مظفر النّواب تأملات وذكريات ٥

حوالي ٥ سنوات فى المدى

د .حسين الهنداوي
على قمة جبل "شاخ ره ش"بعد 1970، رحنا نتهامس سرّا بما يصلنا من أخبار أحداث فعلية أو متخيلة عن انشطة ثورية لمظفر النواب في أريتيريا أو السودان أو ظفار أو مع ثوار فلسطين قبل أن تتحقق في نهاية 1973 لقاءاتنا الفعلية الأولى معه التي امتدت لأسابيع طويلة وتخللتها أمسيات شعرية شبه يومية وغالباً على ضوء الفانوس وعلى مرمى عصا من قمة واحد من أعلى جبال العراق (شاخ ره ش) حيث أمضينا معاً، برفقة رفاق آخرين، أسابيع عديدة في قرية صقيعية نائية وكريمة في أعالي جبال كردستان العراق كانت تؤوي بحنو بالغ العفوية العشرات من المناضلين الثوريين الفالتين من مخالب الذئب البعثي حيث تعرض أعضاء الحزب في بغداد وجنوبي العراق خاصة الى حملة تصفيات دموية من قبل السلطة البعثية إثر نجاح انقلابها الثاني في 17 تموز 1968. كان مظفر قادماً للمشاركة في اجتماع سمي بـ"الكونفرانس الثالث" لما تبقى من كوادر جناح القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي بهدف تطوير العمل الحزبي والسياسي لذلك الحزب الثوري الذي تعرض الى قمع شرس من قبل السلطة البعثية أدى الى القضاء على نفوذه الجماهيري الواسع. وخلال وجوده وجولاته معنا في القرى الكردستانية العالية السخاء والجمال والبراءة سمعنا من مظفر النواب الكثير من قصائده المعروفة وغير المعروفة وحتى غير المكتملة وأمضينا أمسيات ثقافية عديدة كان آخرها بمناسبة رأس السنة الميلادية الجديدة 1973 آنئذ بحضور عدد من أبناء المنطقة ورفاق اجتازوا الجبال والثلوج وحتى الأخطار قادمين من شتى المناطق لرؤية الشاعر الكبير كما قدمت والدته واحدى شقيقاته من بغداد للقاء به بعد سنوات من الغياب الإجباري والحرمان.وفي كردستان التي أحب شعبها بكل جوارحه وامتدح بطولاته وتضحياته، رحنا نتولى حراسة رفاقنا من هجمات قمعية بعثية غادرة ممتشقين اسلحتنا النارية الخفيفة في قرى "جوزان" و"ناوجليكان" و"كاني اسبندار" و"دار السلام" وكلها على أطراف قضاء كلالة، أو نتنقل بين الجبال المطلة على تلك القرى لقطف الريواز أو الخرشوب أو البلوط أو الجوز وحتى التوت متسلقين اشجاره الباسقة، او لصيد الاسماك في النهيرات الجبلية (الروبار)، ولتحطيب الأشجار وجمع أخشابها لأستعمالها حطباً لمواقد التدفئة أو لصنع أرغفة الخبز واعداد الطعام على مواقدنا البدائية. خلال تلك الجولات والصولات ولا سيما في إعداد الخبز والطعام والأماسي الثقافية، بدا مظفر ممتلكا لمهارات موروثة من فترات السجون وتجارب الحياة مع أبطال الكفاح المسلح في الأهوار. لكننا تعلمنا منه بشكل خاص حب موسيقى فيردي وبيتهوفن الكلاسيكية التي كنا نجهلها، كما غنينا معه بحميمية فطرية أناشيد وطنية من تأليفه ولم تكن قد نشرت من قبل من بينها نشيد للحزب على أنغام من اوبرا "عايدة" من ابداع الموسيقار الايطالي الكبير جوزيبي فيردي مطلعه:"خض بنا.. كوكب.. شمس.. سور شعبنا.. راياتنا موكب العلا.. في ذرى السنا..شعبنا.. شعبنا.. سور شعبناونشيد آخر على لحن لموزارت مطلعه: كان يطبق السكوتُ.. كان يفزع القلوبكان جحفل يروحُ.. كان جحفل يؤوببالدماء والدموع والتحدي اكتوبرايها الجلاد اجلد لسنا نرهب المنونالملايين ستنشد والرفاق قادمون.."..
