نقل السفارة الأمريكية للقدس.. بين تأجيج الصراع والاعتراف بالشرعية

أكثر من ٨ سنوات فى التحرير

حالة من الجدل فى الوسط السياسي والثقافي بين المفكرين والكتاب والمحللين الأمريكيين؛ سببتها فكرة نقل السفارة الأمريكية بإسرائيل إلى القدس. فالنقاش الدائر حاليًا بدأ حينما اعلن الرئيس المنتخب دونالد ترامب، فى أحد خطابات حملته الانتخابية، أنه سينقل السفارة الامريكية من تل أبيب إلى القدس.
ظلت الفكرة تثار على صحيفة النيويورك بوست من خلال عدة مقالات؛ ممن يديرون النقاش فى الولايات المتحدة الآن من النخب، فيتعرض البعض لعدم مشروعية نقل السفارة إلى القدس، والبعض الأخر يؤيد نقلها ويطالب بالتعجيل به. 

فلماذا يريد الإسرائيليون نقل السفارات الأجنبية إلى القدس بدلًا من تل أبيب؟

 

فى مقال الإسرائيلي إمياد كوهين، عمدة بلدة إيلي السابق وناشر مجلة «هاشيلواح» الشهرية فى الثقافة والسياسة والفنون؛ بعنوان «أرجوكي أمريكا، قومي بنقل السفارة إلى القدس»، يناقش ضرورة القيام بتلك الخطوة، ويشجع عليها من خلال دعوته للأمريكيين كإسرائيلي، بضرورة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، ويستعرض وجهة نظره بأن «القدس لطالما كانت عاصمة الدولة اليهودية منذ 3000 آلاف عام، وأن لا توجد دولة أو حضارة أخرى في أي وقت مضى كونت عاصمة لها بالقدس، فمنذ 1948، تعمل القدس  كعاصمة لدولة إسرائيل فعليًا».

 

ويستكمل «كوهين» قائلًا إن «المحافظة على السفارة فى تل أبيب من شأنه التقليل من الواقع الذي يفرض نفسه، بكون القدس العاصمة الطبيعية للدولة اليهودية، وأن تجاهل الواقع دائمًا يأتي بتكلفة باهظة، وأنه من الممكن أن يكون هناك واقع جديد بعد القدس».

وفى جرأة طرح «كوهين» مخاوفه من تأخير وتعطيل نقل السفارات الأجنبية بإسرائيل إلى القدس، وفى تخطٍ واضح للقانون الدولى وإيمانًا منه أن سياسية «فرض الواقع» هو ما تقوم به إسرائيل عادة غير مبالية بإرادة من اغتصبت أراضيهم، قال إن «الإسرائيليون يعرفون جيدًا الثمن الذي تدفعه إسرائيل بسبب عدم نقل  السفارات من تل أبيب إلى القدس، فذلك يشجع الدول العربية على عدم الاعتراف بإسرائيل، بل ويعني أن وجود الأخيرة في القدس هو شيء مؤقت، قد تضطر في يوم تل أبيب إلى الانسحاب من القدس، بما في ذلك القدس الغربية؛ ويكون في نهاية المطاف، محو تواجد دولة إسرائيل أصلًا من الوجود -كما يأمل أعداء إسرائيل».

يتوقع «كوهين»بذلك أسوء كوابيس كل إسرائيلي، مما يدفعه إلى الزج والضغط بمجادلة ضرورة فرض الواقع الإسرائيلي على القضية والحث على الاعتراف ضمنيًا بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وأن يكون ذلك بتواجد البعثات الدبلوماسية الموفدة لإسرائيل بها.

 

ومن الجدير بالذكر أن الإسرائيليين يهتمون للغاية بالعامل الجغرافي فى السياسة، ولهذا يقول «كوهين» إن «من المهم أن نتذكر الاعتبارات الجغرافية كثيرًا -الذي يغفل كثيرًا- في هذا الصراع السياسي، فليس هناك أدنى شك أن القدس الغربية جزء لا يتجزأ من إسرائيل، ونعم هناك نزاع قائم على مناطق داخل القدس، ولكن على المؤيدين المتحمسين لتقسيم الأرض بين الإسرائيليين والعرب أن يعترفوا بأن القدس الغربية هي جزء لا يتجزأ ودائم لإسرائيل»، «فسفارة أمريكية فى القدس الغربية، يؤكد ويرسل رسالة تأكيدية على أن إسرائيل هنا لتبقى». 

ويستكمل «كوهين» أن من شأن نقل السفارة الأمريكية للقدس «كعاصمة بالفعل لإسرائيل» بعث برسالة هامة إلى السلطة الفلسطينية الحالية مفاداها «عليهم تقديم التنازلات لتحقيق الاستقلال، وأن القدس جزء إسرائيلي حتميًا»، و«سيكون هذا تعظيم من شأن الواقع الفعلي، وأن الاعتراف بإسرائيل وقبول شروطها يعطي السلام فرصة».

