دينزل واشنطن ..قمر السينما الأسود
over 8 years in أخبار اليوم
كما الجواد الجامح ينطلق نجم هوليوود دينزل واشنطن إلي العام الجديد ممثلاً ومخرجاً ومنتجاً بفيلمه Fences أسوار، الفيلم المقتبس عن مسرحية أوجست ويلسون “1945 ــ2005” التي تحمل نفس الاسم والحائزة علي جائزتي توني وبوليتزر لأفضل مسرحية، تعد النص الأول لمؤلفها ذي الأصل الأفريقي الذي يتحول إلي عمل سينمائي. هذا النص الذي راود واشنطن كحلم حماسي منذ فترة طويلة ووصفه بأنه عبقري واستحق التنفيذ مثل قصته العبقرية هي الأخري التي كانت لابد أن تتحول إلي فيلم، وقال:"مثلما تسأل نفسك لم لا نحول (Hamlet ــ هاملت) إلي فيلم؟ ولم يحولون (Death of A Salesman وفاة بائع متجول) لفيلم؟ لأنها من أعظم الكتابات في القرن العشرين"،وهذا الفيلم يحقق لـ"واشنطن" حلماً ثلاثي الأبعاد؛ فهو مأخوذ عن رواية مسرحية يقوم بإخراجها وتمثيلها في فيلم سينمائي، وهو ما عبر عنه في تصريح صحفي:" المسرح هو عشقي الأول والإخراج هو الثاني والتمثيل يأتي ثالثاً، وأود ان تُتاح لي الفُرصة لأفعل الثلاثة". الفيلم يناهض التفرقة العنصرية ويؤدي واشنطن نوشريكته في البطولة النجمة فيولا ديفيس الدورين الرئيسين اللذين سبق أن قاما بهما في العام 2010 علي مسرح برودواي وحصدا عنهما جائزة توني المسرحية، يشاركهما البطولة جوفان أديبو، مايكلتي ويليامسون، سانيا سيدني. تدور الأحداث حول حياة العمال الأمريكيين من أصل افريقي في خمسينيات القرن الـ 20، وترسم صوراً لكفاحهم من أجل حياة تضمن لهم الكرامة، كما هي حالة ومعاناة بطل الفيلم.
أب أمريكي من أصول افريقية يعاني من التمييز العنصري بسبب لون بشرته، هو أحد لاعبي البيسبول السابقين الذي واجهت حياته هزات عنيفة أثرت علي وضعه المهني وشهرته، ما جعله يتحول إلي عامل نظافة في أحد أحياء بيتسبرج في ولاية بنسيلفانيا، وتنقلب حياته وعائلته الصغيرة المكونة من زوجته وابنه رأساً إلي عقب؛ فتصبح ككرة الخيط معقدة ومتشابكة، لكنه لا يستسلم ويحاول أن يعلو بشأن عائلته في نفس الوقت الذي يناضل من أجل قضية بني عرقه من المواطنين السود الذين عانوا من الاضطهاد الدامي، أو من قالت عنهم فيولا ديفيس:" من كانوا حرفياً غير مرئيين عبر التاريخ"، حيث كان اللون الأسود هو رمز لحقيقة الإنسان المضطهد الذي يتلقي صفعات الكراهية بسبب عمي القلوب التي لا تدرك الألوان.. البطل في هذا الفيلم يتصالح مع ذاته، لكنه أيضاً تلقي صفعته؛ والصفعات لا تقتل وإنما تحفز علي المقاومة في زمن كان الضعفاء يخجلون من حقيقة لونهم ولا يمكنهم مواجهة الظالمين وتسلطهم غير الإنساني، أما الأقوياء فيجهرون بها ولا يهربون مهما كثر الضغط عليهم ورجم الحجارة، وهذا ما فعله بطل الفيلم الأمريكي الأسود مدركاً أن الكرامة هي المبرر الوحيد لاحتمال العذاب ومواصلة نضاله، روحاً