بطرس البستاني المتدين المنادي بفصل الدين عن الدولة وإنشاء الدولة المدنية (حبيب البستاني)

حوالي ٥ سنوات فى تيار

لقد تحدثَ الكثيرون عن عطاءات المعلم وكتب الكثير عن إنجازاته اللغوية والأدبية، ولكنني سأُشير إلى عدد من النقاط التي أثارت جدلاً كبيراً في حينه ولما تزل.
أولاً لقد كان المعلم من الأوائل لا بل الوحيد الذي تحدث عن الوطن فقبل بطرس البستاني لم يكن مفهوم الوطنِ موجوداً في كل لغة الضاد وفي كل رحاب المشرق العربي، فكانوا يتحدثون عن الدولة الأُموية والدولة العباسية والفاطمية وعن الإمبراطورية العثمانية وإذا ذهبوا بعيداً فإنهم كانوا يتحدثون عن الأمة والأمة هنا بمعناها الديني الحصري. أما المعلم بطرس البستاني فتحدث عن الوطن ووضع شعاراً على صدر مجلة الجنان هو " حب الوطن من الإيمان ". وهذا يعني الكثير الكثير أن يضع بطرس البستاني المؤمن المتدين حب الوطن على نفس مرتبة الدين. وهنا ننطلق إلى فلسفة المعلم في نظرته إلى الوطن والجدلية القائمة بين الإنتماء الديني والإنتماء الوطني وأيهما أولى؟ لقد استنبط المعلم علاقة عامودية بين الإنسان والخالق، وعلاقة أفقية بين الإنسان وأخيه الإنسان لا بل بين المواطن وأخيه المواطن. فأياً يكن انتماء المواطن الديني، فإن انتمائه الوطني يعادل هذا الانتماء، وأَنه ما من تعارض بين العلا قتين بل التقاء على حب الوطن.
 
ثانياً كان المعلم أول من نادى بالدولة المدنية، هذه الدولة التي تقف في نقطة الوسط بين الإلحاد والإيمان، فهوَ تجاوز الإلحاد وهو المؤمن، ولم يلتصق بالدين وهو الطامح إلى العلمنة، ففصل بين الدين والدولة، ولتطبيق ذلك أسس المدرسة الوطنية التي من أولى مهامها تدريس الانتماء الوطني وتهيئة الأجيال الصاعدة لذلك، ففي الوقت الذي كانت فيه الإرساليات والمدارس الدينية منتشرة في طول البلاد وعرضها، تجرأ البستاني على تأسيس المدرسة الوطنية في مدينة بيروت التي أحبها، وذلك كي تتولى صقل الطلاب في بوطقة وطنية واحدة بغض النظرِ عن انتماءاتهم الطائفية والمذهبية. وقد جاءت فكرة تأسيس المدرسة الوطنية مباشرة بعد أحداث الجبل الدامية في العام ١٨٦٠ والتي نتج عنها آلاف الضحايا من المدنيين، وبغض النظر عن التدخل الخارجي الذي أذكى نار الفتنة آنذاك إلا أن هذه الأحداث بينت عمق الخلافات بين أبناء الوطن الواحد وبينت هشاشة ما يسمى العيش المشترك. وقد هب في حينه المعلم وأطلق مجلته الشهيرة " نفير سوريا " وقد صدر منها ثلاث عشر عدداً تضمنت ثلاث عشر نفيراً، وهي خطابات البستاني التي دعا فيها أبناء وطنه  إلى الوحدة ونبذ العنف والإيمان بالعيش المشترك كناموساً ونبراساً لبناء الوطن، وتطبيق مبدأه القائل " الدين لله والوطن للجميع ". 
 
وفي العام ١٨٦٣ فتحت المدرسة الوطنية أبوابها وكان المعلم بطرس البستاني أحد أهم أساتذتها، فهو التزم شخصياً رسالة التعليم فآمن به الكثيرون والتحق بالمدرسة الوطنية طلاب من كل الطوائف والأديان.  
 
ثالثاً لقد كان المعلم بطرس البستاني سابقاً لعصره فهو لم يضع فقط دائرة المعارف، إنما هو من ابدعَ هذا الإسم فقَبله لم يكن هذا الإسم موجوداً وهو ترجمه عن الأجنبية Encyclopedia، وفهم المعلم البستاني من حينه أن هنالك علاقة جدلية بين علم الأنسيكلوبيديا والتغيير في المجتمعات لا سيما قَبل المفاهيم الجديدة، وكان يؤمن أن وجود هذه الموسوعة في فرنسا مثلاً قد أحدث نوعاً من الوعي والإدراك والحس الشعبي عند طبقات المجتمع المثقفة التي بدونه لم يكن من الممكن نجاح الثورة الفرنسية، فالثقافة هي إحدى الأهداف الرئيسة التي عمل عليها، وما خطبة النساء إلا لتوعيتهن على ضرورة الثافة والتي بدونها لا يمكن للمرأ أن تتساوى مع الرجل في البذل والعطاء، وهو القائل " والذين يصرون على إبقاء المرأة في حالة الجهل والعبودية إنما ينزلون المرأة دون منزلتها المعينة من باري الكون ويختلسون منها تلك الحقوق التي أقامها الله عز وجل...فالمرأة لم تخلق لكي تكون في العالم بمنزلة الصنم أداة زينة تحفظ في البيت، إنما يجب أن تكون عضواً يليق بجماعة متمدنة ". من هنا كانت مناداته بمساواة المرأة والرجل.
 
وفي سبيل إعطاء المعلم بطرس البستاني حَقه، وبمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاده في العام ١٨١٩، قامت جمعية المعلم بطرس البستاني التي ستعنى بالحفاظ على إرث المعلم الثَقافي واللغوي وإبقاء أفكاره حية في قلوب أجيالنا الصاعدة بالتقدم  من منظمة الأونيسكو وإعلان الثاني من أيار، يوماً عالمياً للغة العربية.  
 
وفي النهاية لقد كان للمعلم بطرس البستاني الأفضال الكثيرة على لغة الضاد والناطين بها، ومن الطبيعي أن يصار إلى تكريمه في العاصمة التي أحب ومِن كل أركان الدولة اللبنانية بالإضافة إلى شخصيات أدبية وفكرية وأكاديمية من لبنان والعالم العربي ودنيا الانتشار.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على