إدوارد سعيد

إدوارد سعيد

إدوارد وديع سعيد (١ نوفمبر ١٩٣٥ القدس - ٢٥ سبتمبر ٢٠٠٣ نيويورك) Edward W. Said مُنظر أدبي فلسطيني-أمريكي. يعد أحد أهم المثقفين الفلسطينيين وحتى العرب في القرن العشرين سواءً من حيث عمق تأثيره أو من حيث تنوع نشاطاته، بل ثمة من يعتبره واحداً من أهم عشرة مفكرين تأثيراً في القرن العشرين. كان أستاذاً جامعياً للنقد الأدبي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الاستعمارية (ما بعد الكولونيالية). ومدافعاً عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوتٍ فعالٍ في الدفاع عن القضية الفلسطينية. ويكيبيديا

عدد الأخبار كل يوم من ولمدة حوالي شهر واحد
من أهم المرتبطين بإدوارد سعيد؟
أعلى المصادر التى تكتب عن إدوارد سعيد
رسالة مفتوحة إلى فاروق جويدة، أو إني أيضًا أتهم م. ف. كلفت ٦ أكتوبر ٢٠١٧ الأستاذ الشاعر والكاتب والصحفي والمثقف الكبير فاروق جويدة، رافع علم الطبيعيين وحامل لواء الشعراء إلى الجنة، تحية طيبة وبعد، بدايةً أحييك على نجاحك العظيم. قرأت باهتمام بالغ قطعتيك المعنونتين بـ«احتفالية للشواذ» و«لا حرية للشواذ»، واللتين قدمتا لي دليلًا دامغًا إضافيًا على أن مصر – لا أمريكا – هي أرض الفرص والأحلام. فأين في العالم يمكن لشخص، بهذه الإمكانيات اللغوية شديدة التواضع والقدرة شديدة الكسل على الكذب والنفاق والاستناد الصرف إلى قوة وصفاقة الجهل المريع وسلطة مثقف الدولة، أن يكون كاتبًا ولو في جريدة حائط؟ صدقني، فأنا أقرأ ما يكتبه اليمين الأمريكي المحافظ، ومنه مثلًا الدفع بأن المجتمع الأمريكي ليس بحاجة إلى تجربة زواج المثليين، إذ إن بلدانًا إسكندناڤية جرّبته بالفعل لسنوات كافية أثبتت أنه يهدد مؤسسة الزواج الرسمية والعلاقات الأحادية، (وأهم الأدلة المَسوقة هنا زيادة نسبة الطلاق، والتي زادت عندنا أيضًا إلى حد يزعج السيد الرئيس من الأزهر، ولعل قلبه اطمئن وزاد قوة على قوة بالأخبار القادمة من الهند). هذه أفكار شديدة العوار والرجعية لكنها… أفكار، يمكن التعاطي معها في السجال على أرضية من المنطق والأدبيات الديموقراطية و… اللغة (الإنجليزية بالطبع، والتي لم تتعرض للخراب والتعهير الذي صار يسمح بأن يُفهم من الكلام الشيء وعكسه دائمًا الدعوة إلى قتل أطفال الشوارع وإلى إنقاذهم، على سبيل المثال). أما النقاش الغربي نفسه عن زواج المثليين فشديد التعقيد إلى حد لا يسمح بتلخيصه لسيادتكم، كما أن كاتب هذه السطور لم يطوّر موقفًا واضحًا منه بعد، وهو في النهاية المطاف أمر ينتمي إلى سياق تاريخي واجتماعي وثقافي لا يخصنا كثيرًا، ليس لأننا نرفض التبعية للغرب وتقليده كما تفضلتم، ولكن لأننا ببساطة لا نستطيع هذا، إلا في حدود ما يراد لنا. (راجعوا من فضلكم «معذبو الأرض» لفانون، الذي يوصي الشعوب المستقلة حديثًا بألا تسمح بأي ثمن بتكوّن طبقة بورجوازية محلية لأسباب كانت قد بدأت في الظهور بالفعل ولم يثبت الزمن إلا عمق بصيرة من رآها بوضوح، وربما ما كان ليحدث لنا كل ما حدث لو أن مثقفينا آنذاك، من مجايليك وسابقيك، قرأوا ترجمته العربية بجدية كافية). لم أقرأ لك كثيرًا، ولا قليلًا، وإن كنت أذكر قصيدة عمودية في أهرام الجمعة عن الركوع فوق الدولار الأخضر وما إلى ذلك (قافيتها في الأغلب واو ونون)، وبشكل عام قصائد حب لزجة، خارجة عن الزمن وتيار الشعر المصري الأكثر تطورًا وأصالة، وعالقة بين كل الأزمنة عمومًا (على نحو يفوق بؤس حالة شوقي وإخوته بمراحل، ومن الظلم لهم هذه المقارنة)، ولا يمكن تلقيها بجدية خارج نادٍ لهواة غرائب وعجائب الفنون (وهو شيء مفهوم في إطار الرأسمالية المتأخرة والإنسانية المعقدة، حيث ينجح الكثيرون لأنهم شديدو الرداءة بما يكفي، إلى حد مضحك ومسلٍّ للغاية ومفيد أحيانًا، أو، وهو الأغرب والأتعس، لأن هناك من يعجبون حقًا بهذه الأشياء ويعتقدونها عين الفن. لا حيلة لنا مع ديموقراطية السوق.) لاحظ من فضلك أنني لا أمارس الآن الثنائية الشهيرة التي أرفضها؛ لا أقلل من شأن أعمالك – قليلة الشأن بذاتها – لأنني أحتقر موقفك وأداءك لدور المثقف المخبر، وأتصور بالطبع ودون جهد، وجود شعراء وكتاب حقيقيين يتمتعون بنفس القدر وأكثر من الخسة والرجعية، لكنهم كانوا سيكتبون شيئًا أفضل. لدى شاعر عظيم مثل أمل دنقل أطنان من النعرة القومية والذكورية تتوفر أيضًا لدى شاعر معارض آخر مثل نجيب سرور، الذي تضاف إليهما في حالته طائفة من أمراض الرهاب، لكن حظهما من خفة الدم والموهبة والعمق بعيد عن شاربك «المستقيم» الحليق. أدعوك بالمناسبة، إن كنت تقرأ، إلى مطالعة «بين كتبة وكتاب» لريشار جاكمون، والذي يفرد لك مساحة كريمة، كنموذج لـشواذ الأدب المصري المعاصر («الشرعي»، وفقًا للمترجم)، حيث يحلل الباحث الفرنسي الرصين دور المثقف المصري التنويري من كل الاتجاهات، والذي يطالب الدولة بمنحه – في أفضل الحالات ربما، لا في حالتك – سلطة تحديد ما هو نافع وأخلاقي وفني وراقٍ إلخ، ولا يحارب حقًا في سبيل حرية تعبير ذات معنى وتجريب خارج المعيار. أَبْلِغ تحياتي أيضًا إلى زميلك صلاح منتصر الذي حفظنا في المدرسة بعض روائعه المقررة في فن المقال، وتحديدًا حول قضيته الأثيرة، وهي الإقلاع عن التدخين، قبل أن نكبر ويعرف بعضنا دوره المشهود في… ليس منع التدخين، وإنما منع تدريس الروايات بالجامعة الأمريكية (جنبًا إلى جنب مع جلال أمين، صاحب المقال المربوط إليه أعلاه «عن أخطار أنصاف المتعلمين»). أنا