قتل القس سمعان شحاتة.. واقعة طائفية مرشحة للتكرار في «حوض داود» كارولين كامل تصوير إبراهيم عزت ١٨ أكتوبر ٢٠١٧ في ١٢ أكتوبر الجاري، ركض القس سمعان شحاته بكل ما أوتي من قوة، بعد أن تلقى طعنة من شاب حليق الرأس والذقن يرتدي جلبابًا ويحمل سيفًا، يدعى أحمد سعيد، لكن الطاعن ظل يطارده في شوارع مدينة السلام المتناثر بها بقايا مواد بناء، وبرك الصرف الصحي ومخلفات الورش، حتى لحق به في أحد مخازن حديد البناء الذي لجأ إليه القس للاختباء، وأجهز عليه بطعنات أخرى قاتلة. كان القس سمعان، ٤٠ عامًا، وهو كاهن كنيسة الشهيد يوليوس الأقفهصي في عزبة جرجس بمركز الفشن ببني سويف، في زيارة المدينة الواقعة على الطريق الدائري بالقاهرة، برفقة القس بيمن مفتاح، لجمع تبرعات من مسيحيي المنطقة من أجل فقراء الصعيد. أيمن فتحي، صاحب مخزن الحديد الذي شهد الواقعة، يقول لـ «مدى مصر» «أنا جيت بعد الحادثة بربع ساعة ﻷني كنت في مشوار، وزبون اتصل بيا وقال لي في خناقة بالمحل، وكنت على الدائري وبعدها بدقيقة قال لي في قتيل في المحل. المهم جيت وشفت الواقعة والناس ملمومة وواحد خدني وقال لي الواد رمى جراب على الأرض، ورقة أسمنت كان مظبطها على مقاس السنجة، عشان تكون جراب. روحنا الأمن المركزي سلمناها هناك. ساعة لما مسكوه كان معاه أداة الجريمة». يوضح فتحي أن المنطقة تشهد من وقت لآخر مشاجرات، يحتمي الطرف الأضعف بأقرب مكان مفتوح، إلا أنها لا تصل للقتل، خاصة أنه على بعد أمتار توجد ثكنة للأمن المركزي وإصلاحية للأحداث، مضيفًا أنها عادة منطقة مزدحمة، خاصة أنها تقع تحت الطريق الدائري، فتتقاطع فيها الطرق للدخول والخروج من نفق مؤسسة الزكاة، حيث مدينة السلام والبركة أو للتوجه إلى المرج. «القساوسة بييجوا من الصعيد يلموا تبرعات بصورة معتادة، ﻷن هنا في نسبة كبيرة من المسيحيين، فبيضمنوا أنهم يلموا تبرعات كتيرة وبيتحركوا مجموعات مع بعض من الكهنة»، يقول فتحي. «الموضوع في إيد النيابة. وإحنا محترمين ده. لكن المسيحيين في مصر بقالهم فترة أي حد بيطلع يقتلهم يكون مجنون. لكن مفيش واحد بيتسجن أو يتعدم. رغم أن الواد أحمد ده عمل مشكلة قبل كده في الكنيسة اللي هنا»، يضيف فتحي وهو يجاهد من أجل الكلام بعد تعب أربعة أيام بين تحقيقات واستقبال صحفيين وشرطة ومخابرات، على حد قوله. بينما أحالت النيابة القاتل للمحاكمة الجنائية، أوضحت وسائل إعلام في تقارير إخبارية نقلًا عن نص التحقيقات، أن قتل القس جاء بالصدفة، حيث كان المتهم قد أحضر السكين للتشاجر مع أصحاب محل عصائر كان يعمل فيه وطردوه، إلا أنه رأى القس يمر أمامه فهجم عليه، رغبة منه في «تطهير الأرض من الكفرة». «اشمعنى كل اللي بيقتل المسيحيين متخلف وحالته متأخرة. الموضوع ده ما قدمش، ما اتهرش وبقى مكشوف، ولا هو لسه شغال؟ اللي موت اتنين مسيحيين في قطار بسلاح طلع متخلف. اللي عمل مصيبة تانية في مسيحيين طلع متخلف. فإحنا اتطبعنا على الوضع ده. ومتوقعين إنه بكرة ممكن يخرج عادي»، من على مصطبة أمام منزله في منطقة حوض داود بمدينة السلام يتحدث إيهاب اسحق، ٤٠ سنة، لـ «مدى مصر» بغضب عن تداول مواقع إلكترونية تصريحات منسوبة للتحريات الأمنية عن جارهم قاتل القس سمعان عقب الحادث بساعات قليلة. حوض داود، شارع طوله ٧٠ مترًا تقريبًا، مكون من ١٢ منزلًا، تسعة منها مملوكة لمسيحيين والثلاثة الأخرى لمسلمين من ضمنهم سعيد والد القاتل، ويقع منزله على ناصية الشارع. كل البيوت مبنية من الطوب الأحمر غير مطلية كحال غالبية البيوت في مدينة السلام. يعمل اسحق في تجارة الأقمشة، ويملك ثلاثة منازل من أصل التسعة التي يملكها المسيحيون