لعبة الشك

over 8 years in التحرير

الأصولية هي أيديو لوجيا ضمن أيديولوجيات كثيرة موجودة بالعالم القديم والحديث، وهناك فرق بين الدين والأيديولوجيا، ومن الممكن أن يحول مجموعات من الدين منظومتهم الدينية إلى أيديولوجيا.

الأيديولوجيا لها 4 سمات:

1) أنها شمولية تستوعب جميع حياة الشخص المؤدلج.

2) أنها تقترن بالجزمية والدوغمائية وهي الحقيقة المطلقة.

3) أنها تقترن بتثوير العواطف على حساب العقل، ولذا تصيب الشباب أكثر من الكبار.

4) وتقترن غالبا بالعنف في سبيل فرضها على الآخرين.

وفكرة أنها تشمل على الشاب جميع حياته، ربما يمارسها الحركيون بفطرية أو بخبرة تراكمية، ولكنها مرتبطة بفلسفة تأثير الجماهير التي نظَّر لها غوستاف لوبون في القرن التاسع عشر.

فكرة أنه عندما تدور تساؤلات في ذهنك تختلف مع ما يقوله الجموع، تطردها سريعا، لأن مش ممكن يكون كل الناس دي غلط وأنا صح.

وحتى تستطيع أن تخرج الشخص المؤدلج لا بد أن تلعب لعبة الشك لتلعب على العنصر الثاني، وطبعا تخرجه من الشمولية اللي هو عايش فيها ويقعد مع ناس تانيين بيقولوا كلام تاني مختلف عن اللي مجموعته بتقوله.

ونحن نتحدث الآن عن التجمعات الأصولية بشكل عام، سواء السلفية أو الإخوان أو المجموعات الجهادية.

هم ينطلقون أولاً من مصادر التشريع وهي القرآن والسنة والإجماع والقياس، وفكرة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة الإسلامية.

فعندما تقول له إن الإجماع مختلَف على تعريفه وعلى حُجِّيته، فأنت تذهب به إلى الشك، ولو بحث خلفك سيجد كلامك صحيحا، فالمرجع الذي يستند إليه ويعتد به على أساس أن هذه القضية الفقهية عليها إجماع أو هذا الحكم عليه إجماع، يفاجأ أنه يعتمد على مصطلح مختلف على تعريفه وعلى حُجِّيته، من علماء كبار سابقين ومحدثين، منهم الشيخ شلتوت والقرضاوي حيث قال الاثنن من ادّعى الإجماع فقد كذب.

وعندما تسأله عن تعريف السنة وهل الأحاديث المدونة تعتبر سنة أم لا ومدى يقينيتها من ظنيتها، وأنها كلها أحاديث ظنية، تسمى آحادا، لا يكفر منكرها لأنها ظنية وبالتالي لا يعتبر الاعتداد بها ملزما.

وعندما تأتي إلى القرآن وهو النص قطعي الثبوت، ولكنه ظني الدلالة، بمعنى أن هناك محكما وهناك متشابها، ولم أر أو أشاهد بحثا مفصلا يحسم الجدل، ويذكر الآيات المحكمة، وتحديت الأزهر وبعض أساتذته أن يأتيني ببحث في هذا المجال، ولا أعتقد أنه سيوجد، لأنه سيكون هناك خلاف كثير، حتى آية السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، حدث الخلاف، هل السارق هنا يعنى مَن سرق لمرة واحدة أم تعددت السرقات؟ 
وما شروط المسروق من حيث القيمة والكيفية؟ 
ودخلوا في أمور كثيرة تفصيلية حدث عليها خلاف، وتم تعطيله في عام الرمادة في عصر الفاروق عمر، وقال المعاصرون من الإسلاميين أثناء الانتخابات شروطه غير مكتملة وهي الكفاية.

حتى آيات المواريث، حيث يظن الكثيرون أنها قطعية الدلالة حدث عليها خلافات كثيرة أشهرها خلاف ابن عباس وابن عمر في قضية موت امرأة عن زوج وأب وأم، فالزوج له النصف باتفاق الاثنين ولكن حدث الخلاف بين ابن عباس وابن عمر في نصيب كل من الأب والأم فاعتمد ابن عباس على ظاهر الآية (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فقال للأم ثلث التركة بصريح الآية والمتبقي للأب وهو السدس، وفي هذه الحالة تكون الأم وهي المرأة قد أخذت ضعف الأب وهو الرجل. 
أما ابن عمر فقال لا، تأخذ الثلث من الباقي وليس من كامل التركة وتضبطها الآية (للذكر مثل حظ الأنثيين) بمعنى أنه يكون للأب ضعف نصيب الأم، فقال ابن عباس لم تقل الآية من المتبقي، ولذلك حدث خلاف كبير بين المذاهب في قضايا المواريث، بما يعني أنها لم تكن محكمة بالمعنى الحقيقي للإحكام.

وهناك خلاف أيضا على حدود الأمر القرآني، هل هو للإلزام أم للتفضيل أم للتخيير، ولذلك فالحديث عن الشريعة الإسلامية أوهام يتم تسويقها، لأنك لو نظرت إليها ستجدها في أغلبها الأعم إنتاجات بشرية لاحقة على الدين الأم، ولذلك فلا مجال للإلزام بها، وأن الإجماع الاجتماعي مقدم على الإجماع الفقهي، مع تحفظنا على مصطلح الإجماع، ولنقل الأغلبية المطلقة لمجالس منتخبة مقدمة على أي أغلبية فقهية ماضوية.

