المهزومون في اليمن

about 9 years in أخبار اليوم

الحمد لله أن السياسة المصرية لم تقع في الخطيئة الكبري، ورفضت الذهاب مع التحالف السعودي إلي حملة برية في اليمن، وبدعوي محاربة الحوثيين وجماعة علي عبد الله صالح، فإذا بحملة التحالف ـ إياه ـ تنتهي إلي الفشل المضمون، وتزيد اليمن المسكين تحطيما علي تحطيم، وتجعله دارا ومستقرا جديدا لجماعات الإرهاب الإخواني والقاعدي والداعشي، ودون أن يتفكك نصيب الحوثيين الفعلي من السيطرة، ودون أن تنتصر ما تسمي «الحكومة الشرعية» برئاسة عبد ربه منصور هادي، ولا أن تجد لها مأوي ومقاما فوق الأراضي اليمنية.
وبعد سنة كاملة من القصف العشوائي، ومن الخبط والرزع، بعد كل هذا الخراب، إنهد حيل التحالف إياه، والذي لم تشارك فيه مصر سوي بحصار بحري يحمي سلامة مضيق «باب المندب»، وقررت ألا تشارك في القصف الجوي والحملة البرية، وتركت الآخرين ليجربوا حظوظهم، وقد ركبوا رءوسهم، وتصوروا أن قيادة المنطقة آلت إليهم، وأن بوسعهم أن يفعلوا أي شئ، فإذا بهم يهزمون في كل شئ، ويدخلون في مناطحة بائسة مع ميليشيات الحوثيين، والذين حاربوا علي طريقة الذي لا يخشي الخسارة، ونجحوا في حشد قدر معقول من التعبئة الوطنية، وخسروا السيطرة علي محافظات الجنوب، ولكن دون أن تتمكن قوات التحالف إياه من اقتحام حصونهم في الشمال، وفي العاصمة صنعاء وما حولها بالذات، وهو ما دفع الطرفين المتحاربين إلي حالة إنهاك متبادل، ودفع السعودية إلي طلب الصلح مع الحوثيين لوقف اشتباكات الحدود، ثم إلي ترك حلفاء السعودية للميدان، ثم توقف السعودية ذاتها عن مواصلة الحرب بصورتها العاصفة الأولي، وترك القصة كلها لمشاورات ومفاوضات سلام في الكويت تحت رعاية الأمم المتحدة، واستمرت المفاوضات العبثية لثلاثة شهور، ودون أن تصل لاتفاق من أي نوع، وبما أدي إلي توقفها، واحتمال العودة إليها في وقت لاحق، ودون أمل لدي الحكومة الشرعية ـ إياها ـ المدعومة من التحالف السعودي، ولا فرصة تذكر في تطبيق ما تسميه قرارات مجلس الأمن بصدد الأزمة اليمنية، والتي يفترض أن تعاقب «المتمردين» من جماعة صالح والحوثيين، فقد كسب الحوثيون ـ وجماعة صالح ـ شرعية التفاوض، وكسبوا أرضا جديدة وقت التفاوض، وصاروا الرقم الصعب في المعادلة اليمنية كلها، ولم يعد ممكنا الشروع في أي اتفاق بدون تشكيل حكومة وحدة وطنية، وربما بشرط إقصاء عبد ربه منصور هادي ووزراء حكومته المقيمين في فنادق المنفي الخليجي، وهو ما يعني المزيد من تمزيق اليمن المحطم أصلا، وربما انفصال الجنوب الموبوء بتفشي سيطرة جماعات الإرهاب علي طريقة «القاعدة» و«داعش» و«أنصار الشريعة» وأخواتها.
