رسالة مفتوحة لأجيال ٢٥ يناير لا تعيدوا الأصنام لكعبتنا هشام جعفر ٢١ أكتوبر ٢٠١٧ في مثل هذا اليوم تحديدًا، في ٢١ أكتوبر، يمر على اعتقالي عامان، وهي مناسبة لتقديم كشف حساب لأجيال ثورة ٢٥ يناير، وقد يتساءل البعض عن دافعنا، نحن الأجيال المرتحلة (أبلغ من العمر ثلاثة وخمسين عامًا) لتقديم كشف حساب لأجيال ثورة الخامس والعشرين. هناك أسباب متعددة لذلك، أولها أن ثورة ٢٥ يناير بالنسبة لي هي تعبير عن نموذج معرفي جديد، هو نموذج «الميديا الجديدة»، الذي يقوم على انعدام المطلق البشري والسياسي والفكري واختفاء المرجعية في هذه المجالات جميعًا، وهو يعتمد على النفعية والعملية والممارسة أكثر من اعتماده على التنظير (انظر مقالي في الشروق «الثورة المصرية والإعلام الجديد.. قراءة في النماذج المعرفية») وتنطلق منه التعددية. تمثّل ثورة ٢٥ يناير تدشينًا لما يمكننا أن نطلق عليه «الجمهورية الجديدة» أو «مصر الجديدة»، وأنا أدرك أن ٢٥ يناير وأجيالها في أزمة كبيرة الآن، ولكنها أزمة مؤقتة، فما أحدثته هذه الثورة من تداعيات أعمق مما يتخيل من يريدون إعادة مصر لقديمها. ألم تكن الحملة الفرنسية على مصر عام ١٧٩٨ إعلانًا عن انتهاء النموذج المملوكي في المعرفة والحكم؟ ألم تبت مصر، بل والمنطقة، بعدها غير ما كانته قبلها؟ انتهت المطلقات التي سيطرت على العقول، وبالأخص الدولة الوطنية، الجيش الوطني، المؤسسة الدينية، التنظيمات الدينية والسياسية، النخبة السياسية، الأفكار السائدة، القضاء الشامخ، وتكسرت أصنام السياسة والفكر والتدين الشكلي، وغيرها في المجتمع يوم الفتح. أدرك أن هذه الأصنام تحاول إعادة القداسة لنفسها مرة أخرى، ولكن متى شهدنا صنمًا متكسرًا يعود مرة أخرى، إلا بالقمع والإكراه والقبضة الأمنية؟ قل جاء الحق وزهق الباطل المعرفي والسياسي والفكري والذي قامت عليه حياتنا. أما ثاني الأسباب وراء تقديم كشف حساب لأجيال ٢٥ يناير، فهو أن الإيمان باستمرار هذه الثورة، وبقدرة أجيالها على تغيير وجه مصر، هو ما خفف عليّ آلام التعذيب وسياسات العزل والحبس الانفرادي التي تعرضت لها في سجن العقرب. فأنا في حبس انفرادي وممنوع تمامًا من التريّض لمدد طويلة أو حتى لمدة ساعة واحدة فقط، وتُمنع عني الزيارة لمدة تصل لأربعة أشهر، ويجري التلاعب بالعلاج حتى يكاد يكف بصري (لا أرى بإحدى عينيّ، والأخرى لا تعمل إلا بكفاءة ١٠% فقط)، يُنتهك الجسد وأُهدّد الضرب أنا وكل من حولي، إلخ (انظر مقالي «بين فقه الاستحلال وممارسات الاستباحة»). قد يصفني البعض بـ«الحالم»، فالثورة انتهت وعادت مصر إلى أسوأ مما كانت عليه، ولكني أقول إنه رغم مرور هذه السنوات إلا أن الثورة بادية في حالة الاحتجاج والرفض لما يجري، ومراجعة ما كان والتفوق والتطلع للجديد. هي حالة نفسية وشعورية وفكرية ومعرفية تنتظر اللحظة المناسبة لتعبر عن نفسها وشعلتها مدوية مصر القديمة يجب أن ترحل! أما ثالث الأسباب فهو شخصي صرف، فأولادي الثلاثة هم من أجيال هذه الثورة، المعبرين عن تطلعاتها وآمالها ونموذجها المعرفي، أتعلم منهم حين أحاورهم، وأرجو أن أكون في مثل جرأتهم الفكرية والسلوكية، وقدرتهم على النقد والمراجعة. وعندما أشير إلى أجيال ٢٥ يناير بالجمع، لا بالمفرد، فأنا أعني أجيالًا قد سبقت بالجهاد والنضال، وأجيالًا ستأتي بعدهم لتستكمل مسيرتهم. الديمقراطية الاجتماعية أولى اللبنات في أواخر ٢٠١٠ وأوائل ٢٠١١، أصدرت مع مجموعة من الأصدقاء، وعبر ورش حوار ممتدة، وثيقة تمكين الأسرة المصرية، وهي وثيقة تستند في جوهرها لمفهوم الديمقراطية الاجتماعية الذي يعي ضرورة إشاعة ونشر