الأقباط في مناهج التاريخ المصرية (١) هل نطرح الأسئلة الصحيحة؟ إيهاب عبده ١٩ أكتوبر ٢٠١٧ على مدار السنوات القليلة الماضية، سمعنا مطالب متكررة بإدراج التاريخ القبطي في المناهج المدرسية. في هذا السياق، رددت دعوة البابا تواضروس لـ«تدريس التاريخ القبطي في المدارس» أصداء دعوات سابقة ومماثلة أُطلِقَت على مدار عقود من الزمن. تعطينا تلك المجادلات بصورة ضمنية أحيانًا وأحيانًا أخرى بشكل صريح انطباعًا بأن تغيرًا جذريًا قد جرى في مراحل معينة من الزمن في المناهج الدراسية (مثلما في حقبة عبد الناصر، أو خلال السبعينيات حين كانت أسلمة المجتمع في حالة من الصعود)، وأن التاريخ القبطي قبلها كان مدرجًا في المناهج على نحو أوسع. وتُطرَح مثل هذه المجادلات من قبل باحثين بارزين مثل أنور عبد الملك (١٩٦٨) الذي حدد زمن هذه التغيرات بعهد عبد الناصر وتستمر في الرواج على يد الكثير من الصحفيين والمثقفين المعروفين. بطبيعة الحال، تقود مثل هذه التأكيدات إلى رؤى ضيقة ومطالبات بسيطة بـ«إدراج» التاريخ القبطي، أو بزيادة المساحة التي يحتلها في المناهج المدرسية. غير أننا بحاجة، قبل المطالبة ببساطة بإدراج المزيد من التاريخ القبطي، لأن نسأل «أي محتوى يُدرَج؟ وكيف نريد تقديمه؟» ولكي نتمكن من التعاطي مع هذين السؤالين، خُصّص هذا المقال الأول للاشتباك مع النغمة الإقصائية على أساس ديني، لمناهج التاريخ المدرسية، قبل الانتقال إلى مقال ثان أركز فيه بشكل أكثر تحديدًا على الصورة التي يُقدَّم بها الأقباط والتاريخ القبطي وبعض السبل المقترحة لتطوير هذا. تستند هاتان المقالتان إلى تحليل كل كتب التاريخ المدرسية المتوافرة في أرشيف متحف التعليم بوزارة التربية والتعليم المصرية بالقاهرة، تلك المناهج التي تعود للعام ١٨٩٠. وعلى سبيل التسهيل على الباحثين في التحقق والعودة إلى المراجع، أدرجت الرقم المسلسل (ر.م) لكل كتاب مشار إليه، أما الرقم فيشير إلى الرقم المخصص لكل كتاب، كما هو مدرج في قائمة الأرشيف. على سبيل المثال، يشار إلى كتاب التاريخ الذي يحمل الرقم المسلسل ٢٥ بـ «ر.م ٢٥»، وهكذا. أما بالنسبة لكتب المناهج الأحدث المذكورة هنا، والتي ربما لم تُدرج بعد في الأرشيف، فيشار فيها للعام الدراسي والفصل الدراسي الخاص بها بين قوسين (١ أو ٢). هناك مفهوم خاطئ ولكنه واسع الانتشار، مفاده أن محتوى المناهج المدرسية شأنه شأن غيره من مجالات الحياة العامة في مصر قد جرت أسلمته في عقد السبعينيات. لكن باحثين قلائل، مثل سناء حسن في كتابها «المسيحيون ضد المسلمين في مصر الحديثة»، والصادر عام ٢٠٠٣، تحدوا هذا المفهوم بالقول إن مثل هذا التحول جرى في وقت سابق؛ خلال الحقبة الناصرية في الخمسينيات، تلك الفترة التي شهدت إقحام لنصوص إسلامية وآيات قرآنية في الكثير من المواد الدراسية، مثل مادة اللغة العربية. بل وفي الحقيقة، يسهل لمس هذا النزوع الواضح أيضًا في المناهج الدراسية الأقدم المتوافرة في أرشيف وزارة التربية والتعليم من أواخر القرن التاسع عشر. واستنادًا إلى تحليلي لكتب مناهج التاريخ المدرسية منذ ١٨٩٠ حتى السنة الدراسية ٢٠١٦ ٢٠١٧، يتضح أن التاريخ المصري يُروَى من منظور يعظّم من الهوية العربية الإسلامية على حساب أي منظور أو صوت آخر. وبينما تسلّط هذه النغمة ضوءًا إيجابيًا على المسيحية مثلًا، فإن السردية في مجملها تعد إقصائية، سواء بطريقة صريحة أو خفية. يسرد منهج التاريخ للعام ١٨٩٠ قصص الأنبياء من منظور إسلامي واضح، باقتباسات مفرطة لآيات قرآنية (ر.م ٢٥٠ ). وبالمثل، يشرح منهج التاريخ للعام ١٩١٦ كيف يعد القرآن معجزةً من العديد من الزوايا، وكيف تنبأ بالأحداث، وكيف سيصونه الله إلى أبد الآبدين (ر.