وقد لا يخفي سبب امتناع مصر عن الخوض في المستنقع، فالسياسة المصرية الآن، لا تريد لأحد أن يستدرجها إلي حروب استنزاف، ولديها من أولوياتها الداخلية ما يكفي ويزيد، ثم أن الحرب الراهنة في اليمن ليست حربا وطنية كما كان عليه الأمر في الستينيات، بل هي حرب طائفية بامتياز، وحرب تمزيق مريع للنسيج الوطني اليمني، فقد كان اليمن بمذهبيه «الشافعي» و«الزيدي» في حالة وئام ديني تاريخي، فالشافعية الغالبة في اليمن، هي مذهب سني عظيم التفتح، و»الزيدية» ليست من مذاهب الشيعة التقليدية، وقد أرادت إيران تشييع الزيديين، بل وغرس مذهبها في «ولاية الفقيه» عبر «الحوثيين»، والأخيرون من بيوت المذهب «الزيدي» المنسوب للإمام زيد بن علي بن أبي طالب، والذي اعترف بأحقية وإمامة الخلفاء الراشدين الأوائل المرفوضين من مذاهب الشيعة الشائعة، أي أحقية أبي بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ في خلافة النبي (صلي الله عليه وسلم) علي قاعدة جواز إمامة المفضول، وفي مقابل سعي إيران إلي تشييع «الزيديين»، سعت السعودية إلي نشر المذاهب السلفية المتشددة، وتحطيم سماحة وتفتح الشافعيين، باستخدام جماعة الإخوان في اليمن، ودعمها مع أجنحة قبلية في صورة «حزب الإصلاح»، إضافة لجماعات من مشايخ السلفيين الوهابيين الأكثر انغلاقا، وبما أدي في النهاية إلي توحش تنظيم «القاعدة» ثم «داعش» علي حساب جماعة الإخوان ذاتها، وهذه خرائط تمزيق وقتل لا ينتهي مفعولها التكفيري، وأضافت الحرب الأخيرة إلي مصائبها، ولم يكن للسعودية سوي أن تعتمد علي إرثها الطائفي والقبلي، وأن تصور الحوثيين كعملاء لإيران يجب اجتثاثهم، وجربت السعودية حظها استنادا إلي ما تبقي من نفوذ لجماعة الإخوان وحزب الإصلاح، وأرغمت عبد ربه منصور هادي علي تغيير نائبه وحكومته، وإقالة خالد بحاح من رئاسة الحكومة وموقع نائب الرئيس، وتعيين اللواء علي محسن الأحمر ـ القبلي الإخواني ـ نائبا للرئيس، وبما يعطي نفوذا أكبر للإخوان و»آل الأحمر» من قبائل حاشد، وكان ذلك تدهورا سياسيا زاد الطينة بلة، وزاد من قوة «الحوثيين» باستثارة العواطف الوطنية ضد الغزو الأجنبي، وسحب التعاطف الذي كان متبقيا لحكومة هادي الأولي، فوق أن السعودية أدركت متأخرا عمق المأزق الذي اندفعت إليه، ومالت إلي التملص من التكاليف الفادحة للحرب، وهو ما جعل الحوثيين وجماعة صالح في موقف أكثر قوة علي الأرض، خصوصا أن الأراضي التي أرغموا الحوثيين علي تركها، تحولت إلي ممالك وإمارات خالصة لسيطرة «القاعدة» و«داعش»، والتنظيمان الأخيران أكثر عداوة وخطرا علي السعودية من الحوثيين.
وبالجملة، فقد فشلت الحملة الحربية الجديدة في اليمن، فلم تقلص النفوذ الإيراني هناك، بل زادته رسوخا، ولم تعد لليمن حكومة شرعية معترفا بها، ولا نفذت قرارات مجلس الأمن التي صارت حبرا علي ورق، وعاد الكل إلي حرب تدمير لا ترحم بعد فشل المفاوضات، وهو ما يعني العودة إلي دائرة تحطيم مفرغة، تترك اليمن أطلالا متصدعة، وتضاعف من دواعي الانقسام في خرائطه، وتجعله خطرا علي الكيان السعودي بأضعاف ما كان عليه قبل الحرب.

Share it on