مقالات عاطف عبد الفتاح يكتب ثقافة الفيس تنضح علينا لأننا نقضي أعمارًا على الفيس؛ لا تستغرب عندما تنضح ثقافة ذلك العالم الافتراضي علينا، فتصهرنا، وتتحكم فيما تبقَّى من شذرات الوقت التي نقضيها خارجه. الفيس يبدأ بطلب إضافة، يليه هيستريا إعجاب، حتى على البوستات المفجعة، ثم تعليقات الإطراء والانبهار بأي صورة لفتاة مأخوذة ومحفوظة ومكررة بشكل ممل من النت، حتى أصبحت نمطية من كثرة نسخها وطبعها في البوستات، كما تشهد البوستات تأثرات بـ “هذه” التي انفطر قلبها من “هذا” الذي أخلصت له، وتفانت من أجله؛ ليكون المقابل هو رميها في طرقات الفيس “تولول”، وهنا يكون المدخل إلى سرداب العالم المغلق، حيث الرسائل المتوهجة، والتي تشهد آلاف الأيمان بأن “هذا” لأول مرة يحب، يقابلها أن “هذه” لم تكن تتخيل أنها يمكن في يوم ما أن يتحرك قلبها مرة أخرى، خاصة أنها صدمت صدمة عنيفة، تعافت منها بأعجوبة، لتتوالى جمل تلغرافية من عينة أنت كنت فين من زمان؟! وووو…. وينامان ويصحوان على طنينهما وأنينهما وأزيزهما الذي لا يسأمانه. ولكن بعد فترة نادرًا ما تطول، تصل علاقتهما لمثواها الحتمي في التآكل والتحلل، يبدأ ببصيص عتاب، يقدح ردها شرارة، تشعل قبس شك، يتوقد لشجار، ربما من الملل.. ربما من التخوين.. ربما وربما، ومهما تعددت “ربما”، فإنها دائمًا ما تنتهي إلى طريق واحد مسدود “بلوك”. أما ميتافيزيقا اللايكات فوصلت لأكثر من ١٥٠ إعجابًا في خمس دقائق على منشور لفتاة عن حادث مفجع توفي فيه والدها، وتفحمت جثته داخل السيارة!! بل إعجابات لتعليقات أخرى بها شتائم، إعجابات من الفتى أو الفتاة المشتومة!! هذا الذي يحدث يمكن أن يكون منطقيًّا في أكبر مصحة نفسية أسسها مسيو “مارك”، لكن الغريب أن يتسلل منها إلى عالمنا الواقعي، حتى يصبح واقعنا افتراضيًّا، والفيس هو الحقيقي؛ لأنه أصبح واقعنا، فتجد العلاقات في دنيا البشر ما هي إلا صفحات فيسبوكية، تقع فيها الصدمات والصدامات، وتتعالى الولولات والآهات، وينقلب الصديق الحميم والحبيب المتيم إلى عدو لدود. لا تتعجب.. فعالمنا أكثر جنونًا من الفيسبوك ومشتقاته.. فلم يصبح الفيس هكذا إلا بنا ومنا نحن.. عالم البشر الأدهى والأنكى من العالم الافتراضي. فكما أن الفيس جرأ بعض الدهماء على الصفوة لمجرد أنهم يمارسون “عادة التعليق”، يحدث الأسوأ في عالمنا الذي لم يعد يفرق بين عظيم ووضيع وبين كبير وصغير وبين عالم وجاهل، بل إن عالمنا يرفع من الوضعاء، ويحط من العظماء، ويُمكِّن للرُّوَيْبِضة، حتى أصبح دستوره أن “يوسد الأمر إلى غير أهله”. وكما أن الفيس يلبس على الناس أمور دماغهم، حتى إن كل قضية تثار، لا تدري أين الحق من الباطل، يشهد عالمنا بين حين وآخر مخمطة توَّهت خبراء القانون والدستور، يكون بطلها غالبًا البرلمان، كمثال