م ١٢ صفحة ٣٥ و٦٢). وفي تناول صدر الإسلام والوحي الإلهي للنبي محمد، يسأل منهج التاريخ للعام ١٩٦٠ الطلاب أن يحفظوا ثلاث آيات قرآنية تتناول صفات النبي محمد وتحث المؤمنين على طاعة الله ورسوله (ر.م ٧٩ صفحة ١١٢). وربما تظهر أحد أكثر الاستخدامات كثافةً لآيات القرآن في كتاب منهج التاريخ للعام ١٩٩٠، إذ يتضمن ما يقرب من ثلاثين آية، ليس فقط في مواضع مرتبطة بتاريخ ظهور الإسلام، بل في كثير من المواضع الآخرى (ر.م ٣٧٦). وتستمر كتب مناهج التاريخ في تضمين آيات قرآنية في الكثير من الأقسام، بما يشمل الإشارة إلى القرآن لتأكيد أحداث تاريخية باستخدام عبارات مثل «كما ذُكِرَ في القرآن الكريم» (الصف الثاني الإعدادي (١)، ٢٠١٣ صفحة ٣٤ و٣٥ ). ومع بداية القرن العشرين، بدأت بعض كتب التاريخ المدرسية في عرض العقائد غير الإسلامية في ضوء أقل إيجابية. على سبيل المثال، فلدى الإشارة إلى صدر الإسلام في الجزيرة العربية، يستخدم كتاب منهج التاريخ للعام ١٩١٢ في وصفه للمشركين مصطلحات استعلائية مثل «حضيض الوثنية»، مضيفًا أن المسيحية واليهودية لم يكونا أفضل حالًا (ر.م ٢٦٨ صفحة ٨١). وبالمثل، فلدى تناول أسباب تحول المصريين إلى الإسلام عند دخوله مصر، تشير كتب المناهج في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات على نحو متزايد إلى خيبة الأمل في المسيحية كدافع رئيسي، موضحةً أن الكثير من المسيحيين فى ذلك الوقت «كرهوا المسيحية إذ عصت ما أمر به المسيح من حب ورجاء فى الله ونسيت ذلك فى ثوراتها وحروبها والتى كانت تنشب بين شيعها» ما أدى إلى العديد من الصراعات الدينية الداخلية التي أودت بحياة كثير من المسيحيين، ولذا «لجأوا الى الاسلام فاعتصموا بأمنه، واستظلوا بوداعته وطمأنينته وبساطته» (ر.م ٣٤٢، سنة ١٩٤٩ صفحة ٩١). كما نجد إشارات شبيهة فى بعض كتب الخمسينيات (مثلًا ر .م ٢٠١، سنة ١٩٥٤ صفحة ١١٥. ر.م ٢١٠، سنة ١٩٥٧ صفحة ٧٨). وقد تكون أحد أغرب العبارات تلك التي ظهرت في كتاب العام ١٩٦٩، وتوضح أن المسيحية واليهودية، نظرًا لتعقيدهما والتنافس بين طوائفهما العديدة، لم يجذبا أعدادًا كبيرةً من التابعين في شبه الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام. ويواصل الكتاب موضحًا أنه على الرغم من مثل هذه النقائص، فقد أدت هذه «الديانات الخارجية» وتعاليمها الغرض منها بطريقة ما، إذ مهّدت الطريق أمام العرب لقبول تعاليم الإسلام واعتناقه لاحقًا (ر.م ٣٦٩ صفحة ٣٢). وتلمّح كتب دراسية أخرى إلى تأثير الفلسفات اليونانية القديمة، التي صبغت اليهودية والمسيحية بصبغة أعقد بحيث أصبح من الصعب على عموم الناس الوصول إليهما (ر.م ٢٠٥، سنة ١٩٥٥ صفحة ٢٧. رم. ٣٦٩، سنة ١٩٦٩ صفحة ٦٣). لحسن الحظ، فهذه التصويرات السلبية غير موجودة في كتب المناهج الحالية. في الحقيقة، ظلت هناك بعض الإشارات الإيجابية باستمرار للمسيحية وقيمها النبيلة والسامية، خاصةً لدى مقارنتها بالديانات الوثنية القديمة. على سبيل المثال، تشير بعض مناهج التاريخ في الثلاثينيات والأربعينيات إلى المسيحية باعتبار أن لها تأثيرًا أكثر استمراريةً وأطول أمدًا من القوانين الرومانية القديمة، والأدب اليوناني واللاتيني القديم (ر.م ٢٧٢، سنة ١٩٣٠ صفحة ١٥٧. ر.