ميلاد المسيح (بقلم جورج عبيد)

أكثر من ٣ سنوات فى تيار

ليس أعظم وأطيب من وجود الله معنا بمسيحه. كان العالم قبل ذلك مؤسّسًا على انتظارات وخرافات، ولكنّ التمتمات الأزليّة لم تغب عنه، مع انغراس الكلمة الإلهيّة في أحشائه منذ بداءة التكوين حتى "حان ملء الزمان فأرسل الله ابنه مولودًا من امرأة تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني". (غلا4:4-5).
تلفتني في تلك الرسالة عبارة ملء الزمان، وفي فحصي للكتاب منذ سفر التكوين إلى سفر الرؤيا لم تمرّ أو لم ترد. كانت الأزمنة قبل المسيح بعثرة، والتمتمات استجمعت كلّها في "الكلمة الذي صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًّا" (يو1: 14).
اللافت هنا بأنّ الأزمنة والكلمات اكتملت في المسيح مخلّص العالم، وقد غدا كمال الأزمنة والوجود بتجسّد من بطن مريم. "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كوّن، فيه كانت الحياة والحياة نور الناس" (يو1: 3-4)، وهو ظهر نورًا لينتشل الجالسين في ظلال الموت وظلمته، فأشرق عليهم في تلك الدياجير وأخذهم منذ تلك اللحظة إلى خاصته على الرغم من أنها لم تقبله، بل رذلته واضطهدته وأسلمته إلى الموت المخزي موت الصليب.
المسيح بتجشّده كمال الأزمنة. كيف لا يكون كمالاً حقيقيًّا وهو في الأصل عشير الأزليّة مع أبيه وساكن فيه على العرش. الأبدية في معناها ما هو فوق الزمان والمكان، والأزليّة ليس لها حدود. أهم ما حدث في الميلاد، أنّ المسيح قد جدّد أزليّة مملكته الأبديّة، فجعلها قائمة في بطن الكون مع نزولها في بطن مريم بالكلمة. ليس ممكنًا أن يكون الإنسان الساقط المتعثّر والمتبعثر بالخطايا الفظيعة ممدودًا إلى العلى إلاّ بنزول السماء بابن الله المبارك. لقد أشار يوحنّا الحبيب إلى ذلك قائلاً: "ليس أحد صعد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء إبن الإنسان الذي هو في السماء" (يو3: 13).
ماذا يعنينا حدث الميلاد، ولماذا ولد المسيح، وهل كنا بحاجة لكي يولد ويتألم ويموت على الصليب ثمّ يقوم من بين الأموات ليضعد إلى السماء، وما هو هدفه من كلّ ذلك؟
مألوهيّة الإنسان لا تسوغ بأن يبقى ابن التاريخ الترابيّ، بل أن يصير بدوره ممسوحًا بالنعمة والحقّ حتّى يصير ابن السماء. لقد البشريّة بطبيعتها القديمة منفيّة من الفردوس، وعلى الرغم من نزول الله في التاريخ أي انسكاب الملكوت في الزمان، فالشعور السائد بأنها لا تزال تبيت في النفي لأنها استكبرت وتجبّرت ليس بالمعرفة الضروريّة بل بالمعرفة الفوضويّة. الإغراء الفاسد طريق نحو توطيدها، وقد حدث ذلك في سفر التكوين ويحدث الآن في استخدامها بحروب ساقطة تبيح القتل والموت، بطرائق عديدة وخطيرة.
يقيني الحقيقيّ، بأننا نحيا وكأننا غرباء عن هذه الحقيقة. لم تنف المسيحية المعرفة ولا الحرية. في دنياك أنت تجيء من حرية أبناء المرسومة بالمسيح يسوع، وليس لك أن تدّعي لك حرية مصطنعة في الزمن، فهي تعبر عن تلاشي وتفلّت. الحرية تبيح المعرفة، وما من أحد يعيش خلوًّا منها. فكما أعطيت أن تحيا في بهاء حرية أبناء الله فقد أعطيت أيضًا أن تعيش في كمال المعرفة القائمة في المسيح نفسه.
