حكاية الأسد وإسرائيل

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

فجأة، وفي ظل فوضى ميدانية في سوريا خلال الأيام الأخيرة، أفادت وسائل الإعلام التابعة لنظام الأسد أن "قوات الدفاع الجوي السورية أطلقت صاروخا بعد غارة جوية إسرائيلية، فأسقطت طائرة، وأصابت أخرى، وأجرت اثنتين أخريين على الفرار".
فسكتت إسرائيل لعدة ساعات فقط بعد إطلاق تصريحات الأسد ووسائل الإعلام التي تشجعه. ولكن الميليشيات الإعلامية في وسائل الإعلام الروسية بدأت بالرقص والغناء، والتذكير بالماضي الجبار لحزب البعث وتضحياته في أراضي معارك التحرير. 
الأمر الذي يذكرنا جيدا بما بثته نفس وسائل الإعلام هذه بـ"مقاتل عجوز في شمال سوريا نجح في قتل ما يقرب من 3000 داعشي"، وهي الرواية المشابهة تماما لرواية راعي الأغنام الذي أسقط مقاتلة أمريكية بنبوته في العراق إبان معارك صدام الجبارة لتحرير الأمتين العربية والإسلامية.
بعد قليل، تنازلت وسائل الإعلام الأسدية عن روايتها الأولى، وقالت إن وسائل الدفاع الجوي السوري "تصدت" لطائرات إسرائيلية، ولم تتحدث عن إسقاط أي شيء. وهنا ظهرت البيانات الإسرائيلية التي أعلنت أن طائرات "الكيان الصهيوني" عادت بسلام وأمان إلى "أرض الميعاد"، فبدأت الميليشيات الإعلامية الأسدية تتبنى رواية حول إطلاق صواريخ ما. عقب ذلك، أعلن الأردن أنه عثر على بقايا صاروخ تابع للأسد على أراضيه بعد أن حطمته وسائل الدفاع الجوي للعصابة الصهيونية على الأراضي الأردنية.
نظام الأسد ليس الوحيد الذي يدفن رأسه في الرمال. كلهم يصنعون انتصارات صغيرة وهمية، ويجدون الميليشيات المناسبة والشخصيات المناسبة للترويج لهذه الأكاذيب والضلالات، بينما الشعوب إما جائعة أو مشردة ولاجئة، أو ضحاياهم وضحايا الإرهاب معًا.
انتهت قصة الغارة الإسرائيلية بسرعة البرق، لتترك لنا رواية أخرى في غاية الخطورة. والرواية تدور حول قوة الأسد الجبارة التي جعلته يغيِّر موازين القوى في الشرق الأوسط، ويقف في وجهة العدوان الإسرائيلي على الأمة العربية. وبالتالي، انضم الأسد إلى طهران وحزب الله في خندق مواجهة إسرائيل ومقاومتها حتى النهاية. هذا الكلام يقال الآن ويتم الترويج له، بعد أن اختلطت الأوراق بشدة على الأرض، واقتربت التفجيرات من وسط دمشق، بينما روسيا تحافظ على اللاذقية وطرطوس باعتبارهما مدينتين روسيتين، وتركيا في الشمال، والأمريكيون يقفون على بعد أمتار من الروس في منبج، ويجري التحضير حاليا لمعركة "الرقة" التي تم استبعاد الروس والأسد والميليشيات الإيرانية منها. 
والمشهد كالتالي، الأسد يواجه الآن الإرهاب وإسرائيل هو وإيران وحزب الله، وذلك نيابة عن العالم كله. أي أن الأسد يدافع عن البشرية من جهة، ويحمي الأمتين العربية والإسلامية من جهة أخرى، ويقوم بما لا يستطيع أي نظام سياسي عربي القيام به. وهو في الحقيقة، ما يستحق من وجهة نظره، ووجهة نظر من يخططون ويروجون له الدعم والمساندة، والإبقاء على حكم الأسد وشلته وميليشياته إلى أبد الآبدين، لأنه يحمي العالم والأمتين العربية والإسلامية من الإرهاب وإسرائيل.
لا يخفى على أحد أن روسيا أخذت على عاتقها فرملة إسرائيل بدرجة أو بأخرى، بينما تحملت إيران مسؤولية كبح ميليشيات حزب الله في سوريا. ومع ذلك فالدوران الروسي والإيراني في هذا الصدد ليسا كاملين، وليس باستطاعة موسكو وإيران التحكم حتى النهاية في الضغط على حلفائهما. الأمر الثاني، هو أن الضربة الصهيونية لمخازن الأسلحة التابعة لميليشيات حزب الله في سوريا جاءت بعد يومين من لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو. وهذا يطرح بدوره تساؤلات وأسئلة كثيرة للغاية. ولنبتعد قليلا عن الحملات الإعلامية الصبيانية، والضلالات القومية والوطنية، وعن الأخبار "المضروبة". 
هل هناك خلافات بين روسيا وإيران بشأن دور حزب الله في سوريا؟ هل غضت موسكو البصر عن تحركات إسرائيلية ما ضد نشاطات هذه الميليشيات لتوقفها قليلا؟ هل خدع نتنياهو بوتين؟ ماذا يريد الأسد بالضبط؟ وماذا تريد روسيا أيضا؟
تساؤلات كثيرة تطرح نفسها، لا لإثبات رواية ما ولا لمحاولة اختزال الأمور وتبسيطها، والعودة إلى مربعات "النضال القوي" و"الممانعة" و"جبهات الصمود والتصدي". 