بيد إن الرفاق فشلوا في القدوم هذه المرة.. ليس فقط لأن الحزب الشيوعي العراقي القيادة المركزية الشهير بشعبيته الواسعة ومواقفه الثورية والبطولية في العراق والمنطقة غدا ضائعاً في نقطة مجهولة على جبل في أقصى البلاد بل أيضا لأنه لم يعد سوى مجموعات مشتتة فكرياً وتنظيمياً بسبب شراسة البطش البعثي عبر سلسلة إعدامات بكوادر الحزب أدت الى تصفية قيادته العمالية المدينية لتقتصر على دكتاتور صغير مهووس بنرجسيته الجوفاء ومغرم باستخدام أسوأ تقاليد تكميم الافواه ما أدى الى خسران كل عناصر الحزب الجيدة التي نجت من مخالب جلادي قصر النهاية والماكنة القمعية البعثية.وبصمت وحذر سيغادر مظفر كردستان محبطاً أشد الاحباط بعد اكتشافه، واكتشافنا، أن اهدافا تسلطية تقف وراء انعقاد وطريقة تنظيم ذلك الاجتماع الحزبي البائس، ولتغدو المرارة الساخرة زادنا المشترك في تلك الفترة التي انتهت بابتعاد مظفر النواب عملياً عن كل أشكال العمل الحزبي نهائياً دون إعلان ذلك وفاء لتاريخه النضالي الطويل مع حزب الطبقة العاملة العراقية الذي خذلته قيادته الانتهازية بشقيها اليميني الخانع لقيادة الحزب الفاشي الحاكم في جبهة هزيلة، واليساري الطفولي المتطرّف المراهن على بيع الأوهام والجمل الثورية والمنتهي الى المضاربة التجارية الرأسمالية الرخيصة. بيد أن معرفتي المباشرة بعوالم مظفر النواب لم تكف التواصل والتراكم والتعمق بعد 1973 عبر لقاءات متتابعة في بيروت وباريس وبواتيه وبرلين ولندن وقبلها جميعا في مقهى الهافانا بدمشق المدينة التي عاش كريماً بين بسطاء شعبها ومثقفيها ومنحها محبة راسخة.ففي نهاية عام 1974 التقيته مرارا في دمشق التي كنت قد وصلت اليها للمرة الاولى بعد أن اجتزت الحدود العراقية السورية ليلا قادما من جبال زاخو في كردستان العراق بفضل مسيرة استمرت نحو اسبوعين دون انقطاع مشياً على الاقدام غالباً وفي ظروف قاسية وخطرة للغاية في عدد من محطاتها، قطعت خلالها بمساعدة ورفقة مسافرين آخرين كل خارطة العراق عرضاً انطلاقاً من بلدة كلالة قرب الحدود الايرانية - العراقية حتى الحدود العراقية - السورية وهو نفس الطريق الذي كان مظفر النواب قد اجتازه ذهاباً واياباً عند قدومه الى كردستان العراق قبل نحو عام من ذلك. كانت بعض تلك اللقاءات تتم بحضور أصدقاء وأدباء وفنانين سوريين بينهم مناضلون يساريون شباب مغمورين بحماس ثوري مفعم بالبراءة والرومانتيكية. وقد تلمست مكانة خاصة لمظفر النواب لديهم لا سيما بعد أمسية شعرية كان قد أحياها في مدرّج جامعة دمشق سنة 1974، ألهب بها حماس جيل من اليساريين السوريين والعرب بفعل قصائده وإلقائه المسرحي الفاتن كما كتب وائل السوّاح، وهو أحد أصدقائه السوريين في تلك الفترة مؤكداً إن مظفر: "عرّفني أيضاً على الثورة بمعناها الحقيقي. كان يروي لنا تجربته في العراق واعتقاله وتعذيبه ثم هروبه الأسطوري من السجن، فنفغر أفواهنا، في رهبة وإعجاب وتأمل.. وعرفني مظفر على تجربة الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية، الذي انشقّ عن التيار الرئيسي (الانتهازي للحزب) وقاد ثورة في أهوار العراق انتهت بمذبحة كبيرة واعتقال قائد الحزب عزيز الحاج وانهياره التاريخي".