مروان قصاب حين تحلق روحه في دارة الفنون

almost 9 years in الدستور

محمد العامري
هناك التقيته في منتصف التسعينيات من القرن الفائت، في الساحة الحجرية حيث الكهف يفتح فمه الغامق ليشرب تلك الاحاديث الرائقة عن الجمال، التقيته وكانت بجواره الفنانة سهى شومان تلك الفنانة التي نذرت نفسها بكل ما تملك لخدمة الفن العربي والعالمي والأردني، عبر دارة احترفت طرائق تقديم الفنانين وصولا الى التوثيق المحايد المحكوم بالعلمية بعيدا عن الشخصنة.
كان حواري معه حول ضرورات اتقان الفنان لأدوات الفن الأولى، وقال لي الحرية هي الفن وعلى الفنان ان ينتصر لحواسه الصادقة ليعبر عنها بحرية، كان كلاما دقيقا من فنان اختبر اللون والشكل والحمض بتعقيداته في الغرافيك .
كانت الأكاديمية التي اطلقتها دارة الفنون من خلال هذا الفنان الشغوف بالجمال هي محور تحول في حياة الدارة، فقد صنعت مجموعة من الفنانين اصبحوا الان من الفنانين المعروفين، بل شكلوا اضافة جديدة للفن العربي ليواصلوا طريقهم في هذا المجال وكانت دارة الفنون أحد الأسباب الرئيسة في الكشف عن تلك المواهب.
زرت الدارة وشاهدت حجم احترام تجربة قصاب باشي بدءا من التوثيق الى طرائق العرض هو وتلامذته، لقد اعادني فيلم الفيديو الذي يعرض الى مناخات الحوار آنذاك، الحوار المفتوح وطرح التساؤلات حول الفن والفنانين، كنا لمّا نزل منشغلين بالدهشة التي فقدناها الآن كوننا نعيش تمترسات ثقافية ليس لها علاقة بالثقافة اصلا، بل تمترسات مبنية على الشخصنة والاقصاء، لكن دارة الفنون لم تزل تبث خطابها الجمالي والتثقيفي للناس كافة، لم تزل تلك المؤسسة ثابتة باهدافها رغم تغيرات الظروف، هذا الامر يشير الى حقيقة المؤسسة الاحترافية في كل ما تفعل .
لقد كان قصاب باشي احد الفنانين الذين بثوا حياة مختلفة في الدارة وأعطى من خبرته الطويلة لكل طالب أراد التعلم والمعرفة.
الوجوه الممسوحة بالماء الشفاف:
حين ننظر الى تلك الوجوه الضخمة التي رسمها قصاب باشي ندرك مباشرة حجم اختباراته القاسية للمادة حيث اخرج منها طاقة تعبيرية عالية في طبيعة الخط والتلوين فكثير من الفنانين الذين رسموا الوجوه لكن وجوه قصاب باشي تمتلك خاصية الجمال والحزن والغياب، حضورها اشبه بوجوه الرهبان حيث تلمح تلك الاحزان في طبيعة العيون الساهية، الى جانب طبيعة التلوين الأشد قربا الى طبيعة تشكلات الصخور التي مسحتها المياه لفترة طويلة، إذ يقول عنه يورن ميركرت:»من سبق له وان سلّم بمجامع نفسه لرسوم مروان يتركها تتسرب الى أعماقه، يعرف مدى تأثيرها على مشاعرنا وقدرتها على مس أوتار خفية داخلنا، فلمس في الرسم حياتنا : التوتر الشامل بين الفرحة والألم، بين الحزن والسعادة، الشوق واليأس،وبين الحب والموت «
نعم، هي كذلك صورة خفية عن طبيعة مروان قصاب الذي ترك بلاده بحثا عن الحرية، ترك كل شيء لينتصر لوجوده كإنسان يريد أن يقدم للعالم رسالة جمالية وإنسانية مليئة بالألم والسعادة، وكذلك نرى إلى غرافيكياته التي أجابت عن تفتتات الوجوه كما لو أنها وجوه تتراءى في مياه رجراجة، تظهر عبر مجموعة من الخطوط الملتقطة والجمل اللونية السوداء التي تفصح عن ملامحها ولا تصرح بها، فهي مساحة مهمة للتأويل والبحث عن وجوهنا داخل تلك الوجوه.
المشاهِد لما قدمته دارة الفنون من وثائق وذكريات عن هذا الفنان يستطيع أن يدرك طبيعة تلك المؤسسة في بث روح جديدة حتى للراحلين، ووجدت أيضا في حوار له مع التلفزيون الأردني مساحة للكشف عن طبيعة تفكير قصاب باشي في الوجود والحياة، ان تلك الوثائق هي دعوة للتعرف إلى طبيعة الراحل قصاب باشي ورسالة أخرى إلى طبيعة وحرفية التوثيق ايضا، من هنا أدعو الفنان الى الاشتباك مع تلك الوثائق التي تثير فينا الذكريات بل نتعلم منها كيف نتعامل مع تجاربنا وكيف نقدمها كفانين إلى العالم.

Mentioned in this news
Share it on