بسيط اتفاقية تيران وصنافير، ودوامة صدور حكم قاطع ومدى أحقية البرلمان في مناقشتها، والموقف بعد إقرار البرلمان لها. وأجمل ما في سحر الفيس أنه يُجهِّل العالم، ويُعلِّم الجاهل، فيحق الباطل، ويبطل الحق. وكما أن الفوتوشوب أيضًا بطل لكثير من المعارك الفيسبوكية، فهو يلعب دورًا عظيمًا في وشوه وخِلَق ونفسيات كثير من المخلوقات في عالمنا، مع فارق أن فوتوشوب عالمنا الواقعي يكاد يستحيل كشفه، فتكون صدمته مزلزلة، لذا لا نغضب عندما نرى الفتاة لا تطرب لكلام الغزل، لأنها تعلم أنه High copy ومعمول منه ألف نسخة. نحن من أوصلنا أنفسنا لهذا الحضيض.. عندما أرخصنا المعاني والرموز والعلاقات.. ومارك لم يفعل سوى أن هيأ لنا البيئة التي طِحْنا فيها؛ لنخرج الدرر من مكامنها ومكامرها، ونفرق بين المرء وزوجه، والبنت وأهلها، والشعوب وحكامها، والأجيال وتاريخها.. وحتى قبل الفيس كانت هناك برامج الدردشة الخاصة، والمنتديات، وغرف الشات الجماعي، ومعظمنا لم يهتم بمعرفة طريقة الاستخدام، وانكببنا عليها نفرِّج عن مكبوتاتنا، ولكن فرجنا عنها في أنفسنا ومصائر دولنا.. دائمًا ما أنصح النَّدْرة من البشر الذين لم يلوثهم إشعاع الفيس أن يكونوا ديكارتيين، فينتهجوا “الشك حتى يثبت اليقين”، ولكن حتى مع هذا المنهج لم يسلم بعضهم. والآن كيف السبيل لمواجهة هذا المختل والمحتل لنفسية وعقول العالم؟ سؤال أعجز جهابذة العالم، فهل يمكن أن أجيبه في مقالة؟!! هناك دول لجأت لحجب الفيس، مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وبنجلاديش وأفغانستان، وليبيا، وباكستان، وتايلاند، وكوريا الجنوبية، وسوريا، وإريتريا، وتركيا، ولكن هل الحل في الحجب؟ سؤال أيضًا أعجز عياقرة العالم. ورغم أن كائنات الفيس متكيفون تمامًا، ومطبعون بينه وبين حياتهم المعيشية، ومطبقون العالمين، إلا أنه بين فترة وأخرى تأتي عرضًا حالات من التناقض بينه وبين واقعنا، وهنا تكون الإشكالية، صلاح صديقي العزيز (رغم أنه زملكاوي) سألني كيف سأذهب لعزومة أحد أقاربي وأنا عامل له بلوك على الفيس؟! قلت له تلك أزمة لا تقل عن أزمة الزوج الذي يشكو من أن زوجته رافضة إضافته كصديق، وقالت له أنت زوجي في البيت لا الفيس. وهي أزمات نتيجة عدم الدمج التام بين العالمين.. المختصر المفيد أن ما يربط العالم ببعضه، كما يربط كائنات الفيس، هو العلاقات «السائلة» التي تحدَّثَ عنها المفكر الراحل زيجمونت باومان، وهي روابط اللاروابط وعلاقات اللاعلاقات، أو العلاقات اللزجة في مجتمع لزج. وحتى هذه العلاقة نجدها بين الإنسان ونفسه، فما زال هناك بقايا كائنات تكون لها تركيبة ذهنية ونفسية فيسبوكية غير تركيبتها الواقعية، لكن هذه الكائنات في سبيلها للتأقلم والذوبان التام، أو الانقراض. ما يقرب من ٧ سنوات فى البديل