القتل الثقافي بوصفه نصاً

ما يقرب من ٥ سنوات فى المدى

علي حسن الفواز
من الصعب جداً الحديث عن القتل الثقافي، في توصيفه، وفي قوننته، وفي التعرّف على مرجعيته، فهذا القتلُ جريمة غير معيارية، وأنّ قصديتها تجعلها جريمة مخاتلة، وذات قصدية معينة، تتجاوز حدود الوقت والجسد، والهدف المحدد لارتكابها، الى أهداف لها أبعاد فاضحة في رمزيتها وفي خطابيتها، وفي ما يكتنفها من غموضٍ والتباس، فأغلب هذه الجرائم تُقيّد ضد مجهولين غامضين، إذ تقف وراءهم قوى عصابية وسياسية وأيديولوجية أكثر غموضا..الاغتيال السياسي هو الوجه الأكثر فداحة ورعباً في التعبير عن فكرة القتل الثقافي، وفي سياق تنفيذه، مثلما هو التتويج الذي ينتهي إليه فعل هذا القتل القصدي، في التعبير عن رمزيته، وعن نزعة مايحمله من قسوة وتوحش، ومن كراهية، ومن عصاب نفسي تتعطل فيه إرادة الوعي بالحق والمسؤولية الأخلاقية والشرعية، حيث تتحول نزعة الإقصاء، الى إيهام بغياب الخصم، والى تمثيل لصور الوعي المزيف وهو يصطنع خطاباً فائق الخطورة للسيطرة والهيمنة..الاغتيال البشع الذي حدث للروائي العراقي علاء مشذوب يضعنا أمام رهاب هذه الجريمة السياسية، وفي تنفيذها، وفي أهدافها، وفي سياق الطريقة التي تمّ بها فعل القتل، على المستوى الرمزي، أوعلى مستوى طبيعة الرسالة المُراد إرسالها الى جهات أو أشخاص يفكرون، ويتصرفون، ويتخذون مواقف خارج سياق فعل الهيمنة والمركزة، وهي جرائم لا تخلو من الأدلجة، ومن القصد، وبما يجعلها تشبه جرائم ثقافية حدثت في تاريخنا الحديث..
القتل بوصفه نصاًالقتل الثقافي جريمة قناع، حيث يلبس القاتل قناع الأيديولوجي أو العصابي أو الثوري، أو حتى العقائدي، مثلما هو جريمة نص، حيث يلبس القاتل القناع النصوصي للفقيه، وفي سياق التوهّم بفرض سلطة النص المُضاد، عبر تغييب منتج النص الاول. لعبة التغييب والمحو والطرد خارج السياق هي المجال التمثيلي المرعب والمتوحش في السياق التعبيري عن فعل القتل الثقافي، والتي لايمكن فصله عن الطابع التمثيلي للجريمة السياسية، إذ يتحول خطابه الى منصة للتعبير عن الأفكار القاتلة، أو عن شراهة الهوية القاتلة كما يسميها أمين معلوف في السيطرة والهيمنة وفي محو الآخر وحذفه عن الوجود والسياق، او حتى في التعبير عن تضخم النزعة الشعبوية، التي تحاول فرض(توقيعها) كشفرة رفض، أو لفرض نوع من النصوص، حيث يأتي تمثيل هذا الرفض عبر شخصنة الاغتيال بوصفه إحالة سيميائية ل(اغتيال العقل) كما سماه برهان غليون، والتي تعبّر في جوهرها عن مستوى معين من الرثاثة السياسية من جانب، وتعبير عن الهشاشة الثقافية من جانب آخر، إذ تفتح كلّ جريمة ثقافية أفقا لجريمة سياسية واجتماعية، وهو ماحدث مع اغتيال يوسف السباعي، وحسين مروة، ومهدي عامل، وصبحي الصالح وشكري بلعيد، وكامل شياع وقاسم عبد الأمير عجام، وأخيراً علاء مشذوب..علاقة عملية الاغتيال الثقافي باغتيال النص تكشف لنا عن الوهم المؤسس لفعل الجريمة، وللنص حيث يقوم كلاهما على فكرة المحو، وعلى إيجاد سند تبريري وتسويقس لسدِّ ذرائع التغييب باستخلاف نصٍ تصطنعه القوى المهيمنة، كنوع من المناصصة التعويضية الاشباعية، والايهامية في الآن معاً، والقائمة على فكرة طرد الآخر أو حذفه من خلال تكفيره أو زندقته أو تحويله الى عدوٍ مفترض..
