قضية ورأى

أكثر من ٧ سنوات فى أخبار اليوم

من كل شهور السنة، شهر أغسطس له وضع خاص فى حياة المصريين، فهو شهر وصول فيضان نهر النيل، بعد رحلة تستغرق من أربعة إلى ستة أسابيع من الحدود الإثيوبية إلى بحيرة ناصر، ووسط حالة ترقب لموقف الفيضان الجديد وهل سيأتى منخفضا ليكمل الدورة الحالية من الفيضانات المنخفضة التى يشهدها النهر، أم يرتفع قليلا ليمنح فرصة لتعويض ما تم سحبه من المخزون الاحتياطى بالبحيرة.
ومع التقدم الكبير فى تقنيات التنبؤ بالفيضان، فمازالت مقصورة حتى الآن عن التحديد الدقيق للكميات المتوقع وصولها. خصوصا مع نهر النيل العجوز بحكم سنوات العمر، لكن مازالت ثورات الغضب تأتيه من حين لآخر، وبين ساعات الرضا والغضب يتباين ايراده المائى ما بين مرتفع ومنخفض ومتوسط.
وللمصريين مع النهر وتقلباته قصص وحكايات...منذ تسعمائة عام حكى المؤرخ المصرى ابن إياس عن سلسلة فيضانات منخفضة استمرت سبع سنوات متصلة، وسماها المصريون الشدة المستنصرية. فتصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب حتى إن بغلة وزير الخليفة الذى ذهب للتحقيق فى حادثة أكلوها، وجاع الخليفة نفسه حتى إنه باع ماعلى مقابر آبائه من رخام. الشدة المستنصرية لم تكن فريدة فى تاريخنا ،فقدت تكررت بدرجات مختلفة مثلما وقع ايام نبى الله يوسف عليه السلام، حينما غاض النيل سبع سنوات كاملة ولم تتأثر مصر بالفيضان المنخفض نتيجة التدبير الحكيم ليوسف فى تخزين الغلال مع تطبيق خطة تقشف فى الاستهلاك نجحت فى عبور الأزمة بسلام أثناء فترة الرخاء.
وعيون المصريين كانت تتعلق بمنسوب الفيضان فى أول اغسطس من كل عام، حيث كانت القراءة تتم عن طريق مفتى الديار المصرية لمقياس النيل بجزيرة الروضة، الذى مازال قائما كأثر حتى الآن. وقتها كانت تقاس المياه بالذراع، لو وصل المنسوب إلى 13 ذراعا يستبشر الناس بفيضان جيد وبالتالى محصول وافر، كما كانت تستبشر الحكومة ايضا لأن الضرائب كانت تفرض بقدر مياه الفيضان، فإذا اعطى مقياس الروضة قراءة أقل من 11 ذراعا كانت تعلن الطوارئ فى عموم البلاد ويستعد الناس لعام قاس يمر عليهم. وإذا جاءت قراءة المقياس مرتفعة تعلو 15 ذراعا فهذا يعنى ان مصر ستواجه فيضانا مرتفعا يأكل الأخضر واليابس، فيتم التجنيد الاجبارى لكل المصريين ما بين 15 إلى 50 عاما ليقوموا بتدعيم جسور النيل وحواف القرى المطلة عليه. وكان هناك قانون ينظم تلك العملية استمر تطبيقه بتعديلات مختلفة حتى بناء السد العالى فى الستينيات من القرن الماضى، الذى نجح فى التحكم التام فى مخاطر الفيضانات المرتفعة والمنخفضة من خلال قدرته الكبيرة على التخزين فى بحيرة ناصر. وانتهت وظيفة مقياس الروضة بعد بناء السد العالى وانتقلت إلى مقياس آخر فى مدينة اسوان اسمه مقياس فريال، تم بناؤه فى عهد الملك فاروق وحمل اسم كبرى بناته الأميرة فريال.
وخلال الفترة من 1980 حتى 1990 واجهنا سلسلة متوالية من الفيضانات المنخفضة، عشرية قاسية، اضطررنا خلالها إلى السحب من مخزون بحيرة ناصر، ثم بدأت اجراءات اكثر حزما فى ترشيد الاستهلاك وصدر قانون منع رش الشوارع بالمياه، ووصل الأمر إلى وضع خطة طوارئ يتم تطبيقها لو ازدادت المناسيب انخفاضا فى البحيرة للدرجة التى تعوق عمل توربينات الكهرباء. فى تلك الفترة جاءت تقديرات الخبراء الأجانب متشائمة بخصوص امتداد دورة الفيضان المنخفض وهناك من كان يتحدث عن الجمال المصرية التى ستسير فى قاع بحيرة ناصر بعد ان يجف مخزونها. وفجأة بدءا من عام 1989 اتت سلسلة من الفيضانات المرتفعة لتعود البحيرة للامتلاء وتعوض السنوات العجاف، بل وقعت ظاهرة نادرة فى عام 1990 بتعرض البحيرة لفيضانين اثنين فى نفس العام وليس واحدا كما هو المعتاد، وشجعت الفيضانات المرتفعة فى ذلك الوقت على التفكير فى سلسلة من المشروعات القومية مثل توشكا وغيرها.
على اى الأحوال، سواء جاء الفيضان منخفضا مثل العام الماضى، أو تحسنت الأحوال قليلا، فهو امريجب ألا يصرفنا عن الاستمرار فى جهود تغيير سلوكيات المصريين مع المياه، والرغبة الجادة فى ترشيد استهلاكها، مع الأخذ فى الاعتبار ان الهدف الأساسى هو تعظيم العائد النقدى والاقتصادى من نقطة المياه. من خلال تركيب محصولى جديد يبتعد عن المحاصيل التقليدية، ويعتمد على الميزة النسبية للأرض المصرية، حتى يمكن المنافسة فى السوق العالمى بمنتجات أعلى قيمة وأقل تكلفة.

 

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على