وثابة تشع نوراًعلي بشرته السوداء وينعكس النور علي وجهه؛ كما محمود درويش يقصده حين أطلق تعبير "قمر الدنيا الأسود" في رسالته المعنونة "إلي زنجي"؛ وقال:"فأنتم لشدة قرابتكم، من الشمس.. أصبحتم ذوي لون صارخ، مما يثير في العنصريين البيض ما يثير المنديل الأحمر في الثور!".. بهذا المفهوم يقدم دينزل واشنطن فيلمه ويؤدي دوره ببساطة تنطلق خلالها طاقته التعبيرية في بناء الدلالات والمعاني التي أراد أن يرسلها، علي اعتبار الممثل كياناً وجودياً متحرراً من الافتعال، وهنا الأمر يكون متشابكاً لأنه يزاول التمثيل والإخراج في ذات الوقت، ما يعني أنه كمخرج عليه إدارة نفسه كممثل، وهي تجربة ليست جديدة عليه؛ فقد سبق أن قام بإخراج فيلمي "أنتوني فيشر" عام 2002، و"ـــThe Great Debaters" المناقشون العظماء عام 2007، ولعل هذا التحدي ما جعله مستهدفاً لترشيح أوسكار هذا العام، وهو استهداف مبكر يتم الترويج له.
ذكرت مجلة فارايتي إن فيلم "أسوار" والدور الإنساني الذي يقوم به دينزل واشنطن قد يترشح لأوسكار 2017، وهو ما أكده موقع "بيزنس إنسايدر" الأمريكي في تقريره عن توقعات النقاد واستطلاعه لرأي عينة عشوائية من الجمهور، حيث أجمعت الغالبية علي ترشيح واشنطن عن دوره في "أسوار" لجائزة أحسن ممثل، وإن حدث هذا الأمر؛ فلعله يدحض الاتهامات المصوّبة تجاه اللجنة المنظمة لـ "أوسكار" مؤخراً واعتبارها عنصرية لا تمنح الفرصة للممثلين السود، كما ورد في موقع "ديدلاين" الفني، وإذا تحقق فعلياً فإنه سيسجل دخولاً جديداً لـ"واشنطن" إلي عالم الـ"أوسكار" الذي حاز علي جائزته مرتين، الأولي في العام 1990 عن دوره في فيلم Glory" ) المجد) كأحسن ممثل مساعد والثانية عن دوه
في فيلم "The Training Day" (يوم التدريب) في العام 2002 كأحسن ممثل رئيسي عن دور الشرطي الفاسد الذي قام به، ليصبح ثاني ممثل أمريكي أسود يحصد الجائزة في تاريخ أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية بعد الممثل سيدني بواتيه عن دوره في فيلم (زنابق الحقل) عام 1964 إخراج رالف نلسن أكاديمية
الفنون والعلوم السينمائية، وكان هذا الفوز التاريخي انتصاراً اكتمل بفوز الممثلة هالي بيري بجائزة أوسكارأحسن ممثلة عن دورها كنادلة مطحونة في فيلم (كرة الوحش)، فابتسم وهو يتسلم جائزته وقال:" طائران في ليلة واحدة هذا رائع والله. أشكركم جميعاً من كل قلبي"، وأضاف في خطابه أنه عندما سُئل أثناء دراسته التمثيل عن أهم أمنية له فكان رده بأنه يريد أن يصبح أفضل ممثل في العالم، حينها نظر له الموجودون نظرة توحي بالسخرية وكأنهم يخبرونه بأنه مجنون..! ثم تذكر في طفولته حين كان مع والدته في الكنيسة وكتبت له سيدة نبوءة بأنه سيصبح يوماً ما مشهورا ًويتحدث عنه الملايين من البشر وسلمت تلك الورقة لدينزل الذي مازال يحتفظ بها حتي الآن.
