الخطاب الديني والثقافي.. تمرين في اللعب مع الغموض

أكثر من ٧ سنوات فى التحرير

بعض النظريات والمصطلحات والمفاهيم فى العلوم الاجتماعية والفلسفية، تبدو أقرب إلى الموضات الفكرية التى يتم تردادها وتوزيعها على قواعد واسعة من المستهلكين والباحثين، وسرعان ما تنتقل من مجالها وتوظيفاته، ويتم استعارتها ودمجها فى مجالات أخرى، ومع اتساع نطاق استخدامات النظرية، والمفهوم والمصطلح، يتم ابتسارهم وتغيّم معانيهم، ويساء استخدامهم.

بعض الاستخدامات المستعارة للنظرية والمفهوم والمصطلح، قد تتوافر فيها التوظيف الإبداعى من خلال تطوير المصطلح أو النظرية أو المفهوم لكى يساعد على فهم الظواهر أو المشكلات فى مجال بحثى آخر، وغالب هذه الاستخدامات لا تعدو أن تكون بلاغية ترمى إلى إضفاء بعض من الجدة والأناقة اللغوية والمكياج الاصطلاحى المفارق لمعناه وتوظيفاته ودلالته، ويصبح معه محض إنشاء فارغ.

بعض النظريات والمصطلحات/ والمفاهيم تشكل إحدى أبرز علامات عصرها، وبعضها الآخر يظهر ولا ينتشر فى لحظة ميلادها، ولكن قد يتم التعرف عليها واللجوء إليها فيما بعد، وتلقى ذيوعا واستخداما.

إن خطورة التوظيف البلاغى والإنشائى للمصطلح تتمثل فى فقدانه لمعناه ودلالته وتوظيفاته وكفاءته الوصفية والإشكالية والتفسيرية، ومن ثم يغدو غير دالٍ فى الاستخدام.

حالة الفكر والبحث والجدل فى الثقافات المصرية والعربية، تعانى من ظاهرة الاستخدام الإنشائى للمصطلحات والخلط الكثيف فى توظيفاتها، والأخطر أنها تستعير النظرية أو المفهوم أو الاصطلاح السوسيولوجى الفلسفى والثقافى من مهاده بعد أن يكون قد تم تجاوزه، وهو ما حدث مع مصطلح النص، ثم مصطلح الخطاب، وإشكالية، وتفكيكية وقطيعة معرفية.. إلخ. منذ نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضى بدأ مصطلح الخطاب يدخل إلى الدراسات الفلسفية، والاجتماعية، ومذ ذاك أصبح أشهر المصطلحات قاطبة فى الإنتاج الفكرى وتجاوزه إلى الإعلامى، ومن ثم بات أكثر الاصطلاحات سوءا فى استخداماته، ويتم الخلط بين تحليل الخطاب وتحليل المضمون على التمايز النوعى فيما بين المقاربتين التحليليتين، ومن ثم تبدو نادرة الدراسات المنضبطة فى تحليل الخطاب أيا كان مجاله الفلسفى والسوسيولوجى والقانونى والدينى.

أحد أكثر المجالات التى استخدم فيها مصطلح الخطاب الدينى، حيث ركزت المقاربات السطحية حوله على الخطب الوعظية لرجال الدين الإسلامى من أبناء المؤسسة الدينية الأزهرية، ثم سرعان ما امتد إلى وصف أيديولوجيا الإسلام السياسى الإخوانية وجماعة المسلمين (التكفير والهجرة) والراديكالية كالجهاد والجماعة الإسلامية والشوقيين والقطبيين، وامتد بعد ذلك إلى خطاب القاعدة وداعش والخطاب الوهابى وخطابات السلفية الجهادية.. إلخ.

المراجعة النقدية لغالب هذه المقاربات للخطاب الدينى، تكشف عن أننا إزاء سرود للمقولات الفقهية والأيديولوجية لهذه الجماعات، وهى سرود لنصوصها المرجعية مع بعض التفسيرات الأيديولوجية لها بما تحمله من انحيازات للباحث أو الدارس إزاء النص الفقهى أو الدعوى أو التأويلى موضوع درسه، وإبراز بعض من غرابته إزاء قيم الحياة الحديثة ونمط معاشها، أو بطرح آراء فقهية أو تفسيرية مغايرة. وقصارى ما تم هو مقاربة تحليل المضمون أو المحتوى، على الرغم من أن بعض هذه الدراسات والأطروحات الجامعية تمت تحت مسمى تحليل الخطاب.