ويختتم «كوهين» مقاله الجدلي بأنه «لا يريد إلقاء محاضرة على الأمريكيين عن قوانينهم الخاصة ومصالحهم»، ولكنه يريد «تذكيرهم بتصويت الكونجرس ،1995، بأغلبية فى صالح نقل السفارة إلى القدس، وأن من حق الدولة الأقرب للواشنطن، وحليفها الأبدي فى الشرق الأوسط أن تحصل على حقها الدبلوماسي فى عاصمتها التاريخية». و«كإسرائيلي، حجتى واضحة؛ وهى أن لا يمكن تحقيق السلام دون الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل، وهى حقيقة علينا إدراكها».

 

مصلحة إسرائيلية أم أمريكية بالأساس؟

 

يناقش روبرت ستيرنز، استراتيجي وناشط في مجال حوار الأديان ومدير مؤسسة تنفيذية تشارك فى مجموعة من المشاريع الاستراتيجية فى جميع أنحاء العالم، وجوب تواجد السفارات الأجنبية فى القدس كعاصمة لإسرائيل، قائًلا «كما هو الحال فى جميع بلدان العالم، من حيث أن السفارات الأجنبية تتواجد فى قلب عواصم العالم»، و«لهذا مرر الكونجرس الأمريكي مشروع قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس فى 1995»، ويدعى «ستيرنز» أن «القدس الغربية» ستكون «جزء لا يتجزأ من عملية سلام ممكنة»، وأنه أمر حتمى وعلى الجميع تقبله، وتواجد السفارة فى ما يعرف بـ«الحزام الأخضر» بالقدس سيكون بمثابة اعتراف بحق وجود إسرائيل، وذكر أن «من لا يقبل انتقال السفارة الأميريكية إلى القدس، لا يعترف بحق وجود إسرائيل».

وفى نظرة متطرفة ومتعجرفة وضاغطة للجانب الأمريكي، يلعب «ستيرنز» على الوتر الأمريكي المفضل وهو «الزعامة»، ويقول «إن انتقال السفارة الأمريكية إلى عاصمة إسرائيل الطبيعية يحد من تراجع النفوذ الأمريكي فى المنطقة، بل والعالم، ويعطي انطباعًا للجانب الفلسطيني بأننا جاديين فى عملية السلام وإنهاء الصراع، ويلزمهم بالاعتراف بحق الوجود الشرعي للدولة الإسرائيلية فى الشرق الأوسط، وهو شرط أساسي لا تراجع فيه، حتى يتمتع الطرفين بالسلام». 
 

 

نقل السفارة الأمريكية للقدس سيكون لها عواقب وخيمة

وفي نفس سلسلة المقالات بخصوص الموضوع المنشورة من النيويورك تايمز، يعرض ديفيد آرون ميلر وجهة نظره، وهو مفاوض الشرق الأوسط السابق ومستشار في كلا من الإدارات الجمهورية والديمقراطية الأمريكية، ونائب رئيس مركز وودرو ويلسون في واشنطن، ومؤلف «نهاية العظمة: لماذا أمريكا لا يمكن (ولا تريد) رئيس عظيم آخر». يقول إنه من خلال خبرته فى العمل مع صانعى السياسات الخارجية بالإدارة الأمريكية، فى كل مرة تعتزم الإدارة الأمريكية نقل السفارة خاصتها إلى القدس كانت نصيحته دائمًا «لاتقوموا بذلك»، وفى تفسيره لنصيحته أنه «ليس هناك ما يعود بالنفع على المصالح الأمريكية إن قامت بذلك وأن العواقب ستكون وخيمة».

وفى رأيه، من حق إسرائيل أن تنقل السفارات الأجنبية إلى حيثما يوجد البرلمان والحكومة الإسرائيلية -أي بالقدس- ولكن هذا يثبت وجهة النظر العربية ويجعل الجانب الفلسطيني يتشبث بالقدس أكثر وبدعم عربي، ويؤكد على النوايا الإسرائيلية من جعل القدس عاصمة دائمة لها خاصة بعد النشاط الاستيطاني لها حول القدس وبها. بل تلك الممارسات «تقتل عملية السلام»، وسيكون «من الصعب الالتفاف حول موائد المفاوضات مرة ثانية» و«يفقد الولايات المتحدة مصداقيتها فى المضى قدمًا بعملية السلام».

 وهو فيما يبدو أن تخوف «ميلر» يأتي من احتمالية تصعيد الموقف والرجوع إلى الكفاح المسلح والمقاومة ضد إسرائيل؛ «فهذا من شأنه تحفيز الفلسطينيين للدفاع عن القدس». 