هناك، بينما يسكن أقاربه باقي المنازل، ويعتبر هو الأقدم في المنطقة، حيث بنى منزله عام ٢٠٠٩ إلا أنه انتقل فعليًا للسكن فيها منذ ٢٠١١. يستكمل حديثه بينما يتابع فرز الأقمشة «إحنا ما نحبش نظلم حد. لكن أحمد سعيد مش متخلف عقليًا. أحمد سعيد متطرف ديني. اشمعنى التخلف ده جاله من سنتين بس لما تدين. ودماغه بتحدفه على المسيحيين تحديدًا». تجلس النساء على مصاطب أمام منازلهن في «حوض داوود» يتوقعن زيارة صحفيين أو شرطة فيتابعن تطورات الأحداث، فتقاطع حديث اسحق ابنة عمه التي ينادونها بـ«أم ميلاد». تحمل طفلها وتذهب وتجيء لتسمع ما يقوله «أبو ماريو» كما تنادي ابن عمها. تقول وهي تبكي «قبل ما دم الراجل يبرد ودموع مراته تنشف، شفنا على النت شيخ بيقول اللي يقتل المسيحي آه يتحاكم لكن ما يتعدمش لأن دمه أحسن من المسيحي. لكن لو مسيحي عمل حاجة هيتعدم ويتولع في بيوته ويتهجر أهله. ما هو الظلم خلاص غطى الأرض». تتابع «أم ميلاد» وهي تربت على ظهر طفلها بين كلمة وأخرى «الراجل اللي اتقتل ده ذنبه إيه. من يوم ما وعينا مفيش مسيحي حد بيجيب له حقه في البلد دي. إحنا خايفين على عيالنا. يعني سعيد أبو أحمد ده يطلع من الحبس ليه. ده أبوه إرهابي أكتر منه وهو اللي مأسسه على كده. أبوه يطلع ليه ويغيظ فينا. ويدور يحكي للناس عن ابنه البطل. وما حدش هيقدر يعمل له حاجة وبكرة يرجع تاني». تم احتجاز والد المتهم مع أسرته بالقسم عقب الحادث لمدة ثلاثة أيام. اتفقت روايات الشهود حول تدين أحمد المفاجئ في الفترة الأخيرة، مع اضطراب ملحوظ في علاقاته الأسرية. ووفق بيان وزارة الداخلية، فإن أحمد سبق اتهامه في القضية رقم ٢٣٢٥٢ جنح المرج لسنة ٢٠١٧ لتعديه على والده بالضرب وإصابته وإشعال النيران بمنزله، وهي الواقعة التي يصفها جيرانه بأنها مفتعلة. وهو ما يعلق عليه اسحق قائلًا «ده كارت تخويف عمله كده. يعني ما كانش ناوي يولع في أبوه ولا حاجة. والدليل أن أبوه مش هو اللي اتصل بالشرطة. أنا اللى اتصلت بالشرطة عشان تيجي تاخده. هما بيخوفونا إنهم بلطجية كده يعني». المنازل في «حوض داود» لا يفصلها سوى أمتار قليلة، يمكن من خلالها للجميع متابعة حياة بعضهم البعض، بل وسماع الأصوات، خاصة وإن كانت مرتفعة بعض الشيء، ويوضح اسحق أن المنطقة أقرب للريف، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، مشيرًا إلى أنهم استطاعوا لمس تغيير في شخصية أحمد خلال آخر سنتين بعد أن اختفى في المنزل حوالي ستة أشهر، كان يقرأ فيها القرآن بصوت عالٍ. يقول اسحق «على فكرة أحمد صوته جميل جدًا. أنا قعدت أول شهر كان في الشتا. فكنا بنقفل الإزاز في البيت، ولما كنت أطلع البلكونة أشرب سيجارة، أسمع صوته فكنت أفتكره الكاسيت اللي شغال. اتاريه هو اللي بيقرا القرآن. بعدها بشوية بدأ يضطهد المسيحيين في المنطقة هنا». سلوك أحمد العدائي المفاجئ تجاه المسيحيين في المنطقة كان السلوك المعتاد لوالده وفق شهادة وروايات الجيران. يحكي اسحق عن واقعة حدثت منذ سنتين حاول فيها الوالد إشعال فتنة طائفية «من ٣ سنين قامت حريقة عندهم في البيت. بنته نسيت أنبوبة والعة، فالنار مسكت في شوية كراكيب. يوم الجمعة راح الجامع يقول للناس (أنا محشور في التقسيم اللي جوه ده بتاع حوض داود. وبعدين المسيحيين محاوطني من كل ناحية. وعايزين يغتصبوا بنتي ومراتي ومش بعرف أنزل من البيت لا أنا ولا أولادي)». يستطرد اسحق بروايته «في ناس عارفاه سمعوا كلامه وسابوه ومشيوا. وناس مش عارفاه قالوا ده المنطقة قريبة نروح نشوف في إيه. ويمكن الراجل ده مظلوم فعلًا. فجأة وإحنا قاعدين يوم الجمعة الشارع ده اتملى ناس. في ناس أعرفها. وفي ناس