على يقين مطمئن بأنكما راكمتما، إلى جانب المكانة الاعتبارية، ثروة جيدة في المؤسسة العريقة التي تؤتمنان فيها على إنارة عقول وضمائر الأمة ضد العادات السيئة، بأموال الأمة. وسط كل الغثاء والتفكك والتضارب، توقفت عند شيئين في القطعتين أولًا، أنك تنكر ملاحقة المثليين المصريين طالما أغلقوا على أنفسهم الأبواب، وترد على الرسائل الغاضبة على بريدك الإلكتروني الذي يَزِين ذيل عمودك، علامة على انفتاح الأفق (والرغبة في المساعدة ربما على غرار زميلك القديم عبد الوهاب مطاوع، وصفحته على كل حال أرشيف من نوع ما لبؤس العلاقات والعواطف المصرية، «المستقيمة» دائمًا بالطبع)؛ ثانيًا، أنك تتحدث باسم الشعب المصري الغلبان المكافح. فيما يخص أولًا، («سنة حلوة يا جميل») أرى في الإنكار أحيانًا جانبًا حميدًا (شرحت ذلك باختصار في تعقيب على ردود فعل قراء – غاضبين أيضًا – على مقال عن جريمة شبه مجهولة لعبد الناصر، بعد النكسة – كل عام وأنت بخير لمناسبة خمسينيتها هذا العام)، كما لا أستطيع إغفال خطوة تقدم صغيرة كبيرة، انتصار بطيء يُحسب جزئيًا للمدافعين عن الحقوق، تنطوي عليه الرسائل الغاضبة ومشكلتك المحددة؛ كونها مع الإعلان والتعبير عن الهوية وليست مع وجود هذا الميل الجنسي أو ذاك في حد ذاته. ولكن إن كنت لا تتابع الأخبار (ولا أقصد بالطبع تلك المنشورة في الأهرام، إن وجدت) عن الحملة الجارية على المثليين والمتحولين جنسيًا (لا فرق لدى الدولة)، أحيلك إلى تقرير من ٢٠٠٤ بعنوان «في زمن التعذيب إهدار العدالة في الحملة المصرية ضد السلوك المثلي»، والكثير من الممارسات الأمنية الواردة فيه (مثل تكنيك الإيقاع في الفخ) يتكرر في الأسبوعين الماضيين. ستستمتع كثيرًا بقراءته حتى إن لم يُشْفِك (وهذا غير متوقع عمومًا) من رهاب المثلية والجهل، فهو قطعة وثائقية عذبة ومؤلمة ونادرة تقدم درسًا في كيف للعمل الصحفي في مصر أن يكون استقصائيًا ومكتوبًا بفنية عالية تعيد إلى «الضحايا» والجلادين معًا – ضمن ما تفعل – تفاصيلهم ووجوههم الإنسانية، وإلى القصة أبعادها وكل ما يضيع في خضم الألفة والسرعة مع الصحافة السائدة. هناك مثلًا أم (من الشعب الغلبان) تتحدث عن دموعها التي، وبتعبيرها، بصق عليها رجال الأمن بعد أن ألقوا بابنها إلى حتفه من طابق مرتفع أثناء «التحقيقات». وهناك الشخصية المثيرة نفسيًا ودراميًا، راؤول، عميل الأمن المثقف، الذكي، الخبير بالأوبرا، والمثلي هو نفسه في الأغلب، والذي يتلذذ فكريًا، كبطل هوليوودي، بإيقاع ضحاياه في أيدي الشرطة؛ يتعرف على المثلي الذي داخلهم قبل أن يعلن عن نفسه حتى. (بعد اندلاع الثورة راودني حلم انكشاف أمر راؤول أخيرًا، ولغز وجود هذه الحياة الذكية، مهما تكن مظلمة، في أقبية الأمن المصري.) ستعرف كذلك كيف كانت مجرد المعرفة بكلمة «جاي.. gay» دليلًا كافيًا للقبض على أحد المارة وإلقائه في العربة، بداية هاوية الجحيم (وفيه، ضمن العقوبات الارتجالية المجانية، اللواط بالمقبوض عليهم والسجناء من قِبَل الجنائيين، بإشراف وتشجيع رجال الأمن). ملاحظتان على الفقرة السابقة ١. بمناسبة البصاق، انتهيت مؤخرًا من رواية عراقية منسية وصادمة على كل المستويات، هي «بصقة في وجه الحياة»، ١٩٤٨، (عام النكبة التي سنحتفل قريبا بسبعينيتها، وكل عام وأنت بخير)، بمقدمتها الاعتذارية، ولكن الجميلة والمضيئة تاريخيًا، والطويلة قياسًا إلى حجم الرواية القصيرة، والتي لم تُنشر إلا بعد أن راكم فؤاد التكرلي السمعة الأدبية التي ظنها ستسمح، بعد عقود طويلة، بالنشر. كيف ندافع عن رواية كهذه على أرضية مسألة «الدعوة»؟ كيف نثبت أو ننفي أنها دعوة إلى زنا المحارم على سبيل المثال، ودعك من الإلحاد والعدمية؟ من يحدّد المسافة بين التعبير والدعوة في عمل فني أو فعل أدائي، طالما أن المقال العادي أصبح يمكن التهرب من مضمونه «الواضح» كما رأيت ،بفضل المدافعين والمحللين من «المتعلمين» الحقيقيين غير «الهستيريين»؟ وهل يمكن للدولة منع فيسبوك بسبب مرشِّحات قوس قزح التي يمكن اعتبارها «دعوة» أقوى بكثير؟ ٢. ربما لن تتمكن من فتح الرابط وتنزيل التقرير لأن موقع مراقبة حقوق الإنسان انضم مؤخرًا إلى قائمة طويلة وآخذة في النمو من المواقع المحجوبة، لا أدري إن كانت ستشمل أيضًا الموقع الذي ستنشر عليه هذه الرسالة المفتوحة. سأرسل إليكم على بريدكم نسخة منه، مع نسخة غير مفتوحة من هذه الرسالة. فيما يخص ثانيًا («الليل هيكون طويل») وبعيدًا عن الأم «الغلبانة» المذكورة أعلاه، بل وبعيدًا كذلك عن كون الحملة جزءًا من العملية الأزلية التي لا تتجزأ من الدولة، وهي إدامة حرب الكل ضد الكل، الحرب اليومية؛ الأقليات ضد الأقليات والمحكومين ضد المحكومين، عبر الطبقات والفئات والقوى المتنوعة و«الجنسين»، إلهاءً لها جميعًا عن الحرب معها هي ومن ضمن ذلك «الحرب على الإرهاب»، إحدى الاستلهامات المسموح بها من الغرب وجيوبه الاستعمارية في المنطقة، حيث في الجيوش التي تدمر حياتنا مرارًا مثليون (علنيون الآن تقريبًا) يتحلون مع زملائهم التغايريين بالروح العسكرية، والتفوق العسكري، أكثر من رجالنا، ذكورنا، التغايريين فقط، أو «الطبيعيين» بلغتك القديمة، والمهزومين في كل حروب المائة سنة الأخيرة (وكل عام وأنت بخير بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر المجيد، وإن لم تحب مذكرات لطيفة الزيات و«المبتسرون» لأروى صالح، فراجع مذكرات العسكريين أنفسهم)، بعيدًا عن كل هذا… في ١٨٩٨، اعتلى أوجست بيبل، زعيم الديموقراطية الاجتماعية ، منبر الرايخستاج، الپرلمان الإمپراطوري الألماني، ليقدم عريضة وزّعتها اللجنة الإنسانية العلمية، تطالب بإبطال المادة ١٧٥ سيئة الصيت من قانون العقوبات، والمعروفة بـ«قانون اللواط»، وبدأ يدعو لتبني العريضة وسط عاصفة من الصخب والصخب المضاد، وهي عريضة موقعة منه هو «شخصيًا، وعدد من الزملاء من أحزاب أخرى، إضافة إلى أناس من الدوائر الأدبية والأكاديمية، من فقهاء تشريعيين من أرفع مكانة، من علماء نفس وأخصائيين في علم الأمراض، من خبراء على أعلى مستوى في مجالهم.» إضافة لما جاء في العريضة، وللتحذير من فضيحة كبرى محتملة تتواضع أمامها فضائح من عينة دريفوس، فما الحجة الأساسية التي صدّرها بيبل في معرض تقديمه؟ أن النتيجة التي توصلت إليها اللجنة هي وجود المثلية وبقوة في كل فئات المجتمع وطبقاته وعند أشخاص من كافة مجالات الحياة، وأن الشرطة إذا نفذت القانون فعليًا فلابد للدولة الپروسية من بناء سجنين جديدين لاستيعاب المقبوض عليهم. حجة اقتصادية بالأساس كما نرى. أموال طائلة جديدة من جيب المواطن، الغلبان في حالتنا، على حساب احتياجات أخرى (أهم ربما؟) كما تستلزم إجراءات ستقض مضاجع الجميع في حرب مفتوحة، دون عائد مفهوم على الوطن، ناهيك عن المواطن الذي لعل الأوقع أن من مصلحته ألا توجد «كايرو فستڤال سيتي» من الأساس؛ لا الحفل الذي لا يملك تذكرته ولا العلم الذي لا يفهم معناه، لكي يلبي دعوته لاعتناق الدين الجديد. ووفقًا لمصدر أمني، فإن الحملة تكشف للشرطة أكثر فأكثر أن المثليين المصريين كثيرون جدًا. إنهم لا ينتهون ولا يختفون حتى بعد كل تلك الملاحقات وكل هذا الاضطهاد والتعذيب. لم يتحقق هدف قائد حملة «كوين بوت» الهمام والخاص بتنظيف البلد منهم، ولن يتحقق. «إنت فاكر إن انا وانت بس اللي كدا؟ لا إحنا كتير قوي» كما قال صحفي مصري زميل لك، وإن يكن خياليًا، مبنيًا ربما على شخصية حقيقية كما تقول الإشاعات، والإشاعات في مصر كثيرة ومصدر أساسي للمعلومات التي تُغلق أمامها القنوات الشرعية النظيفة، في الفيلم الشهير المأخوذ عن الرواية الشهيرة، وكلاهما به نَفَس إنساني ملوَّث بحس تجاري تنويري، يتعاطف مع شخص مثلي مثقف وبارز في المجتمع يصطاد الريفيين الوافدين، كما أنه ضحية – حتمًا – لاستغلال جنسي حاسم في الطفولة، على يد خادم نوبي، وإهمال أسري، ومصيره مظلم بالتأكيد. لم تنجح العريضة التاريخية في إبطال القانون. تطلّب الأمر ستة عقود إضافية للاعتراف بالتراضي بين الراشدين، ثم عقدًا آخر لخفض السن الرضائي وعقودًا أخرى لتعميم كل ذلك في ألمانيا الاتحادية، بعد قرن كامل من العريضة. وخلال هذه العقود، جاءت «الحقبة الجميلة» ثم تحطمت أحلامها بقسوة بعيدة الآثار ما زلنا نعانيها وسنعانيها على صخرة الحرب العظمى، عندما هوت الديموقراطية الاجتماعية والاشتراكية، برغم الانشقاقات، في فخ الوطنية (ذكرى أخرى لعلها تنفع المؤمنين، إذ تحل هذا العام مئوية نهاية الحرب، وكل عام وأنت بخير، وشاعر وطني تغايري)، فظهرت الفاشية، وأُحرق الرايخستاج، وجاء هتلر متسلحًا بأشياء، منها خسة الوسط المحافظ والعلم الزائف بسياساته الديوجينية المرعبة وعنصريته وعبادته للقوة، واستباح النازيون، ضمن من استباحوا، المثليين. فر ڤيلهلم رايش من النازية، لكنه نُبذ من جانب رفاقه الشيوعيين ليلقى حتفه في سجن أمريكي، وتلخصت نظريته النفسية في أن الفاشية ظاهرة اجتماعية سياسية تقوم على الكبت والقهر الجنسيين (وهذا في الغرب بالأساس؛ لم يذكر مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلا عرضًا). هناك إشارة لماحة، وإن كانت مشوهة، إلى ذلك، في مشهد تعذيب من فيلم «١٨ يوم»، حيث يقول «المستجوَب» لاثنين من زبانية الشرطة إنهما يفعلان ذلك تعويضًا عن رجولتهما المفقودة. إن قصة رايش، إلى جانب قصص أخرى، تقول لنا إن الغرب ليس من الأصل مثالًا أو غاية في التحرر أو «الثورة الجنسية»، وليس لأسبابك الوهمية التافهة، وهذه أفضل استفادة ممكنة من نظرية جوزيف مسعد النقدية لحركة الميم العربية المرتبطة بالمنظمات غير الحكومية العالمية والغربية، على الأخص في ضوء المحنة الحالية. بعد الحرب الثانية، خرج على الجانب الآخر من الأطلنطي «تقريرا كينزي» الشهيران، عن الجنسانية عند ذكر وأنثى الإنسان على الترتيب، ليضعا المجتمع أمام حقيقته الجنسية التي طال تغييبها؛ حقيقة التنوع وانتشار الرغبات والممارسات المحرمة والمسكوت عنها في أفضل الأحوال عبر طيف جنسي، لا ثنائية قطبية بلهاء تتكون من الطبيعي والشاذ والذكر والأنثى والبارد والساخن. منذئذ تغير التاريخ، وظل يفعل، ببطء ولكن بثقة، وإلى الأمام. ينتهى مثلًا إلى غير رجعة «الخبير» الطبي القانوني الفرنسي صاحب ابتكار الكشف الشرجي الذي ما يزال معمولًا به لدينا، تقليدًا للغرب كما ترى ولكن في نسخته الڤيكتورية التعيسة من القرن الـ١٩. (اقرأ الجزء الأول من تاريخ فوكو للجنس في الغرب). صدقني، الأمور تتغير، وستتغير، ولو بعد حين، وعاجلًا أم آجلًا يتبين من كان على الجانب الصحيح والنظيف من التاريخ. أنت تتحدث عن سياسيين مثليين علنًا في أوروپا التي لا يجوز لنا تقليدها. كانت هناك حملة على المثليين في إنجلترا منذ بضعة عقود فقط. حتى وقت أقرب بكثير كان من حق الشرطة الأمريكية توقيف امرأة أو رجل، ترتدي أو يرتدي، أقل من ثلاث قطع بالضبط من الملابس الملائمة لنوعه! (في إحدى تلك المرات انتفض