ويستكمل عرض وجهة نظره قائلاً إن قامت واشنطن بنقل السفارة إلى القدس سيمثل «سكب الزيت على النار»، «فالصراع يتمتع بالهدوء النسبي الآن مقارنة بما نراه فى الشرق الأوسط من صراعات». 

وفى نقاشه يعرض حقيقة حتمية هى أن «القدس عاصمة لكل العرب والمسلمين»، فوفقًا لوجهة نظره «إسرائيل تتمتع الآن بعلاقات جيدة ووثيقة مع نظيرها من الدول العربية المجاورة ويتفقون على محاربة تنظيم الدولة الإسلامية»، ولا يرى «ميلر» سببًا واضحًا لفتح ملف «القدس» الآن. 

ويختتم مقاله بنصيحة للإدارة الأمريكية الجديدة، في إشارة إلى الدعوات الماضية، لطالما «رقصت واشنطن وعزفت على وتر القدس، فمن الأحرى أن يكمل الأمريكيون هكذا». 

ما يحدث فى القدس لا يبقى فى القدس

يتفق جريجوري خليل، كتب مقال أخر فى الصدد نفسه، مع «ميلر» في أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس يؤدي إلى العنف ؛لأن «ما يجري فى القدس يخص ملايين المسلمين حول العالم ولا يخص الفلسطينيين وحدهم». 

«جريجوري» له مؤسسة أمريكية تعمل على تعزيز «الأمن، الحرية والكرامة» لكل من الفلسطينين والإسرائيليين على حد سواء.

 

ويقول «خليل» إن الاعتراف ضمنيًا بالقدس كعاصمة إسرائيلية «هزة كبيرة لعملية السلام ويقتلها»، وأن «أى إعلان من قبل إسرائيل أو واشنطن بخصوص القدس سيكون استفزازًا واضحًا، وسيرسل إشعارات بالخوف وعدم الاستقرار، ومن الممكن أن يأتى بالحروب على المدى البعيد»، فالدين فى القدس «واقع سياسي»، وستتكون مخاوف من ناحية استشعار المسلمين بعدم وصولهم إلى مقدساتهم التى تقع فى قلب القدس. 

ويرى أن فى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وسفارات أخرى إشارة بـ«تخلى الولايات المتحدة عن آخر نفوذ لها بالمنطقة، وسيخالف عقود ماضية من السياسة الأمريكية والقانون الدولي، وسيكون إلهامًا إلى اضطرابات طويلة المدى وردة فعل قوية وعنيفة، ولن تأتى على المصالح الأمريكية بمنفعة واضحة».

ويوضح أن «معارضة هذه الخطوة اليوم لا يعني معارضة العلاقة العميقة بين الشعب اليهودي وواشنطن، ولا بين الأخيرة والشعب الفلسطيني، فعدم تنفيذ تلك الخطوة الآن ليس من شأنه إنكار لحق إسرائيل، بل هو إبقاء على سلامة القدس ووضعها المستقر والحفاظ على المقدسات المسيحية والإسلامية بها أيضًا، وتعزيزًا للكرامة الفلسطينية والإسرائيلية والكرامة والسلام للجميع».

 

 

 ويناقش «خليل» أنه «ينبغى تحويل انتباه القادة إلى الواقع الخطير على أرض الواقع، والعمل بوجه السرعة لحماية الأحياء الأكثر ضعفًا فى القدس، بما فى ذلك الفلسطينيين المتواجدين فى شرق القدس المحتلة، وهم يشكلون 37% من سكانها، والعمل على  تعزيز الاقتصاد للفلسطينيين وتمكين وصول البضائع لهم، بل وإِشراك القادة المحليين والدوليين فى تحقيق هذا الهدف». فالقدس الآن هى «الصراع»، وبدلًا من ذلك، يجب أن تكون «منارة قوية ومثال للتعايش وتعدد الأديان». 

فهل ستجرؤ أمريكا على نقل سفارتها من تل أبيب للقدس، والامتثال إلى الأوامر والابتزازات الإسرائيلية فى ظل ان ذلك لا يعود عليها إلا بالمزيد من الكراهية والسخط من الرأى العام العالمي؟ 

ولهذا يعتبر المحللون أن قرار 2334 الأخير الصادر عن مجلس الأمن ضد إسرائيل -المقدم بالأساس من مصر- صفعة فى وجه النوايا الإسرائيلية بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، وأن الهدف وراء تقديم القرار فى هذا التوقيت لم يكن الحد من النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، بل هو وقفة لصد العين عن القدس كعاصمة، ولقد طفح لكيل بالمطالبة بالرجوع إلى حدود 67 فى ظل التوغل الاستيطاني التى تقوم به إسرائيل.  

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على