يمكن القول إننا لم نستخدم مقاربة تحليل الخطاب -باعتباره قبول الكاتب- أو أقاويله بتعبير الفلاسفة العرب القدماء أو باعتباره بناء من الأفكار ووجهة نظر مصوغة فى بناء استدلالى (يراجع د.محمد عابد الجابرى: الخطاب العربى المعاصر ص 9 وما بعدها الناشر المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء، ودار الطليعة بيروت الطبعة الأولى 1982) إلا قليلا. 
من الملاحظ أيضا أن بعضهم يتصور أن ثمة خطابا متجانسا واحدا ويتناسى أن الخطاب الواحد، هو خطابات داخله، وأن ثمة خطابات تجرى فيما وراء الخطاب وفق أمبرتو أيكو. من هنا يبدو الخطاب حول الخطاب الدينى مجروحا بالخطأ، لأنه لا يوجد خطاب دينى واحد حتى وإن انتمى إلى مدرسة أو مذهب أو فقيه واحد، وإنما يتعدد الخطاب من داخله، ووفق منتجه، ومن ثم يبدو الحديث عن الخطاب الدينى مثلوما بعدم الدقة والخطأ. ترتيبا على ما سبق ليس لدينا حتى هذه اللحظة درس تحليلى معمق للخطابات الدينية -إلا نادرًا- سواء الرسمية، أو لدى الجماعات الإسلامية السياسية والراديكالية والسلفيات الجهادية، إلا من زاوية سرد بعض أفكارها دون تحليل ألُسّنُىَ ومرجعى لها.

من هنا يبدو الخطاب حول الخطاب الدينى غامضًا ومحمولاً على الأمنيات الفكرية، والرغبات السياسية فى ضرورة تطويره، أو تجديده، أو إصلاحه، وهى أوصاف تطلق على عواهنها دونما ضبط لمعانيها أو دلالاتها أو استخداماتها، وإنما تساق فى الغالب الأعم -والاستثناءات نادرة- كمترادفات متماثلة. من ثم نحن إزاء خطاب أو خطابات حول تجديد "خطاب دينى" ظل كما هو فى بنيته ومقولاته ومرجعياته واصطلاحاته وصراعاته الداخلية، وما وراءه وما حوله من خطابات، ومن ثم ظل دونما إصلاح، أو تجديد أو تطوير! من الشيق ملاحظة أن المطالبين بتجديد وإصلاح وتطوير "الخطاب الدينى" يتناسون أن الخطاب هو أحد منتجات العقل والفكر الدينى، ومن ثم كيف يمكن إحداث المطلوب من الإصلاح أو التجديد أو التطوير دون إحداث تجديد فى بنية العقل والفكر وآلياته ومقارباته ولغته؟! أحد أبرز معالم الجمود فى الفكر الدينى الوضعى يتمثل فى أنساقه اللغوية ومصادرها التقليدية التراثية الحاملة للتكوين العقلى والمقاربات التقليدية لرجل الدين -المفتى والفقيه والمتكلم والداعية- ومن ثم تحليل عينة من هذه الأنساق اللغوية تشير إلى صعوبة إحداث التغيير المطلوب تجديدا أو إصلاحات أو تطويرًا. من ناحية أخرى يشكل التسييس المفرط للخطابات الوضعية الغالبة فى السوق الدينى، أحد وجوه موت السياسة فى النظم السياسية الثيوقراطية، والشمولية، والتسلطية، بالنظر إلى الطابع الأتباعى للمؤسسات الدينية الرسمية من ناحية، واستخدامات الدين فى العمليات السياسية، وفى بناء الشرعية للحكم.

