الرئيس التاريخيّ ميشال عون حسم النقاش (بقلم جورج عبيد)

حوالي ٥ سنوات فى تيار

بقلم جورج عبيد -
بعد الثقة التي نالتها الحكومة من المجلس النيابيّ، آن الوقت لوثبات ومقاربات جريئة فيما خصّ علاقة لبنان بمحيطه العريّ المشرقيّ والخليجيّ. لا أحد يفهم لماذا يرفض بعض الأفرقاء مقاربات واقعيّة وموضوعيّة تقيم لبنان في مدى جديد تاق له في الأصل، ولا بدّ، وبحسب التسلسل المنطقيّ للأحداث والتطورات يتأثيراتها ومؤثراتها من أن يتجه إليه عاجلاً أو جلاً، وأن يتسربله وشاح نور يؤمّن له استقراره ومن ثمّ ازدهاره.
قد تفرض الخصوصيّة اللبنانيّة بمداد تسوياتها وتعرّجاتها أنظومة في التقييم، وقد ارتأت بعض القيادات التشيّث بمبدأ أجوف، لا يحتمل لبنان المبيت فيه والارتكاز عليه، ولا يسوغ، تاليًا، أن يدفع إليه، وهو "النأي بالنفس". من طرح هذه المألفة ضمن إعلان بعبدا، شاءها حجابًا لوصاية أخرى تهيمن بظلّها على لبنان، وكانت الغطاء الحيّ والفعاّل والرسميّ لانسياب الحركات التكفيريّة إلى لبنان عن طريق النازحين، حيث كانت السبب لوهن أصاب لبنان ولارتدادات انفجرت في جوفه خلال تلك المرحلة إلى أن تمّت عمليات التطهير والاستئصال لتلك الدمل، وكانت عمليّة فجر الجرود آخر العمليات البطولية التي أنهت هذا الوهن وأعادت لبنان إلى الحياة، لينتفي معنى هذا النأي بجوهره المسبوك من تلك المرحلة. ما يبدو ظاهريًّا وفعليًّا، بأن التمسّك بمبدأ النأي بالنفس ينطلق من كونه مجرّد حجاب يخفي الكثير من الانسيابات السيّئة التي قد تطال جوهر علاقات لبنان بعناوينها ومواضيعها إذا ما أسقطت في الهوى أو عقد النقص أو الانفعال المؤدّي إلى كلّ اختلال. ذلك أنّ العلاقات لا تنتمي إلى هوى أو هوس بل تجيء من التاريخ وتثبّتها الجغرافيا وتأصّلها المنظومة العائليّة الرابطة بين "الهنا" و"الهناك".
ما يرفضه لبنان، أو ما يفترض أن يرفضه إذا رام الحقّ، الحقّ كلّه، اتجاه العرب إلى تطبيع العلاقة مع إسرائيل بعيد "قمّة وارسو"، حيث باعوا فلسطين إنفاذًا لصفقة القرن التي غدت جوهر تلك القمّة. بالنسبة للبنان، لقد انهمر غيث الرفض لمؤتمر وارسو من خلال عدم مشاركته إلى جانب دولة فلسطين. وقد قرأ العارفون بأنّ ثمة صفقة تمّت ببيع قضيّة النازحين لإسرائيل ضمن مفهوم "العودة الطوعيّة". فإسرائيل وهذا ما ركّز فيه الرئيس السابق إميل لحود، إلى جانب المجتمع الدوليّ، تعمل على استبقاء النازحين السوريين في لبنان ضمن مألفتين متلازمتين: العودة الطوعيّة، والاندماج أو بالأحرى الذوبان في المجتمع اللبنانيّ، بما يتيح استهلاكهم واستعمالهم كورقة ضغط على سوريا في اللحظات التسوويّة المرتبطة بها، وفي لحظة التشاد ما بين رؤية وارسو ورؤية سوتشي أو الأستانة. هذا عينًا قد يعرقل التسوية في سوريا أو يفرملها بفعل الجهود المبذولة من قبل مجموعة وارسو التطبيعيّة إرساء مجموعة شروط قد تحرج روسيا في محور الجولان، فيما هي وبحسب بعض الأوساط الدبلوماسية المراقبة تقف في خطّ وسطيّ ما بين الأستانة وستشي ووجودها في محور الممانعة كحليف استراتيجيّ للرئيس بشار الأسد، وهي في الوقت عينه تقسيم علاقة طيبة مع إسرائيل، وهي اللاعبة الجوهريّة ما بين المشرق والخليج.