م ٢٨٥، سنة ١٩٤٠ صفحة ٢٣٧). غير أنه، كما ذكرنا سلفًا، فقد هيمن منظور ونبرة إسلاميان على كتب مناهج التاريخ المصرية منذ أواخر القرن التاسع عشر. أما كتب التاريخ المدرسية الحالية فلا تحتوي على إشارات ازدرائية صريحة للمسيحية أو المسيحيين مثل تلك التي تضمنتها بعض كتب المناهج الأقدم. بل في الحقيقة، تتضمن الكتب الحالية إشارات إيجابية، وإن كانت موجزة للغاية. على سبيل المثال، يوضح كتاب منهج ٢٠١٦، في استعراضه لأسباب تبني المصريين القدماء للمسيحية، أنهم انجذبوا لقيمها، حيث «العدالة، والمساواة، والرحمة، والعطف، والتسامح، والزُهد فى الدنيا، والتطلع لنعيم الآخرة» (الصف الأول الإعدادي (٢)، صفحة ٥٧ ). ومع ذلك، فنحن بحاجة أيضًا لإدراك الطرق الخفية التي تعطي قيمةً لهوية واحدة بينما تُقزِّم هويات أخرى أو تفرض الصمت عليها. فبالإضافة إلى الاستمرار في استخدام مرجعيات إسلامية صريحة ومفرطة، كما أوضحنا سلفًا، نجد أيضًا إقصاءات خفية في الكتب المدرسية الحالية. مثلًا، تصف هذه الكتب بلدانًا مثل مصر ولبنان بالـ«عربية» حتى قبل أن تستحوذ عليها الجيوش العربية الإسلامية (١٢). و ويعطي ذلك انطباعًا خاطئًا تاريخيًا بأن هذه البلدان طالما احتضنت الهوية العربية، ما يغطي بدوره على ثراء الحضارات والثقافات الموجودة قبل دخول الإسلام (على سبيل المثال الصف الأول الإعدادي (٢)، سنة ٢٠١٣ صفحة ٣٤). وعلاوة على ذلك، طالما تعاملت كتب التاريخ المدرسية مع الطلاب كما لو كانوا كلهم مسلمين، ولا تزال تواصل هذا النهج حتى الآن. على سبيل المثال، يحفّز منهج التاريخ للعام ١٩٨٨ الطلاب على دراسة تفاصيل فرائض إلى مكة من خلال سؤال أقاربهم الذين أدوا هذه الفريضة من قبل (ر.م ١٦٧ صفحة ١٥٦). ولدى تناول المشاركة المجتمعية وأهمية التطوع، وتحت عنوان «قيمنا الإسلامية والمواطنة الصالحة»، تشجّع مناهج التاريخ الحالية الطالب على «الاعتزاز بالمبادئ والقيم الإسلامية التي دعا اليها الإسلام»، وأن «يتعايش مع الآخرين المختلفين عنه» (على سبيل المثال الصف الثاني الإعدادي (٢)، سنة ٢٠١٦ صفحة ٦٧ ). ومن خلال تجاهل الأديان أو الهويات الأخرى أو التقليل من شأنها، يقوم المنظور والنبرة الإقصائيان باستبعاد المؤمنين بهذه الأديان أو المنتمين لهذه الهويات. وبالإضافة إلى خلق حالة من الاغتراب لدى الطلاب غير المسلمين بشكل أساسى وواضح، فإن هذه النبرة قد تكرس أيضًا اغترابًا لدى الطلاب المسلمين غير السنيين، والطلاب المسلمين غير المتدينين، أو المتدينين منهم ولكن الرافضين لإقحام الدين وفرض الهوية الاسلامية فى المناهج على هذا النحو. بعد ضغوط مختلفة، حذفت وزارة التربية والتعليم مؤخرًا من كتب مناهج اللغة العربية بعض المحتوى عن شخصيات تاريخية إسلامية قديمة مثيرة للجدل، مثل عقبة بن نافع وصلاح الدين. ومع ذلك، وبصرف النظر عن أي إضافات أو حذف لمحتوى قد يثير الجدل، فإن ما نحتاجه هو فحص المنظور والنبرة اللذين يُقدَّم من خلالهما التاريخ المصري في الكتب المدرسية. فبالإضافة إلى دراسة هذه النصوص الصريحة، نحتاج أيضًا لدراسة الطرق الخفية التي تغطّي على التنوع أو تضفي صمتًا عليه، أو تبرز أبعادًا معينة للهوية المصرية على حساب أبعاد أخرى. كما تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا التحليل الأرشيفى كشف عن أنه بينما يمثل التاريخ القبطي قضيةً هامةً وملحة للغاية، فإننا بحاجة إلى حوار أشمل حول تدريس التاريخ المصري وإدراج الكثير من السرديات والمناظير، المحذوفة أو المهمشة، فيه. ولا يتضمن هذا فقط السرديات التاريخية، والمسكوت عنها، لأقليات مختلفة، بل يجب أن يمتد ليشمل سرديات الشعب المصري بوجه عام، تلك التي تستبعدها في الأغلب المناهج الدراسية لصالح التركيز على النخب والحكام. صورة الموضوع القطعة رقم ٣٧٩٧ بالمتحف القبطي بالقاهرة أكثر من ٦ سنوات فى مدى مصر

ذكر فى هذا الخبر