لم يعصم المسيح الإنسانية عن الحرية والمعرفة، قال لك إن أردت أن تتبعني فاحمل صليبك واتبعني. دليل ذلك أن ولادته لم تضبط البشريّة به. لم يكن للعذراء مكان تلد فيه المخلّص سوى مذود. ترك نفسه في أحضان البشريّة حتى ترى وتبصر بنوره ، ومن لم يبصر بنوره عاش السقوط والتمرد وساهم بالتالي بالقضاء عليه. لقد سمح للبشريّة بأن تقضي عليه بالصليب، لأن مشروعه أن يكشف المعرفة والحرية به، أي بتجسده وموته وقيامته، ويرفعنا من سقوطنا حتى إذا عاينّاه بإرادتنا غدونا فيه وارتفعنا إلى وجهه الكريم. هو رضي أن يولد تحت الناموس بإرادته، رضي مسيرته بها ولم يقيدك بحرفه بل أطلقك بنعمة روحه القدوس، والروح يمنحك النور، كما يمنحك الحرية لتعرف وتكتشف وتقرر، ولذلك سمته الطروباريّة بحسب الطقس البيزنطيّ شمس المعرفة الذي أشرق على البريّة في لحظة ميلاده، وفي الترتيلة عينها سمي بشمس العدل، وفي صلاة غروب العيد سمي بالشمس العقليّة. هذا دلّ على أن ما ارتضاه لنفسه ارتضاه لجبلته، في إنجيله قال: أنا هو نور العالم، وقال لمن ولدوا منه أنتم نور العالم، ماهى نفسه بنا، جعلنا في ملء قامته نورًا، وشمسًا تتدفق من كلية المعرفة المتواجدة في اللحم والدم بتجسده العظيم. ليس من فصل بيننا وبينه، من قال بالفصل من أعلنه من أدرجه لا يزال يعيش ثقافة الطرد من الفردوس والنفي من الحقيقة الظاهرة بالمسيح يسوع.
كل ظلم، كل حرب، كل اضطراب، كل قتل، كل موت، لا يعبّر عن انوجادنا في ملء قامة المسيح. الحروب على أنواعها وصولاً إلى ما هو وبائيّ مصنّع نفي لحقيقة وجود المسيح ومعاني هذا الوجود، محق لتاريخانيته وإبعاد لألوهيته. صرخات الحقّ التي نسمعها من المتعبين تجيء منه هو لأنه يحيا في ظلم الظالمين. والمسيح ولد ليكون لنا في سلام، لتنزل السماء فينا، ولتبطل الترابية، ولتنتهي الحروب. المسيح عارف بأنّ البشرية لن تستوي في الحبّ والسلام الكاملين، ولم يرد أن يصهر الإنسان أو يجبره على الاستواء. ميزة أنه أعطاه فضيلة التمييز، وترك له الحرية الكاملة.
عيد الميلاد يشدّنا لنفهم معنى أن تصير مألوهًا على صورته ومثاله. إن فهمت ثبتّ وانتصرت، وإن تفهم فأنت لا تزال قابعًا في السقوط.
لقد بتّ ابنًا لله. إعرف قيمة هذا في العيد، واترك الخوف جانبًا وعش المحبة ببهائها لأن فيها الله يولد منك المسيح نحو الآخرين، لا تترك نفسك مضطربًا فيما يرمى لك وأمامك من قنابل صوتية، بل تشجّع وتقوَّ بالوليد الإلهيّ الحبيب. سلّم حياتك له وناده قائلاً تكلم يا رب فإن عبدك يسمع. وإن سمعت فلا تقسّي قلبك ويغلبنك الظلم ولا تظلم سواك، المسيح يعطى لك في الميلاد لتأكلد لتجعله في دماغك في عروقك ليكون حياتك، فمن كان معه لا يقوى عليه أحد ولن ترميه الشدة في الموت بل توًّا تنتصر عليها بمحبة المسيح وهو الحياة.
ألا منحنا المولود الإلهيّ أن ينتهي كابوس الأشرار والموبِئين في حياتنا لتكون لنا حياة جديدة، ولنصير مواطنيه في حبّه المديد فينا وإلى الأبد.
 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على