قد يكون التحدي أحد مفاتيح شخصية دينزل واشنطن، ظهر ذلك جلياً في العام الماضي عندما قام ببطولة فيلمه (The Magnificent Seven) )العظماء السبعة) إخراج أنطوان فوكوا، من أفلام الـ (ويسترن) الأمريكية مستوحي عن قصة الساموراي السبعة لـ"أكيرا كوروساوا، ويحكي قصة مزارعين مكسيكيين يتعرضون للاستغلال من زعيم عصابة يدعي كالبيرا، فيذهبون لطلب المساعدة من رماة أمريكيين مهرة، مجموعة من المرتزقة الذين يجمعهم حب المغامرة والأموال والخبرة في استخدام الأسلحة يقومون بحماية هذا المجتمع الصغير من استبداد وظلم "بارون" سارق يتمتع بالسلطة والنفوذ..وفيه جسد "واشنطن" شخصية " تشيشولم " كاوبوي أسود لأول مرة في تاريخ هوليوود.. قصة أخري لمواجهة الظلم وإن اختلفت أهدافها ومساراتها، فسينما الغرب الأمريكي (ويسترن) تصنع الأسطورة الأمريكية وتعيد خلق التاريخ بصياغة تبرز اللحظة الأمريكية ورمزها الـ"كاوبوي" المستوطن المقاتل من أجل البقاء، لكنها علي أي الأحوال فتحت طريقاً له ليتعرف علي عوالم جديدة ويتدرب علي ركوب الأحصنة. يا له من تحد! رجل في الـ61 من عمره يمتطي حصاناً ويمسك سلاحاً ويقفز هنا وهناك، إنها مغامرة ولاشك، "إنها وسيلة لكسب العيش"، يقول واشنطن في حوار صحفي، ويضيف:" أحب عملي كثيراً، وهو يسبب لي السعادة، لكن التمثيل ليس مرادفاً لحياتي بأكملها، إنه حرفتي".
إنها حرفته، كما ينطقها بسلاسة ودون تكلف كأنها أمر عادي لا يستلزم الوقوف عنده كثيراً وإعطائه إهتماماً أكثر من اللازم، لكنها أيضاً الحرفة التي منحها من ألقه كممثل لم يخضع للصورة النمطية في التمثيل، من بداية مشواره الذي بدأه يوماً عند نقطة اختيارية غيرت شكل حياته، حتي يمكن وصفه بأنه عاش حياة غير مخطط لها إلي أن وصل إلي ذروة التمثيل والنجومية. ولد بنيويورك في 28 ديسمبر1954، واسمه كاملاً "دينزل هايس واشنطن الابن"، هو الولد الأوسط بين ثلاثة أولاد لخبيرة التجميل ذات الأصول الجورجية "لينيز لو"ووالده من ولاية فيرجينيا يعمل رساماً، عاش مرحلة مراهقته في مدرسة داخلية وكان كغالبية الشباب في مقتبل العمر لا يعرف كيف يحدد بالضبط مستقبله، فتضاربت اختياراته من دراسته لعلوم الأحياء في جامعة فوردهام تمهيداً لأن يصبح طبيباً، ثم توقفه عن الدراسة وانتقاله لدراسة العلوم السياسية دون أن يواصلها هي الأخري، إلي أن التحق بمؤسسة الشباب المسيحيين وشارك في عرض مسرحي في إحدي المعسكرات الصيفية أبرز موهبته وقوبل باستحسان الجميع، فنصحوه بالاتجاه إلي التمثيل وعاد بعده مباشرة إلي جامعة فوردهام التي تخرج منها في العام 1977 بعد دراسته الدراما والصحافة، ثم التحق بالمعهد الأمريكي للفنون المسرحية بسان فرانسيسكو ليدرس التمثيل، حيث تدرب لمدة عام ونال ما رأي أنه يكفيه ليتعرف علي المفاتيح الأساسية التي تصقل موهبته، فترك المعهد ليباشر مشواره العملي الذي بدأ في الثمانينيات.