المثليون وأذاقوا الشرطة الويل، ولاحقًا انتُخب منهم سياسي مثلي علنًا، ولاحقًا اغتيل، ولكن لم تحقق الحركة سوى الانتصار تلو الآخر، بما في ذلك التشبيك مع نضالات غيرها). استمرت المقصلة في فرنسا إلى عام ١٩٧١، وكان آخر رؤوسها المقطوعة لجزائري. عقوبة الإعدام تصبح اليوم شيئًا فشيئًا من الماضي. وسنرى ذات يوم أحكام الإعدام بالجملة في مصر في ضوء جديد (بعضنا بدأ يراها بالفعل). وهكذا، وفي مواجهة الحملة الشرسة الحالية، وبرغم خروج بيان هزيل مخجل من حزب يساري مثل «العيش والحرية»، يطالب بالإفراج عن عضوته سارة حجازي ليس إلا، ودون أي سياق، مراعاة لأعضائه الحاليين والمحتملين من المصابين برهاب المثلية بالطبع، يأتي بيان الاشتراكيين الثوريين (موقعهم محجوب أيضًا)، وهو تيار طالما تمسك بجمود ماركسي يستبعد نضال النوع والعرق ويعتبر النسوية وحركة تحرر الميم تشويشًا على النضال الطبقي وتحريفًا وتفتيتًا له (بل إن بعض الماركسيين في العالم تناولوا المثلية كمرض بورجوازي)، ليعلن صراحة أن «الجرائم الجنسية التي يجب أن يحاسَب مرتكبوها بكل حسم» لا تشمل المثلية ورفع العلم، وإنما «هي كشوف العذرية، والتحرش الجماعي، والانتهاكات الجنسية في السجون وأماكن الاحتجاز، وإكراه النساء على العمل في تجارة الجنس، والختان». لعلك سمعت عن هذه الأشياء، لكن الجريمة الأخيرة، بلا شك، مما تنفتح له، دون سواه، شهية التنويريين أمثالك منذ مؤتمرات السيدة الفاضلة سوزان مبارك. حدث ذلك بفضل تطور نوعي في السنوات الأخيرة، فأصبح لدينا مشهد نسوي (جذري أحيانًا)، لا مجرد خطاب نخبوي ترعاه هوانم الحزب الوطني، عن حقوق المرأة، ودخلت معه التقاطعية إلى المعركة ضرورة توحيد النضالات الطبقية والعرقية والجنوسية والثقافية؛ استحالة تطوير أحدها دون الآخر؛ الضرر غير المباشر الواقع على أي جماعة إثنية مضطهدة مثلًا كلما سهُل على الدولة أو المجتمع اضطهاد فئة بناء على ميولها الجنسية أو معتقداتها الدينية. سيكون من العبث أن أفكر الآن في توحيد جهود النوبيين، الذين يحتجون على مظالمهم التاريخية ويُضرَبون بالغاز ويُعتقلون هذه الأيام، مع جهود المثليين، أو الأقباط، أو البدو، أو المعارضين من أي تيار. فالنوبيون مثل أغلبنا إما معميون عن مصالحهم، أو بها، وكغيرهم من أبناء الوطن، الذي يسعنا جميعًا إلخ، مصابون برهاب المثلية، وكغيرهم طائفيون، بل وكغيرهم عنصريون. كل هذا بالطبع رد فعل بالأساس – ضمن ما يسمى بـ«التذويت»؛ تمثُّل الظلم وإعادة إنتاجه – على ما واجههم هم من طائفية وعنصرية وطبقية. كما سيكون من العبث مساواة التمييز الأصلي برد الفعل التمييزي؛ الصهيونية مثلًا بمعاداة السامية بين الفلسطينيين؛ الذكورية بكراهية الرجال بين النساء والنسويات، الاستعمارية القديمة والجديدة بمعاداة الغرب، الطبقية والاستغلال بالحقد على الأغنياء، وأشد أشكاله خسة هو الانتقام ذو الصبغة الطبقية من شباب في طبقة، يُشتبه في كونها أعلى ومتمتعة بالمزايا، عندما يتصادف أنهم مثليون، بدلًا من رفض التفاوت الطبقي الرهيب بنقد ومواجهة المؤسسة العسكرية التي فرّخت ورعت طبقات استغلالية ولصوصية قديمة وجديدة عبر عصورها المظلمة، في هزائمها السياسية والحربية المتتالية، وانتصاراتها الحصرية علينا. لكنني أعرف أن بيان الاشتراكيين الثوريين كان ضربًا من الخيال منذ سنوات قليلة. بالمناسبة، ذكِّرنا؛ هل كتبت عن المظالم المشار إليها أعلاه أو غيرها، أم أنك اكتشفت حديثا الظلم الواقع على المواطن الغلبان من قِبَل معجبي مشروع ليلى–بعض أهم ما يحدث في الموسيقى العربية حاليًا؟ في ظروف أخرى كنت سأحب أن أناقش معك أيضًا إنجازهم اللغوي، الذي لن تفهمه أو تتذوقه، في الألبوم الأخير، وكيف تتردد فيه ثيمات «الموت» و«الأساطير» و«الجسد»، ليذكرنا بحملة شرسة قديمة متجددة على نوع موسيقي «شيطاني»، اتخذت أبعادًا طبقية، وانضمت مثل كوين بوت من بعدها إلى سجل إنجازات الرئيس مبارك الأخلاقية، وهو مجرد فاصل في الاضطهاد الثقافي الذي لا نعرف لأمثالك من التنويريين دورًا في مواجهته سوى الصمت والتخاذل، إن لم يكن الاستياء (بشجاعة!) من صمت الدولة وتخاذلها، وهذا بعيدًا عن قصقصة وإخصاء الخيال وإصابة الفكر والبحث العلمي بالضمور، إن لم يكن في مقتل، طالما أنك تتباكى اليوم – ويا لها من دموع زائفة مقززة – على «ما تبقى» من قيم، في بلد «إسلامي» يُذبح فيه البعض وينكَّل بهم لأنهم مسلمون أكثر من اللازم، وآخرون لأنهم خرجوا من «الكنيسة» أكثر من اللازم، واعتقدوا أنهم مواطنون أكثر من اللازم، على يد السلطة أولًا وأخيًرا، لا الأشباح المجردة التي «تكتب» عنها. أحتج عليك كارهًا بفصول من تاريخ الغرب، لأن الفيصل بيننا، أي تاريخ المثلية والجنسانية عمومًا في مصر، لم يُكتب حتى الآن. هناك مسلسل كوميدي رمضاني عن دستوپيا مصرية في المستقبل ننقسم فيها على نحو فانتازي إلى جيش رجال وجيش نساء، يستخدم الأول زيت الكافور، أو الخروع، الذي نسمع عنه كثيرًا ضمن الإشاعات، لتثبيط مشاعره الجنسية ( نحو الجنس الآخر؟ ربما.) لكن قوانين جيش محمد علي لمكافحة المثلية بين الجنود تصاعدت في شدتها عبر السنوات على نحو دالّ يشي بعدم فعاليتها، على الأقل ليس بما يكفي. تاريخ آخر يدعونا لاستكمال كتابته، هو تاريخ الجناح الثقافي لليمين المصري (راجع إصدارًا آخر من «مكتبة الأسرة» ما بعد الثورة «من الأرشيف السري للثقافة المصرية» لغالي شكري). أما المثقفون الأفارقة والهنود ما بعد الكولونياليين بأجيالهم، فأصبحوا يؤكدون دور الاستعمار – الذي تخلصت بلدانه الأم اليوم من تخلفها بقدر كبير – في إلحاق التخلف الجنسي أيضًا بهم هم ليرزحوا تحته حتى الآن؛ كيف أن النوع الثالث في الهند لم يكن محترمًا فقط، وإنما مقدسًا أيضًا، حتى جرّمه ووصمه حكم إنجليزي استعماري. ولم يعترف القانون في الهند بهم من جديد إلا مؤخرًا فقط (الهند التي شهدت مثلنا موجة مخيفة من الاعتداءات الجنسية الإجرامية بالغة العنف على النساء)، وكيف كانت المثلية مقبولة اجتماعيًا في أفريقيا حتى جاء جزارو ونهابو أوروپا ليعلّموا الزنوج الحضارة والدين. ونحن أيضًا ما زلنا لم نستقل حقًا، لكي نحاسب الاستعمار على ما فعله. كنت سأحب أن أناقش معك كيف أنني شخصيًا – وبعد كل هذا – لديّ تحفظاتي على رفع العلم، وليس لأنني أكره الأعلام عمومًا، ولكن لأسباب يمنعني من الخوض فيها أن أجواء النقاش الساخنة المنحطة (وهي متصلة بالظروف الفكرية المتخلفة التي أفرزتك) غير مشجعة، وثانيًا لأن هذا لم يعد نقاشًا من أي نوع؛ أثناء كتابة هذه السطور هناك شباب وشابات يتعرضون ويتعرضن لصنوف من الهوان والعذاب لا يتخيل أكثرنا تعاطفًا وتضامنًا مدى تدميريتها، لمجرد أن بعضهم (اثنان فقط من جملة ٥٨، وفقًا لآخر الأرقام الآخذة في الازدياد) قرر في لحظة رغبة يائسة في التنفس ونشوة انتصار زائف ورعونة – ظنًا منهم ربما بأنهم محميون من قِبَل الطبقية والبورجوازية المصرية التابعة الممسوخة، وحامد سنو المحمي نسبيًا قياسًا إلى المثليين المصريين «الغلابة» – رفْع راية التنوع والتسامح والحب والاعتزاز بالنفس، في زمن مشاريع تعمير الصحراء بالمعتقلات والمذابح الوطنية والأسلحة الكورية الشمالية وسرقة آخر آخر آخر أموال الغلابة. اليوم، وكما قال إدوارد سعيد، فإن «النزعة الإنسانية هي المقاومة الوحيدة التي لدينا – وسأتمادى لأقول النهائية – ضد الممارسات وأشكال الظلم اللاإنسانية التي تشوه صورة التاريخ البشري.» ولكن، وإلى ذلك الحين، فإني أتهمك، أنت ومعاصريك وسابقيك، من المثقفين المصريين «الكبار»، الحقيقيين منهم والزائفين، بأنكم لم تخذلونا جميعا كشعب فقط، وإنما ساهمتم بفعالية في تسليمنا إلى هذا المستقبل البشع، حيث لا كرامة لإنسان، ولا قيمة للعقل، ولا حرية لمشاعر، ولا أمل قريبًا في ثورة. وكل أملنا أن نتجاوزكم ونتجاوزه. من إميل زولا والطبيعيين إلى الطبيعيين الجدد… آسف لأنني أرهقتك بدعوتك إلى محاولة التفكير والتأمل والقراءة. فأنت رجل «كبير». و«الكتابة» أسهل من كل ذلك، وكلها مكاسب. روابط لأستاذ فاروق جويدة إسكندر معلوف «احتفالية للشواذ» «لا حرية للشواذ» الأخبار القادمة من الهند «الكلام» («الحل البرازيلي») «وعكسه») دفاع خليل كلفت عن نصار عبد الله عن الجانب الحميد في الإنكار «عبد الناصر وطياروه المرتزقة» خمسينية النكسة (مقالات خالد فهمي) تقرير كوين بوت الوطن المصدر الأمني (بالإنجليزية) بيان عمادة الأطباء في تونس بخصوص الكشف الشرجي بيان العيش والحرية بيان الاشتراكيين الثوريين كيف بتبيعني للرومان؟ سنة حلوة يا جميل والليل هيكون طويل والموت والأساطير والجسد وأشياء أخرى «عبدة الشيطان» وفصول أخرى من القمع الموسيقي الثقافي في مصر «مقتل جوليو ريجيني ومأساة البحث العلمي في مصر» تحليل زينب أبو المجد (بالإنجليزية) لسياسات المؤسسة العسكرية و«ثورة الفقراء القادمة في مصر» «إني رأيت أفضل عقول جيل الستينات وقد دمرها الجنون»
حول قضية زياد دويري أين وصلت السياسة في لبنان؟ هلال شومان ١٤ سبتمبر ٢٠١٧ دائمًا ما أتناقش مع أصدقائي الفلسطينيين في تفاصيل ماهية التطبيع. بيننا «أخذ وعطا». نتحدَّث في مدى «موضعية» حركة الـBDS التي تقارب اللا سياسة، وفي ضرورة وجودها في الوقت عينه. يخبرونني عن أزمات فلسطينيي الداخل وعن توقهم لزيارة بيروت. يفيض آخرون منهم عن كون أزمات فلسطينيي الداخل أزمات «كماليات» قبالة الخنق اليومي للحياة في غزة. نتكلَّم في مدى كون الثقافة نفسها واحدة من الكماليات أو في كونها فعلًا يخوض في الممنوع ضمنيًا ويدفع تجاه ما ليس متاحًا. يتطرقون للتنسيق الأمني. أخبرهم عن عدم فهمي لسبب وسم مهرجان ثقافي في فلسطين بـ«التطبيع»، في مقابل السكوت عن مهرجان آخر. نتحدَّث عن استخفافنا بالأعمال التي يصفها صناعها بـ«الانسانية»، متخففين من لفظ «السياسة»، وعن كرهنا للأعمال التي تدعي التسيّس، بينما هي خطاب ما بعد حدثي واعظ وآمن حفظناه بتكرار الأحداث. قبل الخوض في حديث التطبيع «اللبناني»، يجب إيضاح بضعة أمور. اتَّجه لبنان نحو اللا سياسة منذ زمن. ضمرت السياسة في الـ١٢ عامًا الماضية على دفعات. في لبنان، المسألة مقلوبة. السعي لوجود دولة هدفه استعادة السياسة وإخراجها من منطقها العصابي. وهو سعي إن توقَّف عند الحد الذي توقًّف عنده مع نهاية الحرب الأهلية (أي إيقاف النقاش الفعلي عن هوية البلد وعدم الخوض في نقاش ماهية الأمة الشعب اللبنانيين)، فسينتهي إلى ما انتهت إليه الدولة حاليًا تجمعاتٍ لتوافقات عائلية وحزبية ومذهبية ومصرفية تتفاوت بحسب ميزان القوى ومع قوة منع طاغية يحوزها حزب مسلح. عوضًا عن النقاش المؤسِّس عن الهوية الجامعة، تُستحضر مزاجات وطنية مع كل فاجعة تتسبب بها ميليشيا من ميليشيات تحالف الحكم، ثمَّ يتمدد المزاج إعلاميًا وشعبيًا بشكل يقبض القلب، أولًا لأن المزاج المفروض يفتقد للأصالة، وثانيًا لأنها علامة إضافية على مزاج النكران الطاغي