تعرفني. وفي ناس ما تعرفناش. أنا بسأل في حاجة عايزين إيه. فقالوا لي سعيد في الجامع بيقول كذا وكذا. كلامه ده كان يعمل مدبحة في ثانية. كام واحد من الناس المسلمين هنا قالوا لأ ده كلام ما يتسكتش عليه وهيعمل مجزرة. فلازم نروح للراجل الكبير بتاع المنطقة الحاج عواد عودة راجل محترم. أخدنا بعضينا وروحنا له. سمع الكلام كله راح شتمه ولم الموضوع على الضيق». تلتقط «أم ميلاد» طرف الحديث مرة أخرى بعد أن ذكرتها إحدى الجارات بقصة تعرض والد أحمد للأطفال أثناء عودتهم من الكنيسة قائلة «أبوه هو المسؤول، هو اللي علمه هو وأخوه السرقة. وهو أصلا بيكره المسيحيين من زمان. كان يبص للعيال وهي راجعه من الكنيسة يوم الجمعة ويقول لهم عمالين تكتروا الله يخرب بيتكم ويحرقكم بجاز. ده انتو مليتوا المنطقة قرف». على مدخل محل جلست سيدة طلب منها زوجها عدم المشاركة في الحديث مع الصحافة، إلا أنها تشاور لـ«أم ميلاد» حتى تروى قصة كيرلس وصموئيل «كيرلس ده عنده محل على أول الشارع، كان يعدي عليه ويقوله اقفل، ويسبه، وكسر له الفاترينة. وفي واحد اسمه صموئيل برة كهربائي، كسر له الفاترينة برضو. وبقى يروح الكاتدرائية بتاعت العدرا والأنبا شنودة اللي هنا يحدف طوب على بتوع الأمن. وتقريبا في أبونا راح اشتكاه». يوضح اسحق أنه يملك القدرة على الرد والاشتباك مع أحمد وولده، إلا أنه يفضل ألا ينشغل بمثل هذه المشاكل والاستسلام لاستفزازهما للمسيحيين في المنطقة، ويقول «أنا عندي عيال باربيهم ومدخلهم مدارس وباجري على أكل عيشي. مش فاضي للكلام ده. وكمان إحنا مش بنخاف بس لو الدنيا ولعت المسيحيين هما اللي هيتأذوا جامد». يتساءل اسحق «طيب إحنا مصيرنا إيه دلوقتي وسط الناس. يعني بيتهم اللي وسطنا ده. نستنى لما يرجعوا ويقتلوا لنا عيل المرة دي؟ أبوه كان موجود امبارح. وأول ما الموضوع يهدى والبوليس يبطل ييجي هيرجعوا كلهم تاني. عندنا آية بتقول (أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ)، بس بصراحة ما بقاش في كل الأحوال نقدر نتحمل كده. إحنا في زمن من كتر الضغوط اللي على الواحد، ممكن يتصرف وهو مش في وعيه. ولو قالوا متخلف عقليًا. وطلع من السجن ورجع يعيش هنا. يبقى أقعد فوق وقلبي في رجليا على عيالي. يا إما أنزل أقتله وأنا أتعدم لأن ده الطبيعي لأن أنا مسيحي وهو مسلم». عشرات القصص شارك الجيران في سرد تفاصيلها تدعم روايات اسحق و«أم ميلاد» التي انهت كلامها في يأس «لو واحد مسيحي اللي عمل ده، كانوا جابونا واحد واحد وولعوا فينا وفي عيالنا وهجروا اللي عايشين، لكن بكرة يخرج أحمد وييجي يعيش هنا عادي، وإحنا نطالب بالعدل فين في مصر. في الضلمة اللي إحنا فيها دي». *** بينما صرخت مريم القمص صليب زوجة القس سمعان شحاته ولطمت على وجهها في لقاء تليفزيوني «كفاية بقى يا سيسي.. كفاية» قبل أن يغمى عليها، خرج النائب خالد عبدالعزيز فهمي، عضو مجلس النواب عن حزب المصريين الأحرار بتصريح «مقتل القس سمعان شحاته حاجة بسيطة وعادية جدا بتحصل في كل أنحاء العالم، والتهويل منها مؤامرة، والمسيحيين في مصر مؤيدين للدولة ويعلمون أن هناك مؤامرة مُحاكة ضدها». «هذا الوضع لا يمكن أن يستمر» حسب القمص صليب والد «مريم» الذي قال في اللقاء ذاته «إحنا لينا شهيد في السماء، لكن الوضع ده لا يمكن أن يستمر بأي حال من الأحوال، إحنا ككهنة محتاجين نحس إننا عايشين في دولة فيها أمان، وفيها استقرار، ونحس بوجودنا ككيان، كمصريين بكل معني الإنسانية». فيما أكدت أسرة القس سمعان أنهم لن يتركوا حقه يضيع، بينما اكتفت الكنيسة ببيان مقتضب عن الحادثة، ووصفها بـ«المؤسفة». أكثر من ٦ سنوات فى مدى مصر