في مقام الأنس والشوق والحوار.. ٧ مشــاهد في حضـرة الســـيدة النفـيـســـة

أكثر من ٨ سنوات فى التحرير

 أما قبل،،،،

فقل هي مصادفة.. ربما! قل هي مزامنة.. قد يكون! قل هو نداء خفي بلغة الأعماق البعيدة.. أعتقد! قل هو الشوق والحوار في مقام الأنس ونجوى الما وراء! قل ما تشاء.. إلا أنها تبقى ومضات صوفية أشرقت في النفس إشراقا عليَّا.. فما إن تهبط في الغلاف الأرضي لمسجد «السيدة نفيسة» ثم تنساب إلى أجواء الضريح النفيس، حتى تحتويك ارتعاشة في ثنايا القلب، وتصفق خفقة في حنايا الروح، وتنبعث انبثاقة في خلايا الفؤاد والوجدان.

«1»

ما جئت رحابك يا سيدتي هاربا من الأيام.. ولا فارًّا من زحام الأحداث الذي لا يسمع أحد فيه أحدا.. ولا عازفا عن الجدل مع المجتمع على تباين شرائحه وتعدددية أطيافه، واختلاف طباعه التي تتراوح بين الخشونة والليونة.. ولا عازما على الزهد في هذه الدنيا التي تستحق أن نحياها، حتى  لو لمجرد أن نحياها، بلعبها وبلهوها وتكاثر ما فيها وتفاخر من فيها.. ولا مفارقا أضغاث الإعلام، والثرثرة السياسية، والأوهام المجتمعية، والشراسة الدولية.

أبدا.. أبدا.. يا سيدتي النفيسة.. بل جئت ملتمسا نورا من البيت النبوي وآله وأهله، الذين نحبهم حبا جما، ونفخر بهم فخرا مبينا، ونتوسم فيهم الأنوار الروحية، لعلها تشع في ظلماتنا الكثيفة، طبقات بعضها فوق بعض، ولعلني يا سيدتي، أُصقل مرآتي التي غشيها غبار الزمن المتوحش، وتراب التكنولوجيا المادية، وخدش نقاءها -رغمًا عني- أظافر الوقت العصبي.

جئت إليك يا نفيسة العلم، يا ابنة أشرف الأشراف، لعلي أضيف علما أكثر نفعا إلي ما عُلّمت، وأكثر تحاورا مع القلب والروح،  فكل العلوم في عصرنا تنتهي مراداتها بانتهاء الدنيا، وكل الفلسفات في عالمنا تتوقف عند النقطة الأخيرة في سطر الحياة، لكني -وأنا المسلم الموحد بالله، المؤمن بالحيوات بعد الموتة الأولى- أريد أن أعبئ قلبي وفكري بما يمدني من طاقة لاستقبال هذه الحيوات، وأنتم، يا سيدتي النفيسة، مصدر رفيع من مصادر هذه الطاقة الكونية المضيئة من جنبات البيت النبوي، علما وعملا، تصديقا وتصورا. 

«2»

مُدي يديك يا سيدتي إلى روحي بنفحة.. بومضة.. ببارقة.. بكشف.. بانكشاف.. لعلي أستضيء، وقد أضيء.. فشموعنا هنا لا تشتعل إلا لتكشف مساحات أكثر من الظلام، أما شموعكم يا سيدتي فهي تستمد زيتها من شجرة النور الزيتونة، اللا شرقية واللا غربية. 

أشكو إليك يا سيدتي، وأنا المحب العارف، وأنا المؤمن القوي، وأنا الذي لا يشكو أبدا، وقد تجرعت صبر أيوب، فما جزعت وما مسني شيطان الألم بنصب وعذاب إلا قليلا.. وما وزن ألمي إذا ما تماس مع ألم المشهد الحسيني التاريخي العظيم لجدك الحسين الثائر الباهر الفارس القادر المقاوم القادم إلى المستقبل بآثاره ومآثره، العابر لقارات الزمن الكوني.. العائش والكامن في كيان كل قلب ثوري حقيقي على ظلم الأيام، وظلام التحولات، وإظلام الأحداث.