قيم الديمقراطية الأساسية في المجتمع ومؤسساته المختلفة، خاصة مؤسسات التنشئة من أسرة ومدرسة ومسجد وكنيسة، فتكون هذه القيم الديمقراطية ثقافة عامة لأفراد المجتمع داخل مؤسساته، ويجب أن تكون هذه الديمقراطية الاجتماعية بمتانة جذور الديمقراطية السياسية، فتكتسب قوتها وصلابتها. وهنا، وأنا أقدم لكم رسالتي هذه، تحين الإشارة لعدد من الملاحظات الملاحظة الأولى هي أن جوهر الثورة يلخص شعاراتها؛ عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية. لذا يجب أن تسترد الثورة هذا الجوهر الذي جرى الانحراف به وعنه، منذ الاستفتاء على التعديلات الدستورية في مارس ٢٠١١، بما أدى للانقسام المبكر بين قوى الثورة، وبما دفع بعض هذه القوى بدوره لرفع شعارات الهوية، ودفع البعض الآخر لرفض بناء المؤسسات السياسية بالانتخاب. الملاحظة الثانية هي وجوب الوعي بأن المؤسسات التي تفتقد العقيدة الديمقراطية داخلها لا يمكنها إنتاج الديمقراطية، حتى وإن تزينت ببعض الإجراءات الديمقراطية، مثل الانتخابات، وحتى إن أعلنت بياناتها ووثائقها مساندتها للديمقراطية، ففاقد الثقافة الديمقراطية لن يعطيها. الملاحظة الثالثة هي أنه من حسن الطالع أن مؤسسات التنشئة الاجتماعية في مصر تآكل دورها، ولم يعد لها الدور الاكبر في إرساء قيم المصريين وثقافتهم، فهي في جوهرها تقوم على الاستبداد والسلطة الأبوية، ولا تُشيع غيرهما في المجتمع، وربما كانت أحد حسنات أزمتها أن أجيال ثورة ٢٥ يناير قد تحررت منها واعتمدت على مصادر ومنابع أخرى للتنشئة. التوافق مفتاح التحول الديمقراطي في الفترات الانتقالية في أواخر ٢٠١١، بدأت جهودي في محاولات بناء التوافق بين القوى السياسية، بإجراء حوار حول حوكمة المؤسسات السياسية في الفترات الانتقالية، بهدف بناء قواعد تحكم إدارتها وكيفية تولي المناصب الأساسية فيها، مرورًا بالحوار بين بعض الأطراف في جبهة الإنقاذ وجماعة الإخوان قبل الثلاثين من يونيو، وانتهاء بوثيقة تقوية المسار الديمقراطي بين القوى السياسية المصرية قبل انتخابات مجلس النواب لعام ٢٠١٥، بالإضافة لمحاولة إجراء عملية النقد الذاتي بين قوى وأفراد التغيير، بغرض استخلاص الدروس لدعم التحول الديمقراطي في الفترات الانتقالية التي تطورت بناء على رغبة هذه القوى في تصميم عملية حوار بينها بهدف استعادة المسار الديمقراطي. تعلمت من عمليات الحوار عددًا من الدروس الهامة، كان منها ١ إن التوافق حول حد أدنى من القواعد التي تحكم العملية الأساسية هو الضمان لاستمرار التحول الديمقراطي في الفترات الانتقالية. ٢ إن الاستقطاب بين قوى التغيير هو المدخل الأساسي لتمكين الثورة المضادة والقوى المعادية للديمقراطية. ٣ للأسف، فإن المكون الديمقراطي ضعيف لدى أغلب النخب السياسية من الصف الأول، ناهيك عن ضعفها وعدم ثقتها في ذاتها، أو رغبتها في امتلاك ثقة الآخرين، وانسياقها وراء السلطة وهرولتها وراء المغنم السريع، أما الشباب النافذ في القوى والحركات السياسية فهو أقدر على بناء التوافق وتجاوز الاستقطاب، ربما لأنه لا يصدر عن نفس النموذج المعرفي، وهذه وهذا لا ينفي بالطبع وجود قطاعات شابة تفكر بنفس طريقة قياداتها. ٤ إذا كان الحوار والقدرة على بناء التوافقات ضعيفة بين القوى السياسية، فإن الحوار داخل الكيانات منعدم، ويفسر هذا ما شهدناه من تشققات وانقسامات داخل هذه الكيانات بعد الثورة. ٥ أخيرًا، فإن الاستقطاب يجب أن يكون حول مسألة الديمقراطية، أي بين قوى ديمقراطية وقوي غير ديمقراطية، وليس على أساس المرجعية الفكرية، فلكلٍ مرجعيته التي ينطلق منها، ويظل الأهم هو تفسيره