منظومة علم الحديث التي بنيت في القرن الثالث الهجري، قائمة على أساس هش من الناحية المنطقية، لأنها اعتمدت بداية على أن كل الصحابة عدول، ثم بنت عليها رغم الآية القرآنية التي تقول: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ) التوبة (101).

بما يظهر من ظاهر النص أن هناك منافقين ممن حول الرسول لا يعلمهم، وربما رووا أحاديث، وتناقلها بعضهم رواة، حتى المنافقون الذين علمهم الرسول، لم نعلمهم، لم نعلم من بني مسجد الضرار ولا من تخلف مع ابن سلول في أُحد، ولا من حاول قتله في تبوك، ولا نعرف إلا واحدا ممن علمهم الرسول، ناهيك بمن لا نعلمهم. 
الغريب أيضا أن عليّ بن أبي طالب له أربعة أحاديث فقط في البخاري، بعضها يسىء إليه وكذلك كبار الصحابة أحاديثهم تعد على أصابع اليد الواحدة، في مقابل آخرين كابن عباس وأبي هريرة، أحاديثهم بالآلاف.

يقترب عدد الرواة من التابعين وتابعيهم من نصف المليون راوٍ خضعوا جميعا لما يسمى علم الجرح والتعديل.

في معرض الكتاب دعاني بعض السلفيين للجلوس وقالوا إنهم زعلانين مني وسألوني إنت ليه زعلان من الشيخ برهامي؟ قلت لهم أنا مش زعلان من حد، أنا مختلف مع أفكار وآراء، بعضها شديد السلبية ويهدد السلم الاجتماعي، ودخلت معهم في حوارات من هذا النوع الذي ذكرته سابقا، وقد قلت لهم في البداية، لا يظن أحدكم أننا سنخرج متفقين بعد نهاية الحوار، وربما نخرج بأسئلة أكثر مما نخرج بإجابات، ولعبت معهم لعبة الشك، يحبون أن يأتوا بك إلى ملعبهم، التخصص والعلم وأهل العلم، وسألتهم ما تعريف أهل العلم، ولماذا يكون ما تحددونه من كتب ومن حفظ اجتهادات بشر هي تعريف أهل العلم، وخاصة ما يسمي علم الحديث والرواة والسند، فهناك بحر من العلوم الفلسفية والإنسانية، أخذتم منها جزءا وجعلتموه معيارا للعلم، فقالوا إنها علوم الدين، قلت لهم هذه كلمة محل شك، إنها ليست علوم دين، إنها علوم إنسانية لاحقة، قرنان من الزمان عرف الناس دينهم ومارسوه من غير لا علم رجال ولا علم حديث، والدين أبسط من ذلك بكثير، ومن حق البشر أن يُنشئوا مباحث ودراسات لاحقة وأفكارا، ولكنها لا تلحق بالدين لتعتبر جزءا منه، لأن هناك علم كلام وفلسفة تماست مع الدين أيضا، وحاولت تحليله وتفكيكه.

حتى كلمة ثوابت الدين والمعلوم من الدين بالضروة والتي يكفر منكرها غير متفق عليها، ولا يوجد اتفاق معلن عما يسمى ثوابت الدين، أو المعلوم من الدين بالضرورة وهو أمر هام فيما يسمونه الشريعة، يترتب عليها تكفير منكرها، وبالتالي استباحة دمه في الفقه المتشدد.

وعندما سألني أحدهم: كيف كنا سنعرف الصلاة من غير كتب الحديث، تحديته إنه يلاقي حديث واحد يتحدث عن الصلاة بمعنى عدد ركعات صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وأخرج موبايله وأخذ يبحث فوجد حديثا عن صلاة القصر، كنا نصلي العصر أربعا في المدينة واثنين خارجها في سنن الترمذي. 
هل تعلم أن كتاب الصلاة في البخاري من الحديث 349 وحتى الحديث 602، تحدث عن أمور كثيرة مثل الضحك في المسجد واللعب في المسجد والنوم في المسجد، والبزاق "لا مؤاخذة التفافة" في المسجد، وإنك "تتف عن شمالك مش قدامك ولا عن يمينك" وهناك أكثر من 20 حديثا عن البزاق والمخاط والتعامل معها في المسجد.

بعضهم لا يتحملون مغامرة الشك، عندما طرحت بعض هذه الأسئلة الهامة أمام أحد قادة الجماعة الإسلامية السابقين قاطعني ولم يتركني أكمل حديثي في لعبة الشك، وقال لي تعال أقعَّدك مع أحد علماء الحديث، قلت له مش محتاجة قعدة، لنفسك حاول تبحث عن إجابات عنده أو عند غيره عن الأسئلة التي طرحتها.

يكفي أن تستدرج أحدهم لدرجة واحدة من درجات الشك ليكمل طريقه، وإذا سأل فقد أعمل عقله وتقدم على العاطفة، وبهذا نكون قد فككنا الأيديولوجيا، الشمول والحقيقة المطلقة والعاطفة والتي تنتهي بالعنف.

وللحديث بقية، إن كان في العمر بقية.

Share it on