الله.. ما أعذب كلماتك الروحية وأنت تتعلقين بأستارالكعبة وتقولين «إلهي وسيدي ومولاي متعني وفرحني برضاك عني، ولا تسبب لي سببا يحجبك عني».

وما أحوجنا إلى قوتك في الحق يا سيدتي.. لقد كنت شديدة في الحق لا تهابين الأمراء والحكام، ويوم استغاث الناس في عصر «أحمد بن طولون» استغاثوا بك من ظلم الحاكم فكتبت له رسالة لا نزال نرددها على مر الأيام -طبقا لما أخبرنا بها المؤرخ أحمد بن يوسف القرماني في تاريخه- وانتظرت حتى مرور موكبه فخرجت له، فلما رآك نزل عن فرسه، فأعطيته الرسالة، وكان فيها: «ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخوّلتم ففسقتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نفّاذة غير مخطئة، لا سيّما من قلوبٍ أوجعتموها، وأكباد جوّعتموها، وأجساد عرّيتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم، اعملوا ما شئتم فإنَّا إلى الله متظلِّمون، وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون!».

وما كان من «ابن طولون» إلا أن صدع لقولها، وعدل من بعدها.

«3»

في حضرتك يا سيدتي.. يحاول القلم أن يجف، ويحاول الصحفي في أعماقي أن يكف عن الجدل والمناوشة وثقافة الأسئلة، وطغيان اللا مفكّر فيه، ليفسح المجال للنفس أن تهمهم، وللقلب أن يصهل، وللروح أن تحمحم في جنبات مقامك الرفيع ورحابك النفيس.

آه.. ما أجمل الأسرار الكامنة في هذه المكان! وما أعظم عبقريته وقد أخبرتنا الآثار التاريخية أنك يا سيدتي قد أعددت مرقدك هذا بيديك اللطيفتين!.. وألمح نورا يدور فيما وراء المشهد النفيسي، فها هو مسجدك يقع في المنطقة التي تحمل اسمك بمصر العتيقة، المسماة قديمًا بـ«درب السباع» ويقع في بداية الطريق المسمى «طريق أهل البيت» حيت يصبح المشهد النفيسي هو المحطة الثانية في هذا الطريق بعد مشهد الإمام علي زين العابدين، وطريق أهل البيت طريق شهير يبدأ بمقام زين العابدين وينتهي بمشهد السيدة زينب، مرورا بالسيدة نفيسة، والسيدة سكينة بنت الحسين والسيدة رقية بنت علي بن أبي طالب والسيد محمد بن جعفر الصادق والسيدة عاتكة عمة الرسول، عليه الصلاة والسلام وعلى آله الكرام.

«4»

تصوري يا سيدتي النفيسة.. أن ما أشعر به، وأحس به، وأتشبث بهذا الإحساس وذاك الشعور، أن عبير ضريحك يبعث فيَّ رحيقا لا يزال متوهجا ملء كياني، حين بعثت بعد ممات مؤقت قبل ثلاثين عاما، وسرت فيَّ الروح من جديد بالمكوث 18 يوما في رحاب الروضة الشريفة لسيدنا محمد، صلى الله عليه وملائكته، كانت أياما لا تحتسب من العمر الذي يقاس بآلة الزمن، ولكنه الذي يقاس بغزارة الشعور من عدمه، فما أعظم نفحات البيت النبوي الشريف الذي لا يعرف إلا العطاءات القدسية، كنقاء الصبح إذا تنفس، نفخات نقتبس منها الطاقات المتجددة القادرة والمقتدرة والقديرة والجديرة بالاحتواء والاستقبال بذبذباتها التي هي أقوي من كل ذبذبات العصر الذي فيه الإنسان في خُسر، إلا من رحم ربي. 

سيدتي النفيسة.. شحنات قلبي في هذا المقام تستثير فيَّ نشوة الاسترسال.. إنه مقام الشوق والحوار والأنس في حضرتك.. فاعذريني يا مولاتي وسامحيني.