لهذه المرجعية. تمكين الشباب منذ تجربة رئاستي لتحرير موقع «إسلام اون لاين»، بين ١٩٩٩ و٢٠١٠، تعلمت أن العمل مع الشباب متعة، خاصة إذا جرى انتقاؤهم بعناية. بدأت التجربة وكان عمري ٣٥ عامًا، ولا يكبرني سوى الأستاذ توفيق غانم الذي كان أكثر مني إيمانًا بالشباب وبقدرتهم على الإبداع والعطاء والتميز، ومنذ ذلك الحين وأنا أعمل مع الشباب، أتعلم منهم الإبداع والمبادرة وسرعة الإنجاز والتطور الدائم. ورسخت قناعاتي عندما بدأنا بعض المشاريع التجريبية لتمكين الشباب، فكانت الخلاصة أن ١ من لم يترك مكانه للشباب طواعية لا يمكّنهم بل يقول ما لا يفعل. ٢ الشباب في مصر طاقة تغيير كبيرة لواقع مجتمعاتهم المحلية، وهم لا يفتقدون إلا للقدرة على العمل سويًا لإحداث هذا التغيير، أما الخبرات والمهارات والأفكار فيسهل اكتسابها. ٣ المبادرات الشبابية تتجاوز طريقة عمل التنظيمات التقليدية، فهي مبادرات تشبيكية بين جهود الأفراد داخلها، وبين المبادرات المتعددة، وفيها تداول للمسؤولية القيادية، دون تراتبية تقيّد السلطات على المستوى المحلي، ولا تفهم اللغة التي يتحدث بها هؤلاء الشباب. أذكر محافظ أسوان الذي قضى في رتبة «اللواء» سبع سنوات قبل أن يتلقى تكليفًا بأن يكون محافظًا، أذكره وهو يتحاور مع الشباب كأنه ما يزال في معسكر التجنيد وهؤلاء هم المجندون الجدد. ٤ الاختراقات الأمنية والتنظيمية الحزبية للشباب من أهم معوقات العمل المشترك، والاختراقات الأمنية معروفة، أما الحزبية فالمقصود بها رغبة الأحزاب، التي ينتمي لها هؤلاء الشباب، في توظيف مبادراتهم لصالحها. عندما تريد أن نعمل سويًا فعليك خلع عباءة الانتماء الحزبي والتنظيمي. وأخيرًا، لا حديث عن تمكين الشباب دون حرية كاملة داخل أحزابهم وتنظيماتهم وفي المجال العام، فبدون حرية يكون الحديث عن «تمكين الشباب» رطانة فارغة المضمون والمستوى، فالشباب روحه في الحرية يتنفسها، فهي كالماء والهواء. المحافظة على كيان الدولة استقر وعيي على ضرورة التمييز بين النظام، أي نظام، وبين كيان الدولة الذي يجب الحفاظ عليه، ولكن في نفس الوقت فلا يمكن الحفاظ عليه دون تجديد وإصلاح مؤسساته، عبر بناء نظام ديمقراطي قادر على تلبية الاحتياجات العامة للمصريين جميعًا دون تمييز. دفعتني هذه القناعة للمساهمة مع عدد من الأصدقاء في مشروع «مصر ٢٠٣٠»، بالإضافة لبناء استراتيجية للتعامل مع القضية السكانية، مع المجلس القومي للسكان، واستراتيجية انتقالية لتمكين الأسرة المصرية مع اليونيسيف، فماذا تعلمت من ذلك كله؟ ١ كانت «مصر ٢٠٣٠» مبادرة أهلية جرى السطو عليها من قبل سلطة الثالث من يوليو، فقط بهدف التزين بها، وجرى تغيير مضمونها الديمقراطي، خاصة في المحور السياسي. إن قوة المبادرة الأهلية تكمن في استقلالها، وهذا لا يعني خلق مجال مشترك مع السلطة، ولكن السلطة في مصر تبحث عن السيطرة والهيمنة على الجهد الأهلي مع تفريغه من مضمونه. ٢ البيروقراطية المصرية الآن في أدنى مستوياتها، وهي لا تنقصها الاستراتيجيات، فهي كثيرة ومتعددة، ولكن تنقصها الكفاءة لتنفيذها، في غياب التنسيق بينها وكثرة الصراعات بين أفرادها والافتقار للمحاسبة. هذه بعض الدروس التي تعلمتها من مسيرة عملي في الفترة من ٢٠١١ حتى الآن، وتظل هناك دروس أخرى في مجالات العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر والمنطقة، والمرأة بين الإنصاف والتمكين (انظر مقالي مصر يجب أن تتصالح مع شعبها)، بالإضافة لملف الحركات الإسلامية الذي أفضّل أن تُفرد له سلسلة مستقلة من المقالات. أكثر من ٦ سنوات فى مدى مصر

ذكر فى هذا الخبر