مصر السيسي بعيون سودانية

about 9 years in أخبار اليوم

.. انتمي  لجيل في السودان عاش طفولته متعاملاً بعملتين معدنيتين إنجليزية ومصرية، وكان الريال (عشرة قروش) وأبو عشرين ( عشرين قرشا ً ) والشلن ( خمسة قروش ) و» الفريني « (قرشان) والقرش ثم التعريفة جميعها تحمل صورة الملك جورج الخامس والملك جورج السادس والملك فؤاد وفاروق الأول ( ملك مصر والسودان )..
ومن ثم شبينا عن الطوق، ومصر فينا حتي بعد أن نال بلدنا استقلاله في غرة يناير 1956 كأول بلد أفريقي جنوب الصحراء ينال ذلك الشرف خاصة وأننا تابعنا ثورة 23 يوليو 1952 وعايشنا أحداثها وتطوراتها ومراحلها من اللواء محمد نجيب فجمال عبد الناصر فأنور السادات ثم محمد حسني مبارك...
لكن أهم من ذلك كله أننا في المدارس السودانية تعرفنا علي أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم وقرأنا كتاب ( الأيام ) بأجزائه لطه حسين ويوميات نائب في الأرياف لتوفيق الحكيم وقنديل أم هاشم ليحيي حقي وعبقريات العقاد.. وكنا نقرأ ( رسالة ) أحمد حسن الزيات و( السودان الحديث ) لجمال السنهوري، ونمثل علي المسرح المدرسي رواية مجنون ليلي بشعر أحمد شوقي.. وفي المدرسة الثانوية كان من أفضل دواوين الشعر لدينا كمال حليم وصلاح جاهين وصالح جودت، كما كانت كتب إحسان عبد القدوس وجاذبية صدقي من مقتنياتنا المفضلة مثل النظارة السوداء والوسادة الخالية، وفي بلاد الدماء الحارة ( اسبانيا ).. أما في دور العرض ( السينما ) فما كان ينافس أفلام رعاة الأبقار والأفلام الهندية ( كبشور وبهدور ) إلا الأفلام المصرية التي كانت ثقافة بالنسبة لنا ثقافة مرئية.. فاتن حمامة، وسامية جمال، وماجدة، وعلي الكسار، ويوسف وهبي، والشاويش عطية، وعبد الرحيم كبير الرحيمية، واستفان روستي، وحسن فايق، وأمينة رزق، وهند رستم، وإسماعيل ياسين، ووحش الشاشة فريد شوقي، ومحمود المليجي، وعبد المنعم إبراهيم، ومديحة يسري، وسعاد حسني.. كما كنا نتجاوب مع (الست) أم كلثوم وهي تردد :
ولد الهدي فالكائنات ضياء وفم الزمان تبسم وثناء
ومحمد عبد الوهاب وهو يصدح :
( يا جارة الوادي طربت وعادني ما يشبه الأحلام من ذكراك )
وفريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد..
وبكل هذه الخلفية، قد لا يستغرب أي مصري لماذا حرصنا علي علاقة أزلية ومصيرية كما يصفها السياسيون، أو علي علاقة قائمة علي « شريان « النيل وجنوب وشمال الوادي، والعمق الاستراتيجي كما يعبر العاطفيون.. وفي تقديري أن من فهم هذه « التركيبة « بذكاء هما اثنان الراحل أنور السادات والمرحوم جعفر نميري عندما فكرا ونفذا مشروع ( التكامل ) بين البلدين.. ولازال هو الحل « السحري « في وجه كل محاولات الدس بين البلدين أو تشويه علاقتهما أو تدميرها... وأذكر دليلا واضحا في أربعة أسئلة :
- كم سوداني يعيش في المحروسة ؟
- كم رحلة جوية يومية بين الخرطوم والقاهرة؟
- ما هو المنفذ الطبيعي لأهل السودان برا ونهرا ؟
- كم باص يغادر الخرطوم للقاهرة يوميا ( 15 )؟
وأخلص من كل ذلك بنتيجة توصلت إليها بعد معايشة ومصابرة وإقامة امتدت لقرابة الخمسين يوما في أرض الكنانة، وهي إن ( خلاص ) مصر يكمن في منح الرئيس عبد الفتاح السيسي « فرصة « يعيد فيها لمصر أمجادها، ولا أقول ذلك من باب المجاملة أو المزايدة وإنما من بوابة القناعة لواحد عرف مصر وعايشها علي مدي قرنين عاش في أحدهما نصفه وفي الأخر ربعه فتلك ( منة ) من الله لمصر المستهدفة من عدة جهات وتوجهات واتجاهات من بعض اللوبيات Lobbies ومن مختلف « الأجندات « الخفية والمرئية وكلها تريد لمصر أن تضمحل وتهتز وأن تتحول إلي ( وزن الريشة ) في المنطقة والإقليم وفي القارة الإفريقية وفي العالم الإسلامي وفي الدنيا بأسرها...
وأثق أن دبلوماسية مصر بقيادة أخي سامح شكري قادرة علي كشف « المستور « ومناهضة المرصود ومعالجة المهزوز...
لقد تابعت إعلام مصر في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي ووجدته « مجتهدا « لكنه بائس ومعزول.. فهو مثلا في محاربة الفساد بالصورة التي تتم الآن في الأجهزة الإعلامية « هلامية « ومكررة ومضحكة ولا تحل القضية لأنه لا يكفي أن تنتهي الحكاية بأن مصر ضد الفساد، فلابد من معالجات وفق أمثلة ومن يد ضاربة، لأن كل جهود المشير السيسي ستنتهي إلي لا شيء مادام الفساد مستشريا ومتعمقا ومتصلا ومتواصلا..
فلابد من سلاح باتر ومن آلية تقضي عليه فعليا وعمليا..
أما الترويج لإنجازات عامين من حكم السيسي فلا بأس بها لكنها تحتاج إلي مسارين خارجي ومحلي، مع التركيز علي القادم والمأمول والمنتظر.. فالوعود لا تحل مكان « الالتزام «..
ولا أريد أن أنصب نفسي ( حكما ) بقدر ما أريد أن أرسي لتجربة مساندتها مهمة وواجبة... وأهل مصر هم من يفعل ذلك بداية ونهاية..
فأمثالنا « عابرون « وإن كان من حقنا « التصحيح « ومن واقع التجارب..
يا أيها الأشقاء حافظوا علي ما عندكم قبل أن « تندموا « علي فقدانه بعد فوات الأوان.

Share it on