إن ساعة واحدة في تجليات المكان كفيلة بالعوض عن سنوات ضوئية عما ألاقيه من سوط الأحداث، ومثلي كثيرون وكثر، ها هم يا سيدتي أنظر إليهم بطرف خفي حولي في مرقدك النفيس، يفضفضون إليك، ويتهامسون إليك، وهمهماتهم تتناثر هنا وهناك، وشفاههم لا تتوقف وقلوبهم تهدر بالشكوى من أحوالهم، ونفوسهم تبتهج في ذات اللحظة بنور مقامك، وآيات التنزيل الحكيم وكلمات الحديث النبوي تنساب من أفئدتهم، وأدعيتهم أحس بوجعها.. فكم نتوجع، وكم نتضرع، وكم نتألم، لعلنا نتأقلم، كل منا له حاجة في نفسه، لا يعلمها إلا الله، يتوسل بالذين يحبهم ليقضيها ملتمسين بركة عبقرية المكان وصاحبته، ولسان حالنا يقرأ: ‭}‬إياك نعبد وإياك نستعين‭{‬.

إنها شدائد الشئون وعظائم الأمور يا صاحبة النفس النفيسة والشخصية الثمينة، وأسترق السمع لواحد من محبيك وهو ينشد بيتي الشعر الأثيرين عندك والمأثورين عنك:

كـم حـاربَتْني شـدّةُ بـجيشِها

فضاق صدري مِن لقاها وانزَعَجْ

حـتّى إذا آيَـسْتُ مِـن زوالِها

جـاءتنيَ الألطافُ تَسعى بالفَرَجْ

وأرى أحد الزائرين الطيبين يتلو الفاتحة مرة واحدة وسورة الإخلاص إحدى عشرة مرة، وكلهم يسلمون لك وعليك يا سيدتي تسليما، ولا أحد يسأل عما يفعل، ولا يسأل عما يقرأ، ولا يريد ولا ينبغي له، قال لي أحدهم ونحن في محيط المكان الخارجي: هل تسأل الطبيب الذي يكتب في روشتة العلاج: لماذا آخذ الدواء ثلاث مرات يوميا لمدة أسبوع؟

 وفي هذا السياق يخترقني صوت الشيخ محمد متولي الشعراوي «خذها بسر الله فيها».

نعم.. إنه شرف للعقل أن يسقط في الذكر والعبادات.. ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

إنهم أهل مصر الطيبون الذين يتوارثون محبتك يا سيدتي منذ أن أشرقت في مصر عام 193 هـ، ورحلت عن مكة مع أسرتك إلى مصر، ومررت في طريقكم بقبر الخليل، وحين علم أهل مصر بقدومكم خرجوا لاستقبالكم في العريش، وحين وصلت ياسيدتي إلى القاهرة في 26 رمضان 193 هـ رحّب بك أهل مصر، فأقبلوا عليها يلتمسون منها العلم والعرفان والفقه، حتى كادوا يشغلونك عما اعتدت عليه من عبادات، فخرجت عليهم قائلة: «كنتُ قد اعتزمت المقام عندكم، غير أني امرأة ضعيفة، وقد تكاثر حولي الناس فشغلوني عن أورادي، وجمع زاد معادي، وقد زاد حنيني إلى روضة جدي المصطفى» ففزعوا لقولك ورفضوا رحيلك حتى تدخَّل والي مصر «السري بن الحكم» وقال لك: «يا ابنة رسول الله، إني كفيل بإزالة ما تشكين منه» فوهبك دارًا واسعة، وحدد يومين في الأسبوع يزورك الناس فيهما طلبًا للعلم والنصيحة، وتتفرغين أنت للعبادة بقية الأسبوع، ورضيت وبقيت، وكان نعم البقاء.

«5»

وأبدا.. لا يلقي القلب بالا إلى هؤلاء الموتورين المتحجرين ممن يسمون أنفسهم بالسلفيين، حين ينكرون الاحتفال بمولد وذكرى مثل هذه الشخصيات التي تمثل مصابيح معلقة في فضاء الإسلام الرحب، والاحتفاء بفقهائه المستنيرين، إنهم كائنات تعيش خارج العصر، وخارج التفاعل بين الدين والدنيا. يمكثون في كهف الذات المنغلقة، ويسقطون أنفسهم في جب لا يرون منه بصيصا من نور السماوات والأرض، ويصدعوننا في كل مناسبة جليلة بهذه الفتاوى المثيرة للضحك، ولا شيء وراءها إلا الشهرة الكاذبة على طريقة «خالف تعرف» وما هم بمعروفين، ولن يحترمهم أحد ولا ينبغي. 

