مظفّر النّواب تأملات وذكريات ١٥

حوالي ٥ سنوات فى المدى

مناضل يساري أممي
د. حسين الهنداوي
هناك الآن العديد من الأطروحات الجامعية بمختلف اللغات عن ظاهرة مظفر النواب وعشرات الدراسات المفصلة المنشورة وغير المنشورة عن شعره الفصيح بينها مؤلفات معروفة لكتاب عراقيين وعرب منها على سبيل المثال كتاب "مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية" للناقدين السوريين عبد القادر الحصني وهاني الخير (دمشق 1996)، وقبله كتاب باقر ياسين "مظفر النواب حياته وشعره" (دمشق 1988)، وبعدهما كتاب "الثورة النوابية" لحسين سرمك حسن الصادر في 2010. كما هناك عشرات الدراسات المتباينة في العراق وخارجه عن شعره باللغة العامية تؤكد كلها القضية الجوهرية بلا شك والمعروفة جداً، والتي تميزه قطعاً وتعطيه مكانة لامعة في شعرنا الشعبي العراقي المعاصر، وهي إن التجديد الجمالي الرفيع والخصب الذي حققته القصيدة النوابية في هذا المجال يمثل عالماً فنياً وجمالياً قائما بذاته فيما تمتلك أهمية خاصة محاولته، في شعره باللغة الفصحى هذه المرة، أن يسحب على فن الشعر مفاهيم تخص فن الموسيقا والحركات السمفونية تحديداً وهو ما عبر عنه بنفسه في مقدمته لديوانه الأول باللغة الفصحى "وتريات ليلية" الذي ضم أيضاً مجمل الهموم الفكرية لمظفر النواب وليس الفنية أو الشعرية وحدها، فمن خلال نظرة متمعّنة لهذا الديوان نجد، في موقع أو آخر، ثمة مناخ يعبر ضمنا بل صراحة عن هواجس صوفية وأخرى تتعلق بموضوع فهم الموت والزمن والذات والمطلق خاصة. ولعل من الممكن القول إن ما كتب عن المنجز الشعري لمظفر النواب يفوق ما كتب عن منجز أي شاعر عربي معاصر آخر باستثناء الجواهري والسياب ربما.ومع ذلك، تعرض شعر مظفر الى حصار قاسِ ومتواصل من قبل مؤرخي الشعر "الرسميين" في العراق والعالم العربي. فبرغم انحيازه العميق والجريء الى جانب الثورة الفلسطينية والثورات العربية إجمالاً وشعبيته الهائلة، تجنب معظم نقاد الشعر العربي المعروفين دراسة شعره بشكل مناسب او حتى التطرق اليه ، إما خشية اغضاب نظام البعث العراقي المتحالفين معه أحياناً أو لأسباب ونزوات ذاتية أو أخرى. وهكذا كان حال اولئك الذين هاجموا شعره بالفصحى على اساس قوة نزعة المباشرة فيه وبعض الشتائم، أو اولئك الذين اعتبروا، كوجهة نظر نقدية، إن المجد الحقيقي لشاعرية مظفر النواب يكمن في "أرض أخرى: القصيدة العامية" إي في مرحلة تسبق وصول البعث الى السلطة في العراق.والحال، كل تلك المبررات كانت واهية بشكل فاضح. وإذا استثنينا شعر الشعراء المتصوفين والباطنيين المسلمين وغيرهم، تبدو المباشرة سمة أساسية في كل الشعر العربي لفترات ما قبل ظهور حركة الشعر الحديث، مع السياب والبياتي ونازك الملائكة وبلند الحيدري ومحمود البريكان، المتأثرة بالشعر الاوربي الحديث لاسيما تياراته الرمزية والسوريالية والفلسفية الجديدة. ودون التوقف أمام استنتاجات وتقييمات اولئك أو هؤلاء المؤسسة في العموم على أسباب سياسية أو اقليمية أو مذهبية حيال شاعر لم يكن إقليميا أو مذهبياً قط، والمهزوزة الارضية المعرفية او المنهجية الادبية بشكل صارخ أحياناً، ثمة قصائد ومقاطع من شعر مظفر النواب كانت تواصل شق طريقها