لماهية توازن الحكم، وثالثًا لأن هذا المزاج يتَّسم بعنف كامن وهستيريا عنفية (ولو كلامية) لا معقولة. لذا ينتهي الأمر في لبنان، لأن يصير الخطاب الميليشياوي رافعةً للخطاب الوطني، ولأن يبدوَ أكثر الخطابات تماسكًا. لهذا لم يكن مستغربًا أن تقف كل الميليشيات و«شعوبها» ومثقفيها وصحافييها قبالة حركات صغيرة مضيئة، مثل مظاهرات «النفايات» أو خوض مدنيين لتجربة الانتخابات البلدية، إما بالتخوين أو بالهزء أو بالاصطفاف والتحالف المواجه. في لحظة حدثية واحدة، وعند أول احتكاك فعلي لهذه الحركات بالسياسة، أمكن للمنظومة أن تصطف في نمط عصابي واحد، وأن تهضم الحدث. في لبنان، يمكن لعضو مؤسِّس في حملة المقاطعة أن يتهم، هو والحملة، كاتبًا مشهورًا بكونه أحد أبرز مرسيي السرديات الفلسطينية الروائية، بـ«التطبيع»، وأن تبقى دار النشر التابعة لعائلة العضو تنشر للكاتب رواياته في نفس الوقت. يمكن للعضو المؤسِّس نفسه «تخفيف» حدة اتهامه لإدوارد سعيد (مقارنة بمتهمين آخرين) بـ«التطبيع»، لتعاونه مع موسيقي إسرائيلي، وأن تبقى الدار، بالطبع، تنشر كتبًا لسعيد. أما الصحف، فأين نبدأ من الصحف؟ من واقعة تقلُّب صفحة ثقافية بين اتهام سينمائيين مصريين بالتطبيع في مهرجان كندي، وبين إسباغ الوطنية عليهم بعد يوم أو يومين؟ أو من كون العمالة حصرية لرئيس تيار سياسي، بينما يُطنَب المديح لوزير إعلام من التيار السياسي نفسه، بوصفه منقذًا للصحافة الورقية، فقط لأنه يقترح أن تدفع الحكومة ٥٠٠ ليرة لبنانية عن كل عدد ورقي للصحف اللبنانية؟ من واقعة قرار رئيس تحرير الصحيفة أن محمود درويش «مزق تاريخه»، وطلبه منه مواصلة اللحاق بالصبايا اللواتي لم يحصل عليهن، فقط لأنه قرر الذهاب إلى حيفا؟ من أين نبدأ؟ هذا مدخل بسيط يشرح كيف تخرِّب مجموعات ثقافية وصحافية، بشكل مؤسساتي، الثقافة، عبر اعتمادها الخطاب الوطني النفعي. هذا المدخل ليس تهربًا من النقاش، ولا هو مقدمة للدفاع عن زياد دويري، المخرج حامل الجنسيتين اللبنانية والفرنسية، والذي صودر جوازا سفره في مطار بيروت ليوم، بعد عودته من مهرجان البندقية حيث عرض فيلمه الجديد «قضية رقم ٢٣»، واستُدعيَ للمحكمة العسكرية، وأُفرِج عنه. لقد قيل كل ما يجب قوله، قانونًا وأخلاقيًا وفنيًا وسياسيًا، خلال السنوات الماضية، عن ذهاب المخرج لتل أبيب وإقامته فيها، وتصوير فيلمه السابق «الصدمة» عام ٢٠١١ مع طاقم عمل فلسطيني إسرائيلي مشترك. كُتِب أيضًا الكثير عن مضمون فيلمه السابق، أو في الردّ على المتوازية اللا معقولة للفن والسياسة، ويبدو أن المخرج يحسن صنع الأفلام أكثر من الكلام أو تبرير أفعاله. لكنَّ استدعاء القضية والنقاش الآن بمثابة تنمُّر غير مفهوم سيخمد بفعل توازنات سياسية مصرفية يحتمي بها المخرج نفسه. كلما فُتِح موضوع التطبيع أفكِّر في الأسئلة التالية ١ هل تخدم مقاطعة هذا العمل فلسطين والفلسطينيين؟ ٢ هل أكون، بإعلاني لموقفي، جزءًا من حملة سياسية محلية، أكثر من كوني مفيدًا للقضية الفلسطينية؟ ٣ هل أشارك بموقفي هذا في الدفع نحو إقصاء أو عنف عصابي يسهل حدوثه أصلًا في لبنان؟ ٤ هل يفتح العمل محل المقاطعة الباب أمام سابقة يمكن تكريسها بالتتابع، وتضر بالقضية الفلسطينية؟ ٥ ما جدوى مقاطعة الأعمال التي تمكن مشاهدتها على الانترنت؟ ٦ هل يندرج العمل محل المقاطعة ضمن سياق مؤسساتي ثقافي مالي لتطبيع وجود «إسرائيل»؟ تتفاوت الإجابات عندي في كل مرة، ويختلف الموقف باختلاف السياق. لكني، ورغم تفاوت إجاباتي، أشعر بوجوب ضبط النفس وعدم الركون لموقف عنفي لفظي أو إقصائي من جهة، وعدم الانزلاق إلى ذلك الاستقطاب الذي يستسهله لبنانيون في الضفة المواجهة لحملة المقاطعة، عبر كلامهم عن تحضُّر «إسرائيل»، وعن «عزل الفن عن السياسة» وعن « خلصونا بقى!». ما أفكِّر فيه أولًا هو أصدقائي الفلسطينيون، ولا يعنيني الخطاب الوطني في لبنان ولا الخطاب المواجه. أمّا ما حدث مع قضية زياد دويري، فهو أنه جرى القفز من فعل المقاطعة، للمطالبة بالمحاسبة، للدفع نحو المنع الضمني لعمل فني جديد، لاحتجاز مؤقت لشخص بعد خمس سنوات من الفعل الأساسي، عبر مناشدة السلطات الأمنية، ومن ثمَّ توجيه التحيات لهم، وإعلان الانتصار. والمطلوب؟ اعتذار! كل هذه «الهمروجة الصحافية» كانت من أجل اعتذار. أي مشاهد للأخبار اليومية في لبنان، يمكنه إدراك مدى سماجة مثل هذا الطلب. غريب أن تُبنى حملة مقاطعة دعمًا لفلسطين على توجيه مناشدات وتحيَّات للسلطات الأمنية، ومستهجَن أن تلعب الصحافة اللبنانية دور «المخبر الأمني» تحت عناوين مثل «المحاسبة» و«الخطاب الوطني». أما فيلم دويري الجديد، والذي زُجَّ به بعد أشهر من الأخبار عن صناعته في هذا الصراع المستعاد، فيبدو أنَّه جزء من صراع سياسي داخلي، سواء عبر موضوعه أو عبر تمويله المصرفي (القواتي). رغم كل ذلك، يبقى مكان الفيلم الصالات، ويبقى مكان النقد (لا الإخبارات الأمنية) الصحف. ويمكن بعد المشاهدة تحديد إن كان الفيلم الجديد هو خطوة ثانية في مسار «سياسي» بدأه صاحب «ويست بيروت» مع فيلم «الصدمة» قبل سنوات، أم أنَّ ما شهدناه في الأيام الماضية كان محض نكايات على الطريقة اللبنانية المعتادة. يبقى سؤالان أساسيان في ما حدث أين صارت السياسة في لبنان؟ وهل هذا بالفعل ما تبقى من الصحافة اللبنانية؟
