الحقيقة المرة

الحقيقة المرة

عدد الأخبار كل يوم من ولمدة حوالي شهر واحد
من أهم المرتبطين بالحقيقة المرة؟
أعلى المصادر التى تكتب عن الحقيقة المرة
تمثل التربية هاجسا كبيرا في جميع الثقافات البشرية على مستوى الفرد والجماعة، وتأخذ اتجاهات وأنماطا وطرقا، وتتفرع أنواعا ونظما، تتباين فيما بينها من مهتمة بالبدن دون الروح، إلى مركزة على الروح دون البدن، وصولا إلى معتمدة على العقل، وانتهاءا بمحكمة للعاطفة والقلب، وربما تكون هناك مجموعات بشرية لها أولوياتها واهتماماتها التربوية غير تلك التي ذكرناها. ورغم الاختلاف الكبير والبون الشاسع بين الثقافات في الوسيلة والهدف، إلا أن الغاية المنشودة لجميعها هي تكوين المواطن الصالح، وبناء الفرد والجماعة على قالب تكاملي، بحيث يقوم الفرد بدوره الإيجابي في الجماعة، وتحتوي الجماعة الفرد بوضعه في مكانه المناسب، واستيعابه بمحاسنه ومساوئه، وهمومه وطموحه. وتُعتبر الثقافة الإسلامية الأكثر توازنا، والأكبر انسجاما مع فطرة الإنسان، وهي الأقوى ضمانا لتحقيق غاياتها المرجوة لاتصافها بالمرونة والواقعية، وذلك لكونها استجابة طبيعية لإرادة الله المستمدة من الوحي النمير، وطبقا لهذه النظرية فإن أفضل الثقافات في تحقيق أهدافها هي الثقافات المنبثقة عن الإسلام، أو بعبارة أكثر وضوحا المجتمعات المسلمة هي الأقرب إلى تحقيق أهداف التربية في الفرد والمجتمع، بتكوين المواطن الصالح، والتوفيق بين مطالب الفرد، ومصالح الجماعة. وتختلف آراء المجتمعات في تحديد مفهوم المواطن الصالح، إذ إن ما يعتبره مجتمع مّا صلاحا ربما لا يعتبره المجتمع الآخر كذلك، وعليه فإن المجتمعات القائمة بمنطق القوة تنظر إلى العضلات والتدرب على الفنون القتالية وحمل السلاح واستخدامه هو الصلاح الذي يجب أن يتصف به المواطن، في حين أن المجتمعات الزراعية ترى القدرة على التعامل مع المحراث وسكاكين الحصاد والقطف وإتقان مهارات تنظيف المزرعة من الحشائش ترى تلك الأمور هي الصلاح المطلوب توافره في المواطن، وهكذا دواليك، ولست بصدد استقصاء آراء المجتمعات في صلاح المواطن. أما المواطنة فهي قضية ذات أبعاد إنسانية وسياسية وأيدلوجية، حيث يطلق شخص ما على أصحاب ديانة واحدة بمواطنين لدولة واحدة تقوم مملكتها في قلوب معتنقي تلك العقيدة، لتمتد مساحتها طولا وعرضا إلى آخر نقطة يوجد فيها مؤمن بتلك الديانة، فلا يعير أدنى اهتمام للحدود الجغرافية المتعارف عليها مرسومة كانت أو متنازعا عليها، بينما يرفض بعض الأشخاص الاعتراف بمواطنة القانطين معهم في القطر الواحد، والذين تجمعهم بهم أواصر صلة وأواشج قرابة في رقعة جغرافية ذات حدود سياسية يديرها كيان معترف به دوليا، ومجموعة أخرى توزع بطاقات المواطنة باللون واللغة والعرق والجنس وغيرها، وربما تفسر على هذا قضية الصومال الكبير المشهورة في التاريخ، وبما أن المجتمع الصومالي يستمد ثقافته من الإسلام الذي اعتنقه منذ أن بزغ فجره في أم القرى، حيث وصلت طلائع المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى اليمن، ومن ثمَّ إلى سواحل الصومال عبر البحر الأحمر، فعقيدة الإسلام متجذرة في قلوب هذا المجتمع، وهو متمسك بإسلاميته حتى النخاع، لدرجة أن السمة المميزة له هو التدين والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي تعكس روح الإسلام السامية. لا شك أن التربية تطبيق للنصوص على أرض الواقع، و ترجمة للنظريات إلى سلوك، ولهذا جاءت النصوص القرآنية المبينة لدور النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة ملخصة مهامه في ثلاثة أمور، ورد ترتيبها في القرآن بصيغ مختلفة حسب الاهتمام في السياق، وأكثر ما جاء منه بهذا الترتيب أولا يتلو عليهم آياته تلاوة النص (حفظ النظريات). ثانيا ويزكيهم التزكية والتربية (التدريب على التطبيق وتقويم السلوك). ثالثا ويعلمهم الكتاب والحكمة التعليم (تكوين القوة الذاتية على الفهم والاستنباط). والأجيال تتناقل النصوص عن طريق التعليم والتلقين، وتتلقى الأجيال التربية عن طريق الملاحظة والمحاكاة والاقتداء ثم التطبيق، ويصعب على المتعلم المبتدئ الربط بين النظرية والسلوك، أو العقد بين النص والتطبيق، ما لم يجد مؤدبا يوقفه على ذلك، أو مجتمعا يؤدبه، وهذا ما يسميه علماء التربية بالتربية المقصودة وغير المقصودة. ثم إن الأساس الذي تقوم عليه الفلسفات الدينية هو الأحكام الوضعية، والتي تدور في فلك الحلة والحرمة، بين منازل الوجوب والندب والاستحباب وبين مواقع خلاف الأولى وكراهية التنزيه وكراهية التحريم، وهي مصطلحات ذات دلالة دينية يترتب عليها العمل الصالح الذي يكلف به المواطن في ظل الدولة المسلمة، إلا أن هذه المصطلحات ليست شبحا مطاردا للمواطن في حله وترحاله، أو ليست ظلا ملاحقا له أينما حل وأينما ارتحل، بقدر ما هي رواسب عقدية فكرية تُبلور قناعات المواطن لتنعكس في شعوره وانطباعه وسلوكه تجاه شتى المواقف والأحداث، وترجع جذور هذه القناعات إلى نصوص مبثوثة في ثنايا الوحي بشقيه، مثل آية {خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}، وحديث (دع ما يَربك إلى ما لا يَريبك)، وحديث (والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه) حديث، وهي من النصوص التي لم تُقرأ بعدُ قراءتها الحقة، لتستخدم استخدامها الصحيح. كلما كانت الثقافة ضاربة في جذور التاريخ تظل رواسبها العقدية والفكرية أقوى من أية ثقافة حديثة، وكلما كانت الثقافة مستمدة من دين سماوي صحيح تظل تراكماتها العقدية والفكرية أصلح من أية ثقافة بشرية، وتأخذ التراكمات صورا وأشكالا مختلفة، فمرة تظهر في ثنايا الأساطير، وحينا في نصوص الحكم والأمثال، وأحيانا في المراسم والطقوس والمناسبات. ولهذا نجد الرواسب العقدية والفكرية المكونة لقناعات مجتمعنا الصومالي قد ظهرت بتلك الصور والأشكال، وهذا الأمر إيجابي ومبشر بقدر ما هو سلبي ومنفر، إذ إن الرواسب التي هي القناعات إذا لم تؤدّ دورها وتأثيرها في النفس والطبع والسلوك، تصبح فلكلورا ثقافيا أو جسدا لا روح فيه، فتفقد حيويتها ومعنويتها. والفلكلورية التي أتحدث عنها تعيشها التربية البشرية عموما، والتربية الإسلامية خصوصا، والتربية الصومالية بصورة أخص، وبالمثال يتضح المقال فالتربية البشرية وأساطيلها الغرب رفعت شعار الإنسانية لكنها تاجرت بالرقيق، والتربية الإسلامية نادت بالأخوة العقدية وتناحر الإخوة في العقيدة، أما التربية الصومالية فهي جزء مهم في التربية الإسلامية ينداح عليها كل ما يعيبها، ولها عيوبها الخاصة والتي سنتناولها بصورة أعمق وأدق. إن المجتمع الصومالي كغيره من