خلود...

ما يقرب من ٥ سنوات فى المدى

 د. لاهاي عبد الحسين
قبل أيام أقدم الأخ الأكبر على قتل أخته "خلود"، شنقاً حتى الموت بسبب صور مهينة. تجاوزت الفتاة المشنوقة الأربعين عاماً من العمر. ومما قيل في واقع الفتاة أنّها كانت تعيش في ظل ظروف عائلية عصيبة تعامل فيها معاملة العبيد من قبل زوجات الأخوة والأخوة كذلك لكونها غير متزوجة وبلغت مرحلة العنوسة ذات الوصمة القاسية في المجتمع العراقي. وتنقل وسائل التواصل الاجتماعي أخبار عن حوادث مماثلة راح ضحيتها نساء شابات متزوجات وغير متزوجات ومن كل المحافظات والأمكنة والأديان والطوائف.
لا أحد يستطيع الإدعاء أنّها سمة لجماعة دون أخرى أو محافظة دون أخرى. وليس صحيحاً القول أيضاً إنّها جرائم تطال النساء الجميلات أو المشهورات من الشابات على وجه التعيين بل تطال كل النساء. ظاهرة قديمة وراسخة ولكنّها تخبو في ظل ظروف الأمان النسبي والأوضاع الاقتصادية المتحركة والواعدة وتظهر تدريجياً لتصل مرحلة الشراسة في ظل ظروف القلق والإضطراب التي تقدم المرأة فيها قرباناً للتعبير عن التوتر والأسى وعدم الإرتياح.لا أحد ينكر مقدار الخذلان وخيبة الأمل الذي تصاب به العائلة جراء تصرفات طائشة وغير محسوبة من أي فرد من أفرادها وبخاصة إناثها مهما كانت المبررات بسبب الإرث الثقافي الإسلامي الذي يمتزج فيه الموقف الأخلاقي بقوة وعمق مع الموقف القانوني والفقهي. موقف يعاقب فيه المتجاوز للسائد والمقبول وبشدة يمكن أنْ تصل حد الإعاقة أو الموت العمد كما تظهر دراسات علمية متخصصة إلى جانب الشائع والمتعارف عليه اجتماعياً. بيد أنّ لهذا الجانب الأخلاقي جانب آخر لا يقل أهمية يتعلق بمن يستدرج الضحية ويفرط بالثقة ويعرضها للخطورة والهوان أو يمارس التهديد والإبتزاز. وصارت هذه السلوكيات أكثر حساسية اليوم في ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تستخدم لأغراض متعددة منها ما يتعلق بالشخصي والاجتماعي كما أكد خطيب المرجعية الدينية السيد أحمد الصافي عليها في خطبة الجمعة الفائتة وحث على محاربتها ووقفها لحماية الشباب من مخاطرها. يتفق فقهاء القانون والمشتغلون في العلوم الإنسانية على الدور الخطير والمؤذي الذي تمارسه الضغوط الاجتماعية والتي تؤدي إلى صنع ردود فعل نفسية يعالجها بعض من يقع تحت وطأتها بسلوكيات عشوائية وغير منضبطة. وهذا ما يحتم تطوير مواقف أخلاقية لا تقل أهمية عن الموقف الأخلاقي الذي يتطلب الإنضباط وحماية الذات من براثن مختلف أشكال الإستغلال بما في ذلك الإستغلال الذاتي للفرد بنفسه ولنفسه نتيجة الإنهيار والتساهل وإنعدام الحيطة والحذر من المتربصين ومتحيني الفرص للنيل من الشابات والشباب، على وجه التعيين. تتعدى تجاوزات من هذا النوع حدود الأفراد لتشمل فئات اجتماعية تعبر عن فشلها وخيبة أملها بطرق متعددة لإيذاء الذات والإنتقام منها ليس فقط من خلال التسليم للعقوبة العائلية بل والذاتية أيضاً بالإقدام على الإنتحار. فقد زادت معدلات الإنتحار حتى أصبحت قضية رأي عام في العراق، اليوم. قضية يتردد صداها فيما تحمله الأخبار عن حالات يقع ضحيتها في الغالب شباب لم يتجاوزوا العشرينيات من العمر. ويأتي هؤلاء أيضاً من مختلف المناطق والجماعات والطوائف والأديان وكذلك المستويات التعليمية. يبقى عامل واحد يبدو إنّه يشذ على القاعدة وهو الذي يتعلق بجندر الضحية. يتقدم عدد الإناث المنتحرات على عدد الذكور نسبياً كما تفصح احصائية تمّ تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي للربع الأول من عام 2019. بلغ عدد المنتحرات في كربلاء 19 مقابل ذكر واحد، وفي ميسان انتحرت ثماني إناث مقابل ستة من الذكور، وفي واسط بلغ عدد المنتحرات ثلاثة مقابل إثنين من الذكور. تبعث هذه الإحصائيات على الحزن والقلق ولكنّها أيضاً لا تقول كل الحقيقة من حيث أنّ بعضاً من الحالات التي