مسرحية أجازتها الدولة تختزل تاريخ الإسلام في «الحرب على الكفار» روزالين البيه ٢ أغسطس ٢٠١٧ كتيبة من الرجال المرتدين عمائم بيضاء يصطفون على شكل رقم سبعة، بوجوه خاشعة، يعضون على نواجذهم، يحمل قائدهم ذو اللحية المستعارة والصدرية الجلدية سيفًا معقوفًا بطول طفل صغير ليرفعه فوق رأسه، ويحذو جنوده حذوه، فتنعقف السيوف في الهواء كابتسامات مشوهة. وفي خلفية خشبة المسرح تطل ظلال مجموعة من التماثيل ترمز لمقدسات المشركين الموشكين على الهلاك؛ بوذا، وملك فرعوني وإلهة آشورية، وقد جُمع أتباعهم بعيدًا عن الأنظار، بعد أن حكم عليهم بالذبح. ومن حولنا ينبعث لحن يتصاعد إلى هتاف «الآن سيلقى الكفار حتفهم بمشيئة الله، وبنعمة الإسلام والإيمان». لعلك ظننت أني أصف جزءًا من سلسلة أفلام داعش الرسمية، لكنه ليس كذلك، ولا هو حتى عرض بانتومايم في قبو شخص يصرّح بكراهيته للإسلام، وإنما مشهد معركة احتفالي قُدّم في عرض أجازه ممثل لوزارة الثقافة وحضره أيضًا، بهدف إعادة تقديم حياة الرسول وسعيه لنشر الإيمان. *** لا أسعى هنا لنقد الجوانب الفنية للمسرحية، التي أخذت عنوان «محمد صلى الله عليه وسلم» وافتتحت يوم ٧ يونيو في مسرح البالون الحكومي، وكتبها جمال ياقوت وأخرجها الشاب المجتهد سامح بسيوني، حيثُ يمكن إفراد مقال كامل عن خلل الميكروفونات وقطع الديكور المصنوعة من الفوم، والتشتيت الذي سبّبه خفاشٌ أخذ يخفق بجناحيه طوال الليلة بين خشبة المسرح وآخر القاعة. أي شخص شاهد عملًا عن سير الأشخاص، فضلًا عمن حاول كتابة عمل كذلك، يعرف أن هذا المسعى ملغّم بالاختيارات، بين ما نبرزه وما نغفله وما نمر عليه سريعًا. لكن مسرحية «محمد صلى الله عليه وسلم» لم تختر التركيز على أيام الإسلام الأولى والأوجه الفلسفية التي ألهمت الأتباع الأوائل، ولا الرحلة الشخصية المثيرة للرسول، بل اختارت سفك الدماء؛ وخصوصًا في النزاع مع مشركي مكة من قبيلة قريش قبل اعتناقهم الجماعي للدين بحد السيف في عام ٦٣٠. تصوّر القصة سلسلة من البطولات القصيرة، فيما يشكّل إطارًا لحرب وُصفت تكرارًا بأنها «حرب مبررة ومقدسة». يقال بلا مواربة إن الله هو من يوجه أذرع جنود محمد، في حين يلعب دور ضحاياهم من المشركين ممثلون بلحىً هزلية يقذفون بالسباب ويلوحون بأيديهم مقهقهين على مؤامراتهم الشائنة، على غرار شخصية دراكولا الشريرة في الأفلام الصامتة. وكأن كوابيس إدوارد سعيد تتحقق هنا، نرى استشراقًا محليًا وغاشمًا، فحقائق تلك المعارك المؤسفة لا تُعرض بوصفها محاولات متصاعدة وعاثرة للنجاة في مواجهة القمع، أو نتيجة لسياق تاريخي معقد، أو إهدار مؤسف للأرواح، فهذا ليس صراعًا بين مجموعتين متحققتين، بل حرب بين «نحن» و«الآخر»، بين «المؤمنين» وشخصيات كارتونية منزوعة الإنسانية. لا يسعني إحصاء كم مرة ذُكرت فيها كلمة «كفار» على مدار ثمانين دقيقة مضنية من مدة العرض، فقد توقفت عن العد. والمجموعة المسيحية الوحيدة التي مُثلت بصورة إيجابية كانت المجموعة التي ظنت أن محمد هو المسيح المنتظر، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك حل وسط مقبول. من يقاوم من قريش يتعرض إلى اختزال منهجي، أما الكفار الذين يدركون خطأ أفعالهم ويوافقون على اعتناق الدين فتُمنح لهم المغفرة برحابة صدر. وقبل إسدال الستار بثلاث دقائق، تحاول البطلة فردوس عبد الحميد التصديق على ما لم نلمسه في المسرحية، بقولها إن «الإسلام دين السلام وليس أداة الإرهابيين». ماذا لو كان عرضًا عن الحملات الصليبية؟ غالبًا ما تكون المقارنات الافتراضية الفجة قاصرة وسخيفة، لكنها هنا قد تفي بالمقصد؛ تخيل أنك تحضر عرضًا عن انتصارات الحملات الصليبية، مدته ساعة ونصف، ومتخم بجنود يرتدون دروعًا لامعة يُجهزون على «الوثنيين» الأشرار، بينما يصدح كورال سماوي مادحًا تنفيذهم لمشيئة الرب؛ ثم في اللحظات الأخيرة، يتنحى البطل بعيدًا عن كومة جثث المهرطقين الهامدة متوسطًا المسرح، ليذكّرنا بأن «المسيحية دين الخير وحب الجار». أي شخص يجلس بين المشاهدين سيضحك من المفارقة، أو هكذا أتمنى، كما سيشعر بالغضب في الوقت نفسه تجاه الرسالة المتناقضة، خاصة بالطبع إذا كان من خلفية غير مسيحية، ولكن كذلك من أتى من تراث مسيحي؛ بسبب اختزال تاريخه في أكثر اللحظات المؤسفة، بتأويل بالغ الخطأ لما يكنّ له من إعجاب في معتقده. والآن، ما العمل إذا لم يكن هذا العرض الصليبي لأحد أولئك البيض المتعصبين في قبو منزله، بل عرض أجازته ودقّقت فيه جهة رقابية شديدة الصرامة تحبس الكتّاب وصناع الأفلام بتهمة «خدش الحياء»؟ ما العمل إذا أشاد بالعرض أحد كبار ممثلي المركز الثقافي القومي، والذي سارع بتهنئة الممثلين والمخرج علنًا بانضمامه إليهم على المسرح بعد إسدال الستار؟ ما الدرس الذي يتحرّق العرض لإعطائه لنا؟ بالتأكيد ثمة درس في عرض «محمد صلى الله عليه وسلم»، فالممثلون الذين يلعبون أدوار أتباع الرسول، يعظون بشكل صريح وبأصوات متهدجة، ويكسرون حاجز الإيهام بمخاطبة الجمهور الذي أبقوه على المقاعد بلا استراحة في منتصف العرض. كيف يُكتب التاريخ؟ تصنف مسرحية «محمد صلى الله عليه وسلم» نفسها بوصفها عرضًا تأريخيًا للأحداث، ما يضعها في خانة «الموضوع السياسي». التاريخ متحول، ومتغير؛ سواء لدى إعادة كتابته بالواقع على يد الرومان، أو حكام كوريا الشمالية الحاليين مثلًا، أو لدى عرضه متخيلًا في رواية «١٩٨٤» لجورج أورويل. في مقولته الشهيرة أكد ونستون تشرشيل على أن التاريخ سيترفق به لأنه هو من ينوي كتابته. يبدو التاريخ للقاهر مختلفًا عما يبدو للمقهور، وللمنتصر مختلفًا عن المهزوم. غالبًا ما يحدد الأول النسخة الرسمية التي تُمرَّر كحقيقة ثابتة في ظل السلطوية، ويُنسب أي دليل مغاير إلى الخيال الروائي، أو إلى الفصائل المناهِضة في بعض الحالات. تخللت آثار هذا التسييس نسيج نظام التعليم الحكومي المصري منذ عهد محمد علي، مرورًا ببدايات القرن العشرين، حين قرر اللورد كرومر عدم تدريس التاريخ المصري، سواء القديم أو الحديث، لفئات الشعب الدنيا، ما دفع الوطنيين لمهاجمة غيابها عن المنهج، مدركين أن تلك أداة الاستعمار للإخضاع. «من يتحكم في الماضي، يتحكم في المستقبل»، كما ارتأت وزارة الحقيقة في رواية «١٩٨٤». الماضي يطرح سابقة تاريخية، ووقودًا وإلهامًا، محولًا مقولة «لا يمكن لهذا أن يحدث هنا» إلى «ولم لا؟ لقد فعلوها من قبل». لذلك يخشى المحتل الماضي، ففي حين تُقدَّس الشخصيات المنصاعة تاريخيًا، تتعرض الثورات وحركات التمرد السابقة، في معظم الأحيان، للسخرية أو الشيطنة من قبل الدولة، ولنتأمل محاولتها محو ثورة يناير من المناهج الدراسية حديثاً، قبل تراجعها سريعًا بسبب الاحتجاجات. الحرب وجه هام من أوجه رواية الإسلام، شأنها شأن العديد من المعتقدات. ينبغي عدم إغفالها، بالضبط كما ينبغي إخضاع سائر الجوانب المؤلمة للماضي للتحري المستمر. ولستُ وحدي من يرى ذلك، فالصراع من أجل قبول التناقض في تاريخنا هو صراع عالمي ومستمر. في عام ١٩٩٢ قدّم البابا جون الثاني، اعتذارًا تأخر ٣٥٠ عامًا، عن تعذيب جاليليو على يد محاكم التفتيش الرومانية الكاثوليكية. ومنذ عام ٢٠١٢ أتيح لنا التجول في آثار المكتبات والحجرات الخاصة بتوماس جيفرسون، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والتي كان يحتفظ فيها بعبيده الكثر في مونتيتشيلو. وهناك العديد من المدن الألمانية التي احتفظت عن عمد ببقايا ذكرى الهولوكوست، وعلى رأسها النصب الضخم الذي يفطر القلوب والواقع مباشرة أمام مبنى البرلمان النازي. ندمنا لا يُصلِح ولن يُصلح من الأمر شيئًا، لكنه يواجه ويغذي الحوار، الذي قد يكون طريقة للتعويض، على أمل خلق وعي يحول دون التكرار، وقد يثني الأجيال المستقبلية عن اقتراف نفس الفظائع مجددًا من خلال تدريبهم على رؤيتها على حقيقتها. عناصر دونًا عن الأخرى بإعادة تحصين مبادئ الشريعة الإسلامية في دستور ٢٠١٤، بوصفها مصدرًا رئيسيًا للتشريع، صدّقت الحكومة المصرية على أن التراث الإسلامي هو «تراثنا» الجمعي، مهمشة تراثنا المسيحي واليهودي وتراث آخرين لا تعترف بهم. ويطرح هذا تساؤلًا ملحًا ما هي الطبيعة الحقة لهذا التراث الإسلامي كما تراها الحكومة؟ ما الذي تحث الحكومة سبعين مليون مسلمًا على تقديره في أسلافهم، والذين يملكون جوانب عدة تستحق التقدير؟ هل حاولتْ حثّهم على البحث في الأشعار البديعة وذائعة الصيت التي كتبتها ولادة بنت المستكفي بنت الخليفة، وهي تجوب الشوارع كاشفة شعرها ومرتدية عباءة مطرزة بأبيات الشعر، أو التنقيب في مخطوطات «أبو القاسم العراقي»، الذي عكف على فك شفرة الهيروغليفية المصرية قبل ٥٠٠ عامًا من اكتشاف حجر رشيد، أو القصة الغرامية المصورة عن «بياض ورياض» في العصور الوسطى؟ كيف ترى مسرحية «محمد صلى الله عليه وسلم» التي أجازتها الحكومة مسألة ذبح «الكفار»؟ الإجابة واضحة ومرعبة، وهي ليست بمعزل عما رأيته مساء يوم الاثنين في القاعة المقببة، حين أخذ الخفاش الحبيس بالاصطدام بالحائط مرة تلو الأخرى، وتعلق نظري بالممثل الأسمر الوحيد بالفرقة وهو يقف على خشبة المسرح لا يرتدي شيئًا سوى قطعة من جلد الفهد، ممسكًا بيده رمحًا من الورق المعجن (ويمكننا إفراد مقال آخر كذلك عن العنصرية في الإعلام المصري؛ ونكتفي هنا بالقول إنها موجودة وبقوة). فردوس عبد الحميد تدين العنف لا أظن أن الفرقة المسرحية وطاقم عمل «محمد صلى الله عليه وسلم»، يدعون عمدًا إلى العنف. بل لعلهم يأملون في إعفاء المسرحية من هذه المسؤولية، عبر نبذ فردوس عبد الحميد للإرهاب في اللحظات الأخيرة، بتلك الأسطر الحماسية المضافة للغرض في المراحل الأخيرة حسبما أخبرني أحد الممثلين. لكنه مع الأسف لا يعفيها ولا يعفي رعاتها. فبعد ساعة من الاستعراض البصري الذي يقترح ما يخالف ذلك، تأتي الدعوة العكسية عابرة وغير مقصودة وبشكل مدعٍ، دافعة بعض الجمهور للتهليل، والبعض الآخر للضحك بصوتٍ عالٍ. المسرح جزء من تراثنا الشفوي الممتد منذ قرون؛ من خلاله روينا قصصنا وأساطيرنا المؤسسة، وحافظنا عليها. أما إذا تحدثنا بصراحة عن مسرحية «محمد صلى الله عليه وسلم»، التي يُفترض أنها لا تخرق حدود اللياقة حسب الجهة الرقابية، فإننا نجدها مسرحية يُمجَّد فيها العنف ضد من يختلف «معنا»، وليس ذلك وحسب، بل ومع توقع تلقي الاستحسان أيضًا. عيّنت الحكومة المصرية نفسها بطلًا في حربها المعلنة على الإرهاب، وألقت باللوم في الهجمات على الفتاوى المصدَرة خارج إشرافها، واستخدمت تفويض الشعب لإغلاق المنظمات غير الحكومية، وكبت حريات الصحافة، وقصف ليبيا وحتى مواطنيها في سيناء. لكن النص الذي يتغاضى عن نفس أعمال القتل الذي يدعي إدانتها، يساهم في نبذ غير المُذعنين، ويلوي «روايتنا» لتصير صرحًا قائمًا بذاته من البروباجندا المخيفة، والمؤداة على مرأى ومسمع منا، في قلب العاصمة، في بلد بتاريخ مخزٍ من الجرائم الطائفية، وكل ذلك بموافقة الوزارة. من يتحكم في الماضي يتحكم في المستقبل، وعرض كهذا ينبغي أن يثير قلقنا جميعًا. ترجمة أميرة المصري
قارن إدوارد سعيد مع:
شارك صفحة إدوارد سعيد على