في مطلع 1977 جاء مظفر النواب الى فرنسا التي كنت قد سبقته اليها بنحو عام ونصف، وبعد بضعة أيام أمضاها في مدينة بواتيه غرب فرنسا حيث امتلك شعبية كبيرة في تلك المدينة الجامعية الفرنسية بين الطلبة اليساريين العراقيين المعارضين للنظام البعثي، وحيث أمضينا معه أمسيات شعرية وغنائية خاصة، كما رافقته في الأسبوع الأول من شهر شباط 1977 في رحلة الى باريس حيث أحيا أمسية شعرية بحضور عربي واسع جداً لكنها تعرضت الى هجوم تخريبي شرس من قبل جلاوزة النظام البعثي في العاصمة الفرنسية وبينهم مرتزقة تونسيين وفلسطينيين لتزامنها الطارئ مع اندلاع تظاهرات شعبية كبيرة في مدينة النجف الاشرف انطلقت نحو مرقد الأمام الحسين في كربلاء، الا انها قمعت بوحشية عند وصولها الى بلدة خان النص الواقعة بين المدينتين. ومن جديد التقيته مراراً في دمشق في لقاءات وأمسيات خاصة لا ينسى عبقها الثقافي والأخوي أبداً وأحياناً برفقة أدباء وأصدقاء لا سيما الاستاذ شفيق الياسري والشاعر الراحل جمعة الحلفي، كما قام بعدة زيارات للسلام على والدتي حينما جاءت لزيارة دمشق في 1993 وكان يستمتع خلالها بأحاديثها البسيطة مستذكراً أحاديث السيدة والدته. بعد عام 1991، قدمته للجمهور في عدد من الأمسيات الشعرية والثقافية أحياها في ديوان الكوفة في لندن وفي "غاليري ارك" فضلاً عن حوارات طويلة في برلين وباريس وكان آخر لقاءاتنا في أوروبا خلال التظاهرة الفنية الكبرى التي أحياها مظفر النواب شعراً وغناء مع سعدي الحديثي منتصف عام 1995 وذلك في "لوغان هول" بلندن بمبادرة من النادي العربي في بريطانيا، وحضرها عدد كبير من المهتمين العرب وأصدقائهم في المملكة المتحدة وعلى رأسهم الشاعر الكبير بلند الحيدري تسبقه قصيدته الشهيرة: "يا مظفر..حيث ما كنت ستبقى.. نبع ماء يتفجروسيبقى الغصن رغم الريح والصحراءأخضر …
أما لقائي الأخير فعلاً مع مظفر النواب فقد كان خلال عودته الى العراق في ربيع 2011 كاسراً منفاه في زيارة خاطفة رفض القيام بها إلا بعد ثماني سنوات من انهيار الطغيان البعثي من جهة وإلا بعد رحيل الغزاة الاميركيين عنه من جهة أخرى، ولم يعد الا عودة رمزية، والى شعبه مباشرة، ساخراً من اولئك، بقايا النظام الدكتاتوري البعثي وأيتامه خاصة، الذين دعوا الناس الى رفض الانتخابات حتى قبل اجرائها للمرة الأولى، والى حمل سلاح مقاومة لم يحملوه هم ضد الاجنبي في حياتهم أبداً. ولكم كانت فرحتي بلا حدود وفوضوية وأنا أعانق مظفر النواب آنئذ وعلى أرض بغداد، هذه المرة، في تلك الزيارة الخاطفة لمسقط رأسه وربما الأخيرة والتي تشبه الصلاة الى وطن أحلى ما فيه حبنا له بينما هو موغل في ابتكار كل أنواع القسوة والضياع من جديد ومرة تلو أخرى. ومثل دفء جريحٍ هو نفسه، يظل شعر مظفر النواب، لا سيما الوجداني منه، يستفزّ بحضوره العبق كالسلسبيل ذات الحيرة الأولى وربما الأبدية في قلوبنا المرهفة البريئة لكن المتيمة بإمتياز.

ذكر فى هذا الخبر
شارك الخبر على