من ناحية ثانية، يشكل إنتاج الخطابات الدينية السياسية الأخرى بما فيها الراديكالية والسلفيات الجهادية وخطابات دعاة الطرق والتلفازات التوظيفات الأيديولوجية المضادة للخطابات الدينية للمؤسسات الرسمية، التى ترمى إلى دحض شرعية الأولى ونظم الحكم والدول التابعة لها، من خلال استخدام آليات التكفير إزاءها، ومن ثم شرعنت عمليات إزالتها بالقوة والعنف والقتل والترويع والإرهاب. من ثم يبدو ملحًّا السؤال حول مدى إمكانية إصلاح أو تجديد أو تطوير الخطاب الدينى، دونما تجديد وإصلاح وتطوير سياسى شامل لهذه الأنماط من الدول والنظم السياسية؟

يشكل هذا المدخل حول الخطاب الدينى نقطة ارتكاز للحديث عن تجديد الخطاب الثقافى؟

يمكن القول إن مصطلح الخطاب -بوصفه مفهومًا ومقاربة ألسُنية- جاء جزءًا من الثورة الألسنية، ومن ثم كان أحد أبرز نتائجها، ومن ثم استخدم فى درس وتحليل الخطابات النقدية حول السرود الأدبية أيا كانت أجناسها، أو النظريات المرجعية التى تتأسس عليها على مستوى التنظير أو النقد التطبيقى، مع تمدد استخداماتها الخطاب -ونظرياته- فى عديد المجالات فى العلوم الاجتماعية فى السوسيولوجيا، والقانون، والعلوم السياسية، والفلسفة، والآداب.

فى هذا الإطار وفى السياقات المصرية والعربية، ومع ظهور بعض أشباح وتعميمات نظريات التحليل الثقافى، طرح موضوع تجديد الخطاب الثقافى. السؤال الذى نطرحه هنا ما الأسباب التى استدعت هذا الشعار الكبير والغامض، تحليل الخطاب الثقافى؟ يبدو لى أن هذا الشعار طرح لعديد الأسباب على رأسها ما يلى:

1- تراجع مستويات الإنتاج الثقافى -فى عديد مكوناته لا سيما الفكرية والإبداعية- وجمود النظريات والمقولات النظرية المستخدمة فى المجال الثقافى العام.

2- فشل دعاوى تجديد وإصلاح وتطوير الخطاب الدينى، ومن ثم يشكل تجديد الخطاب الثقافى مدخلا للتعامل مع الخطاب/ الخطابات الدينية المتطرفة والراديكالية والمحافظة بوصفهم منتجات ثقافية. من ثم هى محاولة للالتفاف لاحتواء الانتقادات القدحية لبعض رجال الدين، من ذوى الخطاب التكفيرى والإقصائى لتعامل بعض المثقفين والباحثين بحثًا وتحليلاً ونقدًا للخطابات الدينية المسيطرة على المجالين العام والدينى والصراعات عليها.

3- محاولة استخدام شعار تجديد الخطاب الثقافى بهدف توظيف الثقافة ومنتجاتها فى التربية والتعليم وتغيير بعض اتجاهات الرأى العام ومكوناته، لا سيما الأجيال الجديدة الشابة.

السؤال الذى نطرحه هل هناك درس نظرى وتطبيقى للخطاب الثقافى؟

شحيحة هذه الدراسات، وتنطوى على ابتسار وقدر من الغموض والتعميمات، ومن ثم يبدو أن ذلك يعود إلى عدم ضبط وتحديد لمصطلح ومفهوم ومقاربة الخطاب الثقافى.

والسؤال حول السؤال ما المقصود بالخطاب الثقافى وتجديده؟

ما المقصود بالثقافى هنا؟ هل الخطابات التى تتعامل مع الشأن الثقافى العام أم السياسة الثقافية؟ وهل هناك سياسة ثقافية رسمية؟ هل المقصود هو الخطابات حول الثقافة وفق التعريف الأنثربولوجى والسوسيولوجى للثقافة بالمعنى العام، وفق تايلور ومن تبنوا تعريفاته هل المقصود هو الخطاب حول تجديد الإنتاج الفكرى والمعرفى للثقافة العالمة؟ أم أن المقصود هو الخطابات حول تجديد الفنون والآداب والموسيقى.... إلخ؟

عن أى تجديد وأى معنى له؟ وأى ثقافة وأى معنى وتعريف لها؟ تجديد خطاب ثقافة، وهل هناك خطاب ثقافى واحد أم عديد الخطابات داخل ذات الخطاب؟

أى سياقات للخطابات الثقافية المصرية أو العربية؟ أم العولمية وما بعدها؟ أو الحداثية أو ما بعدها؟ أو ما بعد بعدها؟ فى عالم يتسم بالسيولة وعدم اليقين والاضطراب والشعبوية والإرهاب ذى الأقنعة والأسانيد الدينية الوضعية.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على