في هذه الأثناء، تم الترويج لأنباء ساخنة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن موسكو استدعت السفير الإسرائيلي ووبخته بشدة على هذه "الحركة". وفي الحقيقة، لم يصدر عن "الخارجية الروسية" أي بيانات بهذا الشكل. كل ما في الأمر أن السفير الإسرائيلي الجديد كان قد قدم أوراق اعتماده قبل الضربة بيوم أو اثنين. وحصل اجتماع بينه وبين نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوجدانوف لمناقشة الأوضاع في الشرق الأوسط، حسب الرواية الرسمية الروسية. أي لم يحدث أي استدعاء كما روَّجت وسائل إعلام الأسد في سوريا وخارجها. لكن الطريف أن ممثل نظام الأسد في الأمم المتحدة بشار الجعفري أعلن بعنترية منقطعة النظير: "لقد غيرنا قواعد اللعبة مع إسرائيل.. وروسيا أبلغتهم رسالة من كعب الدست". وبصرف النظر عن تلك "التعبيرات الدبلوماسية" الغريبة، فالأمر بحاجة إلى تأمل لمثل هذه التصريحات التي ليس لها أي قيمة على الإطلاق، بل تسهم في فضح نظام الأسد، وتضليل الرأي العام، ومواصلة انتهاك حقوق وحياة ومستقبل الشعب السوري.
المشهد الميداني في سوريا حاليا، يشير إلى أن كل الأطراف تسعى لترسيم مناطق نفوذها على الأرض، تمهيدا لإقرار ذلك خلال أي مباحثات، ومن ثم تثبيته عبر محافل دولية. وما يتم ترويجه حول انتصارات الأسد ليس إلا جزءا من حملات التضليل غير المسبوقة. فالروس والأتراك عقدوا اتفاقات تكتيكية من أجل السيطرة على مناطق بعينها وفرض النفوذ عليها، على الرغم من وجود تناقضات جوهرية حادة للغاية بشأن مصير الأسد ومستقبل الأكراد. ولكن بمجرد إعلان واشنطن عن إرسال قواتها الخاصة، وتزويد حلفائها من المعارضين بالسلاح، بدأ الحديث يتجه نحو مرحلة أخرى جديدة تسمح للأمريكيين بفرض نفوذهم على مناطق محددة، وكسب مناطق أخرى جديدة، إلى أن وصلت الأمور إلى تفجيرين داخل دمشق نفسها، واشتباكات في أماكن مختلفة فيها. بمعنى أن ما تم الترويج له بشأن "تحرير حلب"، كان خدعة كبرى من جهة، وعملا روسيا كاملا من أجل ترميم وجه الأسد من جهة أخرى، واتفاقا مع الأتراك مقابل تسهيلات تخص روسيا نفسها كطرف رئيسي في سوريا من جهة ثالثة. 
وقد ظن نظام الأسد وموسكو أن حلب ستغير موازين القوى وملامح المشهدين الميداني والسياسي. ولكن أحداث الأيام الأخيرة تؤكد العكس تماما. أضف إلى ذلك، فشل صيغة آستانا التي كانت تعوِّل عليها روسيا. ومع ذلك فالحملات الإعلامية التضليلية، والبروباجندا المرعبة تتواصلان لإقناع الرأي العام بأمور معاكسة تماما لما يجري على الأرض. 
الخطير هنا أن الأسد ربما كان بحاجة إلى وقود ودعم إضافيين. ويبدو أن روايات مكافحته للإرهاب، ومعاركه الجبارة من أجل إنقاذ العالم من الدمار، باتت ضعيفة ومتهالكة، ومثيرة للسخرية، فكان من الضروري إضافة ورقة أخرى مثيرة للطنطنة والتضليل الإعلامي، واسترجاع ذكريات الممانعة والصمود والتصدي وتدمير إسرائيل، لإظهار بطولات الأسد الجبارة، ومن ثم ضرورة دعمه والوقوف خلفه رئيسا وزعيما مدى الحياة. والمثير للتساؤلات هنا، هو أنْ أصبح الأسد قادرا الآن على مواجهة إسرائيل ومحاربتها، علما بأن أوضاعه العسكرية والأمنية في غاية السوء والتدهور، والروس وغيرهم يعرفون ذلك جيدا. وكون موسكو تسمح له بالإدلاء ببعض التصريحات العنترية، فهذا لا يعني أنه يحارب داخل سوريا. الأمر الآخر هو أن الكيان الصهيوني قام بغارات عديدة في السنوات الأخيرة، وكان الرد الوحيد، هو أن الأسد يحتفظ بحقه في الرد. وإذا كان إطلاق صاروخ بعد غارة ودعم ذلك بأكاذيب وتضليلات وضلالات، على الرغم من تدمير الصاروخ على الأراضي الأردنية.. إذا كان ذلك هو مفهوم الأسد ونظامه ووسائل إعلامه لمواجهة إسرائيل، فالتساؤلات تتزايد وتصبح أكثر حدة. 
لكن في كل الأحوال يحتاج نظام الأسد الآن إلى ورقة إسرائيل لتسويق نفسه من جديد في ظل التحولات الأخيرة في المشهدين الميداني والسياسي في سوريا وحولها، وهو ما يتوافق بشدة مع خطى إيران وحزب الله في استخدام ورقة إسرائيل.

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على