من هنا ثمّة إعداد محكم بربط مسألة النازحين السوريين بعملية ترانسفير إسرائيليّة لفلسطينيي القدس والضفّة الغربيّة وغزّة بعد تهويد القدس وإعلان إسرائيل دولة قومية أبديّة لليهود، وتقول بعض المعلومات بأنّ الخطّة تتمّ بانسحاب إسرائيل من الجولان مقابل قبول روسيا بتوطين الفلسطينيين فيه وصولاً إلى ضفة نهر الأردن، كما يتمّ ترحيل فلسطينيي عزّة إذا وجدوا لذلك سبيلا باتجاه سيناء وشرم الشيخ، فيسهل تهويد إسرائيل بالكامل مع اكتمال العناصر المحيطة بهذه الرؤية عينًا. السؤال المطروح في وسط هذا المشهد: هل ترضى روسيا بأطروحة مهذه أو تحسم أمرها برفض انسحابها وإيران من الجولان وتوطين الفلسطينيين فيه ووصله بمنطقة نهر الأردن فيهتزّ العرش الهاشميّ بذلك؟ ومن ناحية الشمال سوريا، هل ترضى روسيا بأن تكون تركيا شريكة في الحسم العسكريّ من إدلب إل حدود نهر الفرات، أو أنها تصرّ بأن تترك الأمر للجيش السوريّ ليقوم هو بالحسم بدعم روسيّ مباشر ومن الحلفاء، وماذا عن مطالب الأتراك بإقامة دولة مستقلّة لهم والدور الأميركيّ في التحريض، هل تقبل روسيا بالمقايضة عل هذا الأمر، أو انها بدورها سترفضه من ضمن الحلّ السوريّ لتعلن بأن سوريا الغد أو ما بعد الحرب ستكون موحّدة وليس مجزّاة أو مقسّمة؟ وغالب الظنّ أنها سترفض تقسيم سوريا من الشمال إلى الجنوب معتبرة بأن التسوية تتكوّن معاييرها وعناوينها وأطرها في سلّة واحدة، إذ هي جسم واحد متكامل الأجزاء متناسق الأطراف.
هذا المشهد بحدّ ذاته يجذب لبنان إلى اكتناه الرؤى المحيطة به وتشخيصها وتشريحها ووضع التوجهات حولها، وفي مجلس الوزراء اكتنه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الرؤى بموقفه الشجاع وقراءته العميقة والاستراتيجية للعلاقة اللبنانية-السوريّة ومسألة النازحين السوريين بعبئهم الديمغرافيّ والماليّ والاقتصاديّ. ذلك أن مقاربة تلك المسألة لم تعد تحتمل الترف، مع محاولة ربطها إسرائيليًّا ومن قبل المجتمع الدوليّ بمرحلة ما بعد وارسو. فالمقاربة إمّا تكون وطنيّة بامتياز، أو أننا نسير على دروب الخيانة السوداء وتخرج في الليل الحالك كما فعل يهوذا الإسخريوطيّ، أو أننا عائدون إلى الاحتراب السياسيّ حولها ممّا يعيد لبنان إلى الانقسام العموديّ وهو مرميّ في وسطه. أهمّ ما في الأمر بأنّ إسرائيل (سجّل أيها التاريخ... على طريقة دولة إيلي الفرزلي)، تريد استبقاء النازحين السوريين كما اللاجئين الفلسطينيين كلغمين قابلين للانفجار وفقًا للتوقيت الغربيّ. لقد طرح المطران العلاّمة جورج خضر سؤالاً جوهريًّا منذ أكثر من ثلاثين سنة: "أنرضى أن يكون لبنان إلى الأبد وطن لجوء ونزوح؟"، أنرضى وكما كتب الراحل الكبير غسان تويني بأن يظلّ لبنان كوطن نزوج ولجوء ساحة حروب من أجل الآخرين؟ Des guerres pour les autres)).