أكثر فأكثر الى أوسع جمهور من المحيط الى الخليج ناله شاعر حي من قبل. لكنها مقاطع وقصائد تقلق أولي الأمر بدعوتها العلنية الى الثورة:أنبيك عليّاًمازلنا نتوضأ بالذلونمسح بالخرقة حد السيفما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيفما زالت عورة عمرو العاص معاصرةًوتقبح وجه التاريخما زال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربيةما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء ،يؤلب باسم اللاتالعصبيات القبليةما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتهالو جئت اليوم،لحاربك الداعون إليك..هذا الروح المتسلل الى معظم شعر مجموعته الاولى بالفصحى "وتريات ليلية" يتراجع في مجموعته التالية، "المساورة أمام الباب الثاني"، لائذاً بصوفية مستلهمة أولاً بأول من شعر المتصوفة المسلمين دون غيرهم، ومن هنا مسحتها الفردانية الحميمة الحزينة المقترنة بموسيقى داخلية كان مظفر النواب يحب الكشف عنها تاركاً لها الفضاء لتسرح كلما جمعتنا أمسية أو مقام:لا تسل عني لماذا جنتي في النارجنتي في النارفالهوى أسراروالذي يغضي على جمر الغضا أسراريا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّهكيف النار تطفي النار؟يا غريب الدارإنها أقداركل ما في الكون مقدار وأيام لهإلا الهوىما يومه يوم...ولا مقداره مقدارلكن العشق بمعناه الصوفي هو القضية الجوهرية التي تحرك حياة مظفر النواب كلها ويعتبرها مفتاح العالم كما قال لي مرة في برلين قبل نحو عقدين من الزمان، حيث امضينا عدة أيام معاً، خلال حوار طويل لم ير النور من قبل: "العاشق لا ينبغي أن يُلام إنما أن ينصت له وأن تكتشف مع الجمال والغبطة والألم وغيرها من العوالم الداخلية التي تواجهه.. تجربتي الحياتية والشعرية والسياسية هي التي أوصلتني الى اللحظة الحالية من هذا الفهم، وهي أيضا التي دلتني على نصوص المتصوفة فيما بعد وليس العكس. ربما كان لدي استعداد او ميل خفي ومبكر لم اكن اعرف به، فهذا ما اعتقده الان. اذ لاحظت قبل سنوات ان هناك مفردات صوفية تسربت الي لغتي وكياني في حين لم اكن قد اطلعت بعد على مؤلفات المتصوفة، لان تلك المؤلفات لم تكن واسعة الحضور او التداول في الوسط الثقافي الذي ترعرعت فيه. لقد كانت تتوفر بالطبع بعض كتب المستشرقين التي تتحدث عنهم مثل كتابات ماسنيون وغيرها، الا انها لم تكن تستهويني بشكل متميز، وذلك ربما لأنني كنت احس بنوع من النفور من قراءة النصوص التي أحبها بلغة أخرى غير اللغة العربية لاسيما النصوص الروحية والجمالية، وحتى الآن أحب أن اقرأ باللغة العربية وليس في ذلك ادنى افتعال او تصنع بسبب موقف سياسي أو ايديولوجي انما لأنني اشعر شعورا وجدانياً بعلاقة خاصة الحميمية مع هذه اللغة التي انفقت سنين طوال في دراستها. اللغة معشوق أيضاً، واذا لا تتصرف حيال المعشوق بعلاقة العشق المتواصل لا يلبث ان يهجرك، وهناك بالفعل شعراء بدأوا بعلاقة العشق مع لغتهم ثم تخلوا عنها فوجدوا إنها هجرتهم هي الأخرى وهجرتهم نهائياً، والعشق نوع من الانتباه الدائم لكن بعيون حالمة، وهذا ما ينبغي أن يستمر مع اللغة دائماً وحقيقياً".

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على