وأبدا.. سيظل نوركم يا سيدتي الشريفة يسعى فينا.. وذكراكم لا تفارقنا في كل نفس يخرج من صدورنا.. وسيرتكم تدثرنا باليقين غير المراوغ.. ومآثركم تعبق في جنبات قلوبنا.. وآثاركم مطرزة في أعماق نفوسنا.. فما للنسيان علينا سبيل.

وقبيل أن أغادر المقام النفيس، وعلى مقربة منك يا سيدتي يحتويني صوت الإمام الشافعي ليصدع خاشعا في أروقة نفسي المشحونة بجمالياتكم: 

يـا آلَ بـيتِ رسـولِ اللهِ حُبُّكُمُ

فَـرضٌ مِن اللهِ في القرآنِ أنْزَلَهُ

يـكْفيكُمُ مِـن عـظيمِ القَدْرِ أنّكُمُ

مَن لم يُصَلِّ عليكُم لا صلاةَ لَهُ  

والشافعي صاحب هذه الأبيات، وفد  إلى مصر سنة 198 هـ، وتوثقت صلته بالسيدة نفيسة، واعتاد أن يزورها وهو في طريقه إلى حلقات درسه في مسجد الفسطاط، وفي طريق عودته إلى داره، كان يصلي بها التراويح في مسجدها في رمضان، وكلما ذهب إليها سألها الدعاء، وأوصى أن تصلي عليه السيدة نفيسة في جنازته، فمرت الجنازة بدارها حين وفاته عام 204هـ فصلّت عليها إنفاذًا لوصيته. 

«6»
في لحظات الهيام بجماليات المكان وروحانية المقام، تستدعي الذاكرة المشهد الأخير في حياة السيدة الجليلة، وقد بدأ رويدا إذ كتبت كتابا إلى زوجها السيّد إسحاق المؤتَمن، ابن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام، تطلب منه موافاتها لإحساسها بِدُنوّ أجلها، وقُرب مفارقتها لدنياها وإقبالها على أُخراها، إلى أن حَلَّت أوّلُ جمعةٍ من شهر رمضان، فاشتدّ عليها الألم وهي صائمة لا ترى شفاءً في إفطارها، وهي تنشد هذه الأبيات:

اصرِفوا عنّي طبيبي ودَعُـوني وحـبيبي

زادَ بِـي شوقي إليهِ وغـرامي في لهيبِ

طاب هَتْكي في هواهُ بـين واشٍ ورقـيبِ

لا أُبـالـي بِـفَواتٍ حيث قد صار نصيبي

جَسَدي راضٍ بِسُقْمي وجُـفوني بـنحيبي

ولحظة أن دنا منها الأجل أكثر في العشر الأواسط من شهر رمضان، واشتدّ بها المرض، استَفْتَحت بقراءة سورة الأنعام تقرأ آياتها، حتّى إذا تَلَت قولَه تعالى: ‭}‬قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ قُل لِّلَّهِ  كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‭ {‬[الآية: 12] 

وجاء في الأثر أنها قُبَيل وفاتها قرأت ‭}‬لَهُم دارُ السَّلامِ عِندَ رَبِّهِم وهُوَ وَليُّهُم بِما كانُوا يَعملُون‭{‬ (الآية 127) فغُشِي عليها، ورجعت نفسها المطمئنة إلى ربّها راضية مرضية، في رمضان سنة 208 هـ فبكاها أهل مصر، وحزنوا لموتها حزنًا شديدًا، وكان يوم دفنها مشهودا.

«7»

سلام عليك يا سيدتي من أعماقي البعيدة 

وسلام عليك يوم ولدت، ويوم مت، ويوم تبعثين ونورك يسعى بين يديك..

وسلام على آل البيت وأهل البيت كلهم أجمعين..

اللهم صل على سيدنا محمد وآله صلاة ترضيك.. وترضيهم.. وترضى بها عنا يا كريم. 

وسلام قولا من رب رحيم.

alafifi56@gmail.com

شارك الخبر على