أدوار صغيرة وبسيطة منحته تأشيرة الدخول إلي أن شارك في دور بطولة مُشترك بفيلم "المجد" الذي فاز من خلاله علي جائزة أوسكار أفضل ممثل مساعد، كما أسلفنا، حتي صار من نجوم الصفوف الأولي في هوليوود بعد فيلمه الشهير "مالكوم إكس" (1992) إخراج سبايك لي، عن سيرة الزعيم الأفريقي الأمريكي مالكوم إكس (اسمه عند مولده مالكوم ليتل، وعُرف أيضاً باسم الحاج مالك الشباز) الذي أغتيل علي يد مجموعة من العنصريين البيض. ومن هذا الفيلم انتقل إلي تجسيد شخصية حقيقية أخري؛ شخصية الملاكم الأسود روبن "هاريكاين" كارتر في "الإعصار" 1999 لنورمان جايزون. روبن الذي انتزع منه لقبه وسُجِن 19 عاماً ظلماً بتهمة لم يرتكبها قتل ثلاثة بيض، والذي غني له بوب ديلان عام 1975: "إليكم قصة هاريكاين الرجل الذي اتهمته السلطات بجريمة لم يرتكبها يوما وسجنته في زنزانة لكنه كان ليصبح في أحد الأيام بطل العالم".. الشخصيتان "مالكوم وروبن" أثّرتا في مسيرة السود الأميريكيين وتاريخ نضالهم ضد طغيان الرجل الأبيض، وربما كان هذا من أهم أسباب عدم حصول "واشنطن" علي جائزة أوسكار التي ترشح لها عن دوريه في الفيلمين.
علي أي حال، فإن دينزل واشنطن لم يكن تنقصه الجوائز لإثبات قدراته التمثيلية التي تنوعت من فيلم لآخر، قدم خلالها نماذج بشرية متباينة وصعبة، منها مشاركته توم هانكس في بطولة فيلم "فيلادلفيا" 1993 إخراج جوناثان ديم، والذي أدي فيه دور المحامي البارع، وقال عنه توم هانكس: "عملت مع دينزل في فيلم فلادلفيا، ويمكن القول أن العمل معه هو كأنك ذهبت للتعلم في مدرسة للتمثيل، فلم أتعلم من التمثيل من أحد إلا كما تعلمت من واشنطن، حيث بإمكانك الاستفادة منه كثيراً بمجرد مشاهدته يمثل ويمكنك الاستمتاع بأدائه بمجرد النظر إليه".. كذلك قال عنه النقاد أنه من أساطير السينما الأمريكية بعد مشوار حفل بالعديد من الأدوار والشخصيات، من شرطي فاسد إلي رجل مافيا وعصابات إلي شرطي صالح إلي ملاكم بريء وصامد إلي مناضل إلي الطيار ويب المدمن علي الكحول في فيلم "رحلة طيران" (2012) إخراج روبرت زيميكس. تعددت الأفلام والأدوار ودينزل واشنطن واحد يزيد شغفه بالتمثيل ومنه انتقل خطوات صغيرة للإخراج علمته التماهي بشكل أكبر مع التمثيل وإعداد نفسه حتي لا يسجن في إطار الدور الواحد، وهو ما فعله دائماً بذكاء منذ كان ممثلا مبتدئا، ثم نجماً صغيراً يتلمس إشعاعاً أو قبساً من نور، إلي أن أصبح قمراً ساطعاً يبالغ في رقته مع سهاري الليل ومحبي السينما؛ ولربما إذا تم ترشيحه للأوسكار هذه المرة أيضاً بفيلمه الجديد "أسوار"، تساءل كما فعل في المرات السابقة: ماذا أفعل بعد ذلك؟!.. قد يبتسم أو يختصر الطريق علي الأسئلة ويقول:" عندما بلغت الـ 60 من عمري نظرت إلي المرآة وقلت لنفسي ماذا تريد أن تفعل بما يتبقي في حياتك؟!، ماذا تريد أن تحقق الآن؟ ووجدت نفسي أرغب في أن تصبح حياتي صحية أكثر وأشرب الكثير من الماء وابتعد عن الأفكار والتصرفات السلبية"