القتل الثقافي وعطالة العقلالعقل الشرير، العقل العاطل، هما مصدرا صناعة الجريمة، إذ لايمكن ل(العقل الفعّال) بدلالاته المؤسسية والحقوقية والتعليمية والإنسانية أنْ يشرعن فعل الجريمة، أو أن يبررها تاريخياً أو أيديولوجياً، ومن هنا ندرك خطورة(العقل الشرير) بوصفه عقلاً ايهامياً وصيانياً ودوغمائياً، إذ يملك هذا(العقل) هامشاً تدميرياً، حيث يتموضع في الثابت كما يقول أدونيس، أو يدور حول ميتافيزيقيا المثال، المثال الذي تصنعه الدوغما الأيديولوجية أو الدينية الطائفية أو القومية، ويما يسبغ على الجريمة طابعا(قدسوياً) تطهيرياً إزاء فعل المروق أو الزندقة أو حتى الخروج من الأمة، وهي مصطلحات لم تعد قياسية، لا بالمعنى القانوني، ولا بالشرعي، في وقت تأصلت قيمة المواطنة بوصفها هوية أو كينونة لذات تعيد انتاج نفسها على وفق تلك القيمة، وفي دولة مؤسسية، لها جهازها في الحكم وفي الإدارة وفي العمل وفي الحقوق والمساواة بين الجميع.جريمة اغتيال الكاتب والروائي علاء مشذوب وقبله كامل شياع وأحمد آدم وشهاب التميمي تمثل وجوهاً متعددة لوجوه (اغتيال العقل) وتعطيل مفهوم الحق في الاختلاف، فالخلاف في الأفكار وفي تداول النصوص لايعني تبرير فرض النصوص الضد بالقوة، أو تعطيلها في فعالية النسق، وهذا مايُعطي لهذه الجريمة توصيفات تتجاوز ماهو جنائي الى ماهو حقوقي، أو عصابي الى ماهو إرهابي، وبالاتجاه الذي يعكس التشوهات لمفهومية ل(العقل الخائف) كنظير سلبي ل(العقل الشرير) حيث يعيشان- كلاهما- السكنى عند لاوعي الجماعة وليس وعي الأمة، ولا وعي الفرقة وليس وعي المؤسسة/ الدولة، وفي سياق حاجاتها للتنظيم والتمكين.إن تبرير فعل القتل الثقافي لاعلاقة له ب(الماهية) التي تدافع عنها الجماعة، وخوفها من النصوص الضد، بل بالإشهار عن الفكرة المغالية للتنصيب(الهووي) حيث تحاول فرضه تلك الجماعة كخطاب للقوة، والسيطرة، والذي لايعني سوى المزيد من إنتاج الغلو والعنف والكراهية والتكفير، وتسويغ فعلها عبر الاستعانة بالمرجعية الفقهية أو بالمثال التاريخي، وهو مثال ذو توصيف أفلاطوني كثيراً ما يقع فريسة للمنطق الذي حاول سقراط أن يجعله أقرب للوجود، والذي راح ضحيته أيضاً.من هنا كانت جريمة قتل علاء مشذوب هي تتويج لأفكار لاترى في فعل القتل الثقافي غضاضة، ولا إخلال بالنظام الحقوقي والإنساني، مثلما هي تعبير عن تضخم الرهاب الفكري والنصوصي الذي تصنعه الجماعة، وعن الضعف الذي تعيشه الدولة/ الأمة...

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على