المجتمعات العربية كان يتلقى المعلومات عن طريق المشافهة بواسطة الشعر والقصص والأساطير قديما، فهي ديوان وسجلّ حافل بتاريخ الأمة الصومالية وتراثها الحضاري والاجتماعي، وكانت الحكم والأمثال الوسيلة الأنجع في إيصال المعلومة وتوضيح المقصود للمتلقي، بحيث لا يتصور أن يكون كلام المنتدب للحديث أو المتحدث والناطق باسم المجموعة خاليا عن نوادر بديعة منها، فيستفتح الكلام بقصة ويورد في ثناياه أسطورة، وتتخلله حكم وأمثال ملائمة لموضوع النقاش ومستوى الحاضرين. وكما أشرت إليه آنفا، فإن التعامل مع النصوص مهنة العلماء والمتعلمين، أما العوام فتكفيهم معاني النصوص دون مبانيها، حتى تلامس المعاني شغاف القلوب ليسهل تنزيلها على أرض الواقع، فكانت النظريات التربوية بسيطة تتناسب وبساطة المخاطبين بالشريعة من العوام والأميين، وبنفس البساطة كان التطبيق لينا هينا بعيدا عن التعقيدات والتشنجات. هذا هو سر غلبة الالتزام في المجتمعات المسلمة عبر التاريخ، في صدر الإسلام وفي العصور الذهبية إلى أن جاء زمن غلبة الحفظ والمحاججة بالمباني، والتفنن برص الكلمات، والتباهي بالمعلومات دون الالتزام بروح تلك المعلومات، ولهذا أسميتُ هذا الزمن بزمن الفلكلورية والاهتمام بالمظهر دون المخبر. وإذا كان الصغار قديما يحترمون المساجد وينزهونها من أقل ما يمكن أن يكون سوء أدب مع المساجد كإخراج الريح داخلها، خوفا من إيذاء الملائكة التي تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، مستلهمين أسطورة شعبية قديمة مفادها أن ريحة واحدة داخل مسجد تزهق أرواح ألف من الملائكة، فإن الصغار اليوم يلعبون داخل المساجد دون أدنى وازع يحجزهم عن ذلك، بل يشجعهم فعل الكبار الذين ينبغي أن يكونوا قدوة صالحة للصغار إذ يمارسون البيع والشراء، بل والغيبة والنميمة داخل المساجد، ويعلم كل من عاش في مجتمع مسلم أنه لا يجوز البيع والشراء ناهيك عن الغيبة والنميمة داخل المساجد حيث لم تبن لهذا. والسباق الذي كان محتدما بين قبائل المجتمع الصومالي في قيم كالكرم والشجاعة والإباء إنما كان نموذجا للشهامة والمروءة الاجتماعية التي لا يُقبل من فرد أو جماعة خلوها منها، فكانت الأساطير الصومالية مليئة بمواقف سجلت في الكرم والشجاعة والإباء، تماما كما في الثقافة الإسلامية والعربية، والحكمة الصومالية القائلة (sadkiisa siyaa sagaashan gaaro) ومعناها (المُؤْثِر مُعَمَّر) أي الذي يؤثر غيره على نفسه يعيش طويلا، وفي هذا ترغيب على الإيثار والتضحية والبذل والعطاء، فكانت هذه القيم حاضرة في المحافل الصومالية، وربما بقي منها القليل، ولهذا فإن المروءة تقتضي ممن هو في صدارة المجلس أن يناول جاره، وبهذا تصل الخدمة إلى الجميع بيسر وسهولة، لكن الذي ظهر دخيلا إلى الثقافة الصومالية أن يحبس المتلقى الأول حصته ثم يناول التي بعدها إلى الذي يليه، والأفظع من ذلك أن يتزاحم الناس على المقاعد الأولية ليضمنوا حصصهم التي كانت فيما مضى تصل إليهم بدون كلفة. وقد اشتهر المجتمع الصومالي بمبدأ الصدق والصراحة بعيدا عن الكذب والمجاملة المؤدية إلى النفاق، وتباينت تعابير المحللين حول هذا الأمر، ما بين قائل بـ (جفوة الطبع)، وبـ (العنف الخلقي)، وبـ (غلظة الأعراب)، ومن هنا انبثقت الحكمة الموروثة عن الأجداد (run iyo