أحيلت إلى الإنتحار كانت بالحقيقة جرائم قتل تمّ تنفيذها من قبل أحد أفراد العائلة مع سبق الإصرار للأسباب الأخلاقية التي يساء التعامل معها أو يحصل التورط بها وبخاصة من قبل الشباب. يتفاوت الذكور والإناث من حيث فرص التعليم والعمل والحرية النسبية على صعيد الحياة الاجتماعية الواقعية اليومية ولكنّهم يتساوون على مذبح الموت بالنتيجة النهائية عندما يضعون حداً لحياتهم وبأياديهم. تذهب حينها معهم جهود إنسانية كبيرة ومضنية إبتداءاً من الأشهر التسعة للحمل ومروراً بالرعاية والإهتمام حتى يكبروا ويزهروا وأخيرا ليذووا وينعدموا وهم بعد في ريعان الصبا والشباب، أو في الأقل لم يأخذوا فرصتهم من الحياة، بعد. مما لا شك فيه فإنّ جرائم من هذا النوع تعتبر امتداداً لمواقف اجتماعية لا تقيم وزناً للمرأة ولا تهتم بها فضلاً عن أنّها تقع في صميم الإنتهاك لحق الإنسان في الحياة مما لا ترضى به السماء قبل الأرض. يردد الناس مقولة "لله ما أعطى ولله ما أخذ"، أو "أخذ الله أمانته"، في حالات المواساة عند الموت تعبيراً عن الإقرار بأنْ لا أحد يملك حق مصادرة حق أحد بالحياة سوى الخالق الذي خلقه ابتداءاً. مفهومات دينية متداولة شعبياً يتم تجاهلها استجابة لعواطف من نوع ما بداعي العصبية أو الغيرة والسمعة العائلية والاجتماعية. يحيط المشتغلون في مجال القانون بالإشكالات القانونية ويعرفون النصوص التي تعنى بهذه الجوانب ولكن العمل لتعديلها بإتجاه توفير شروط الحياة التي تحمي الإنسان وتحافظ عليه بإعتباره قيمة عليا لا تزال تتحرك ببطئ وأحياناً تراوح في مكانها. يحكم بالسجن مثلاً فترة لا تقل عن خمسة عشر عاماً على الشخص الذي يمارس اعتداءاً يفضي إلى الموت بحسب المادة 410 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969. ولكن القانون نفسه يوقع حكماً مخففاً لا يزيد على ثلاث سنوات على من يقتل بداعي "غسل العار"، كما جاء في المادة 409. وهناك المادة 128 التي توقع عقوبة مخففة أو معفياً منها بحسب مفهوم "الباعث الشريف"، كما ورد بالقانون إذا ما أرتكبت الجريمة بسبب "إستفزاز خطير"، من قبل المجني عليه أو عليها بـ "غير حق". يعطي هذا المفهوم المبرر القانوني لإرتكاب مختلف الجرائم والإعتداءات التي يمكن أنْ توضع ضمن خانة الدفاع عن شرف العائلة أو سمعتها أو مكانتها وما إلى ذلك. هذا في الوقت الذي يفترض أنْ يشدد فيه على أهمية الضوابط القانونية المصممة للدفاع عن الضحايا المحتملين وفي مقدمتهم النساء والبنات والأولاد الصغار والشباب من خلال إستغلال أي شرخ وإنْ بدا معقولاً وغير مؤثر.ويظهر أداء مجلس النواب العراقي وئيداً متباطئاً على هذا الصعيد حيث يصر على تأجيل تقديم مشروع قانون مناهضة العنف الأسري مرة بعد مرة فيما تغرق لجنة المرأة النيابية في لجة الاجتماعات الطويلة والإيفادات الخارجية دون أنْ تساءل نفسها ما الذي حققته للنساء وما هي استجابتها للتزايد المروع بحالات القضاء على النساء بتهم متنوعة تطالهن بلا رحمة. قد يكون مطلوباً والحالة هذه تطوير مشروع قانون يصمم للحد من جرائم الكراهية على أي أساس سواء كان الديني أو الطائفي أو الجندري والعرقي. وهذه واحدة من المسؤوليات التي يفترض أنْ تضطلع بها الهيئة الوطنية العليا في مجال حقوق الإنسان التي لا يكاد يسمع لها صوت في ظروف من هذا النوع عكس ما تفعل عند الشروع بتشكيلها وتعيين المشتغلين بها. يسمع المواطن كثيراً عن النشاطات الإعلامية لمثل هذه الهيئات المكلفة لميزانية الدولة مثل المؤتمرات والندوات وورش العمل فيما لا يجد لها حضوراً في قضايا تهز الضمير الاجتماعي لتظهر عجزها عن القيام بما يبعث على الطمأنينة والأمان لدى المواطنين. ولعل هذا ما يفسر حالة الإحباط التي تمنى بها الجماعة تجاه مثل هذه الهيئات شبه العاطلة عن العمل.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على