الفلسفة الميثاقيّة التي قام عليها هذا العهد بالذات وبرئاسة الرئيس التاريخيّ والاستثنائيّ والمشرقيّ ميشال عون تأبى بقاء لبنان بتلك الحلّة الرثّة والممزّقة، أي وطن لجوء ونزوح، متلاشيًا أمام العواصف، ويلطم بفساد الفاسدين، الذين يتعاطون مع الكيان اللبنانيّ بتلك الصفة. لقد بدأت المواجهة في مجلس الوزراء بينثلاثة خطوط متوازية لا تلتقيان:-خطّ يقوده فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ويضمّ التيار الوطنيّ الحرّ وحزب الله، ويرفض استبقاء النازحين السوريين في لبنان ضمن منطق الاندماج كما ورد في وثائق الأمم المتحدة أو في أدبيات المجتمع الدوليّ قاطبة، كما يرفض منطق العودة الطوعيّة وربطها بالحلّ السوريّ الشامل. ذلك أن الربط يحوي في متنه تداعيات وارسو وصفقة القرن. بل يؤكّد عل العودة الآمنة من بعد حسم المعركة ميدانيًّا لمصلحة الجيش السوريّ وتطهير سوريا من الأدران التكفيريّة.
-خطّ آخر قوامه القوات اللبنانية والحزب التقدميّ الاشتراكي رافض بالمطلق عودة النازحين إلى سوريا، وانتظار الحلّ السياسيّ الكامل في سوريا للاطمئنان على عودة هؤلاء وكما يزعم الحزبان سالمين، وينطلق هذا الخطّ بمفهوم العودة الطوعيّة إلى حين نضوج الحلّ السياسيّ في سوريا وضمن شروط المجتمع الدوليّ.
-خطّ أخير يرفض الحوار مع سوريا بسبب أنها لا تزال خارج جامعة الدول العربيّة، فطكيف يفسّر الرافضون الحوار وجود سوريا في منظمة الأمم المتحدة في نيويورك برئاسة السفير الدكتور بشّار الجعفريّ؟
لقد حسم رئيس الجمهورية العماد عون النقاش على طاولة مجلس الوزراء بانتفاضته العميقة والصريحة والجريئة، إذ قال تجسيدًا للمادتين 49 و50 من الدستور: "أنا من يقرّر المصلحة العليا للبلاد، وأنا من أقسم على الدستور بالحفاظ على مصلحة البلاد العليا"، وختم الرئيس الجلسة. يشي هذا الحسم أي حسم العناوين الدقيقة، بأن الرئيس قد عبّد الطريق لمصلحة لبنان، ولمصلحة العلاقة النديّة والمتوازنة بين لبنان وسوريا، إنطلاقًا من حلّ مسألة عودة النازحين إلى سوريا وفقًا لمفهوم العودة الآمنة. كما أن زيارة الوزير صالح الغريب قد تأيّدت بهذا الحسم. يدلّ كلّ ذلك إلى أن مفاعيل مؤتمر وارسو لن تجد لها مكانًا في لبنان، والنأي بالنفس لن يكون بإقامة علاقات دوليّة وعربيّة على حساب الخصوصية اللبنانية وتلاقيها بالخصوصية السورية، أو تكون بإقامة علاقة لبنانيّة-سوريّة على حساب علاقات لبنان الدوليّة والعربيّة الأخرى.
الرئيس ميشال عون أعادنا إلى الحقّ، وهو سينطلق في مسيرة الحفاظ على لبنان بتكوينه الداخليّ المتوازن وعلاقاته الخارجيّة وفقًا لمصلحة لبنان العليا شاء من شاء وأبى من أبى. وشكرًا لله على وجود رئيس مميّز وتاريخيّ قدير سيقود لبنان إلى التجليّات المضيئة المشرقة.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على