ilko waa cadeeyaa) ومعناها يجب تبيين الصدق وكشفه، بقدر ما يجب تنظيف الأسنان وتبييضها، فإنه قد حلت محلها حكمة حديثة (run sheeg waa ceyb sheeg) وفحواها أن الصادق هاتك للستر كاشف للعيوب، في دعوة واضحة إلى الكذب الذي يلزم له عكس ما لزم للصدق، وهو أن الكاذب سابل للستر ساتر للعيوب. ويزداد الأمر سوءا عندما نتفحص في أحوال المصلحين السياسيين والاجتماعيين، فإذا كان فيما مضى يبدأ القائد بنفسه ثم الأقرب فالأقرب فيما فيه مشقة وتعب، ويبدأ بالأضعف ثم الضعيف فيما فيه منفعة ودعة، فإن المصلح في زماننا أقل شأنا من عنترة الذي يغشى الوغى ويعف عند المغنم، لأنه يعف عند الوغى ويغشى المغنم، وهذا الذي يجعل الجميع يتسابق نحو المناصب لما فيها من المكاسب، وعلى الطرف الآخر تسمع إلى المعارضة في كل فترة انتخابية تعدد قضايا فساد ما إن تفوز هي في تولي مقاليد الحكم، حتى تتورط هي نفسها في تلك القضايا وأسوأ منها، كلما دخلت أمة لعنت أختها. والنضال والكفاح والمقاومة مبادئ سامية في الثقافات عامة وفي الثقافة الإسلامية خاصة، ولهذا المعنى صار صلح الحديبية في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فتحا لأنه مهّد للفتح الذي هو الغاية من الهجرة الشبيهة إلى حد كبير باللجوء السياسي للمناضلين في دول ترعى مشروعهم السياسي وتحتضن مقاومتهم السلمية أو المسلحة أحيانا. وكان الإيواء والنصرة للمناضلين واحتضان رموز المقاومة شرفا تتسابق عليه الدول المتحضرة منذ أن عرف الإنسان مفهوم الدولة، وما فعله النجاشي ملك الحبشة مع المهاجرين يندرج تحت هذا المفهوم، واستمر التسابق على هذا الشرف إلى أن اندلعت ثورات الربيع العربي وبلغ تأثيرها إلى دول لم تشهد لا ربيعا ولا صيفا، فتنكرت للمقاومة ووصفتها بالحركات الإرهابية خوفا على مصالحها الخاصة، وحذرا من تزعزع مكانتها، أومن سقوط أنظمتها، أو من انقطاع الدعم المالي عنها. وسقطت بذلك من القاموس السياسي للثقافة الإسلامية ما عرف بالاستجارة، وإعطاء الأمان للمستجير (للمستأمن) بغض النظر عن دينه ومبدئه وأيدلوجيته، ما لم يخلّ بقوانين الدولة المجيرة، أو لم يهدد أمنها واستقرارها، أو لم يفش سرها ومعلوماتها، ما يعني أنه يتمتع بكامل حرياته العقدية والسياسية والاجتماعية، وقد يتجاوز الأمر حده ليخرج عن طور السيطرة في بعض الحالات والظروف، فتظهر الحقيقة المرة وهي أن لا ذمة لأحد من أهل الثقافة الإسلامية ليتجه المستجيرون والمستأمنون إلى ثقافات أخرى غربية أو شرقية، فتزدحم عواصمها بالمناضلين الأحرار، والمقاومين والفارين من براثن الحكام الظالمين، لتنقلب المسألة وتنعكس الآية، فتلد الأمة ربتها، وتشرق الشمس من مغربها، وما قضية منع رفع الأذان في بعض الدول الإسلامية في الوقت الذي ينتشر فيه بناء مآذن عملاقة في أوربا إلا تكريس لهذا الأمر. وقد بلغ السيل الزبى، وانقلبت الموازين، واختلطت المفاهيم، وأصبحت المصطلحات فارغة عن مضمونها، وتخلت المجتمعات عن أفضل مبادئها، وانحرفت كل جهود الإصلاح عن مسارها، وفشلت في تحقيق أهدافها، وعصفت على التربية موجة عنيفة من التغيير الفكري والفلسفي، طالت المناهج، وأثرت على السلوك،وغيرت القناعات، وتلاشى في ضجيج العواصف صراخ النذير العريان.
قارن الحقيقة المرة مع:
شارك صفحة الحقيقة المرة على