنا جميعا من الاجتماع وكلنا أمل في أن نفعل شيئا في هذه القضية الشائكة، وتذكرنا قول عمر بن الخطاب "لَفكُّ رقبة أسير أحبُّ إلى قلبي من ذهب مكة وبطاحها".

عقدنا اجتماعنا الأول في وزارة الثقافة بحضور الوزير، وكان الاتفاق المبدئي بيننا أن نعمل في سرية تامة بعيدا عن كل وسائل الإعلام، وبدأنا على الفور في الاتصال بجمعيات حقوق الإنسان التي تملك القوائم، كلها كانت موجودة، الذين سجنوا والذين تم الحكم عليهم والذين اختفوا دون تفسير، لم تكن هناك قوائم سرية، بل إنها قدمت إلى جهات الدولة المختصة أكثر من مرة، ولكن هذا لم يوقفنا، كنا نعتقد أنه لو استطعنا الإفراج عن سجين واحد فسوف نكون قد نجحنا في مهمتنا، ولكن المشكلة أنه لا توجد أسرار في مصر، كل سر يطفو مع الهواء ويصل إلى كل الآذان، وفور أن انتهى الاجتماع أصبحت كل التفاصيل، كل المناقشات، كل الاقتراحات، كلها معروفة، ولم تكفّ هواتفنا الخاصة عن الرنين، صحفيون ومعدو برامج كلهم يطلبون الإدلاء بأحاديث، يريدون معرفة التفاصيل، لم يكن أي شيء قد تحقق، وكنا لا نزال نتحسس طريقنا وسط ألغام لا نعرفها، ولكن الأسوأ حدث عندما وصلت هواتفنا إلى أهالي المعتقلين، وبدأت القصص المرعبة تتوالى، أمهات وآباء لا يدرون شيئا عن مصير أولادهم، يرجون ويتوسلون، يقسمون بكل الأيمان أن أبناءهم أبرياء لا يستحقون أي عقاب، كانت آمالهم كبيرة في أناس لا يملكون أي سلطة، مثلهم تماما يعيشون على حافة الخطر. 
واصلنا عقد الاجتماعات وتجميع القوائم، ولكن الأحداث هي دائما الأسرع، أثيرت مشكلة جزيرتي تيران وصنافير، وعادت المظاهرات والاحتجاجات مرة أخرى، وتكاثر عدد المعتقلين، تكاثر عدد المتعاطفين، ولم يعد من الممكن ملاحقة الأرقام، ورغم أن القضاء قد أبطل الاتفاقية وأسقطها، فإن السجناء ظلوا خلف القضبان، وضاعت لجنتنا في خضم الأحداث، رغم اجتماعنا مع الرئيس، إذ لم نكن نملك تلك الدرجة من القرب من السلطة التي تتيح لنا الضغط والمواصلة.

ولكن الأصوات لم تمت، ظلت تواصل الارتفاع والمطالبة، كانت عالية جدا ومذاعة على الهواء في مؤتمر الشباب الذي عقد في شرم الشيخ، وقد تحملت لجنة الإفراج عن المعتقلين التي تم تمخض عنها المؤتمر، المسئولية.. مجموعة مختارة من الشخصيات كانوا أفضل منا، أكثر إصرارا وأطول نفسًا، وقد نجحوا بالفعل في الإفراج عن أعداد صغيرة في الدفعة الأولى، وظلوا على الدرجة نفسها من الدأب والصبر حتى تم الإفراج عن أعداد أكبر قليلا في الدفعة الثانية، لكنها أعداد صغيرة لا تقاس بحجم المشكلة ولا بالوقت الطويل الذي يمضي قبل اتخاذ قرار الإفراج، ففي خلال هذه الفترات الطويلة يتم القبض على أعداد أخرى. 
وما دام احتجاز الأشخاص يتم وفق تهم غير واضحة ومحددة، وما دامت تهمة التعاطف سيفا مسلطا، فيبدو كأننا ندور في دائرة مفرغة، ولن تفيد القوائم ما دام هناك عدم تقيد، لا بالقانون ولا بالدستور.

شارك الخبر على