الإسلام في عالم ليف تولستوي

أكثر من ٥ سنوات فى المدى

د. فالح الحمراني
يحترم الأديب والمفكر والداعية الإنساني ليف تولستوي جميع الأديان السماوية وغير السماوية، ودافع عن معتنقيها حينما تعرضوا للاضطهاد، وكتب عن معظمها ودعا إلى الأخذ بشرائعها الأساسية لكونها متقاربة، والتعرف على كتبها المقدسة، ضمن هذا السياق أولى الدين الإسلامي أهمية مميزة. الدين لدى تولستوي منزع أخلاقي قبل كل شيء، ودعا إلى أن يعبد الإنسان ربه من دون وسيط سواء مؤسسة أرضية تعتاش على المؤمنين أو شخص مميز، لذلك اعتبرته الكنيسة مرتداً وفصلته عن إطارها. وكتب تولستوي الكثير عن إعجابه بشخصية النبي محمد ورسالته، وفهم المفكر الكبير الإسلام على انه دين التسامح والسلام ونبذ العنف والدعوة للأخوة بين البشر والمساواة بين الأمم وعمل المعروف ونجدة الضعيف وحب الإنسان للإنسان ولاحترامه لأبناء الأديان السماوية الأخرى... . وقد تجلى ذلك في الإشارات التي وضعها بخطها على الآيات التي نالت اهتمامه في القرآن الكريم، الذي قرأه بترجمته الفرنسية، وهناك حوالي 22 إشارة. وكل هذه الآيات تدعم فلسفته المناهضة للعنف ورؤيته للعالم. وانعكست في الكتيب الذي ترجمه عن الإنجليزية لتقريب تعاليم الإسلام لأبناء وطنه وسماه "أقوال محمد المأثورة..." والتي ترجمت من قبل سليم قبعين للعربية بعنوان " حكم النبي محمد" سليم قبعين. وترى الباحثة المصرية د.مكارم الغمري إن اهتمام تولستوي يتركز على دعوة الإسلام للعدالة التي كانت مطلباً ملحاً في عصره وعلى المحبة والتكافل الاجتماعي ودعوة الإسلام إلى التآزر ومساعدة المحتاج فضلا عن التسامح واحترام المرأة. وتجلى تقدير تولستوي للإسلام وتعاليمه في الكثير من أعماله الفكرية والفلسفية ورسائله، ويقول تولستوي في فصل من كتابه الذي جاء بعنوان (من كان محمد): من أراد أن يتحقق مما عليه الدين الإسلامي من تسامح فليس له سوى أن يطالع القرآن الكريم بإمعان وتدبر. فقد جاء في آياته ما يدل على روح الدين الإسلامي السامية ومنها “(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)..ويقول أيضاً: “لقد تحمل في سنوات دعوته الأولى كثيراً من اضطهاد أصحاب الديانة الوثنية القديمة وغيرها شأنه شأن كل نبي قبله نادى أمته بالدعوة إلى الحق. ولكن هذه المحن لم تثن عزمه بل ثابر على دعوة أمته مع أن محمداً لم يقل إنه نبي الله الوحيد بل آمن أيضاً بنبوة موسى والمسيح ودعا قومه إلى هذا الاعتقاد أيضاً، وقال إن اليهود والنصارى لا ينبغي أن يُكرهوا على ترك دينهم بل يجب عليهم أن يتبعوا وصايا أنبيائهملقد تعرف الأديب والمفكر الكبير تولستوي على الإسلام ومعتنقيه من سكان روسيا في زمن مبكر من حياته، وتواصل معهم أكثر من أي احد من الأدباء الكلاسيكيين الروس. فقد انتقلت أسرته، وكان له من العمر 13 عاماً، إلى مدينة قازان عاصمة جمهورية تترستان حالياً، حيث كان جده إليا اندرييفيتش حاكماً هناك من 1815 إلى 1820 ، وبالمناسبة ما زال قبره قائما في مقبرة كيزيتشيسكي. والتحق تولستوي في عم 1844 في جامعة قازان بقسم اللغات الشرقية في كلية الفلسفة ( وبعدها انتقل الى كلية الحقوق حيث درس حوالي عامين). وخلال تلك الإثناء، ولو لفترة غير طويلة، تلقى دروساً في العربية على يد العالم الكبير ميرزا كاظمبيك ( 1820 ـ 1970) ـ أحد مؤسسي الاستشراق الروسي.اقنعه اخوه الأكبر نيقولاي في عام 1851 بالسفر معه إلى القوقاز، حيث أمضي حوالي ثلاثة أعوام في بلدة قوقازية تقع على شاطئ نهر تيريك، وسنحت له الفرصة للقيام بجولات في مدن كيزلار وتبليسي وفلادي قفقاز، فضلاً عن أنه شارك في العمليات العسكرية ( في البداية كمتطوع ومن بعدها في الخدمة العسكرية). وتجسم أعماله، التي نتلمس فيها جوانب من سيرته، مثل “القوقاز” ومجموعة قصصه ” الغارة” و” يـد الغابة” علاوة على عمله الأخير “حجي ـ مراد” ، جلال الطبيعة ومعرفة نمط عيش الطرفيين المتحاربين، وكذلك فهمه لطبيعة وخصائص الشخصية المحلية، التي تكونت بتأثير التعاليم الإسلامية. وسجل تولستوي في دفتر مذكراته إنه تعلق بهذا “المكان الموحش، ومن الغرابة والشاعرية تتوحد أكثر الأشياء تناقضاً : الحرب والحرية”. واحتفظ طيلة حياته بذكريات دافئة عن أصدقائه (الكوناك بلغة القفقاز) المسلمين من القوقاز. وعلق بخاطره حادث خسرانه في لعبة القمار كل ماله فبات مهدداً بان يكون مديوناً طيلة حياته، بيد أن سادو ميسيربيف الشيشاني هب لإنقاذه، وسدد عنه كل ما خسره. وحمل ذلك طيلة حياته الى جانب الانطباعات التي تركتها تعاليم الطريقة الصوفية التي كان الشيخ كونات ـ حجي كيشييفتش من دعاتها، حيث كان يحث على الوفاق ونبذ العنف.وكتب تولستوي ” قصص سيفاستوبل ” الشهيرة خلال حرب القرم، حيث كان قائداً لبطارية مدفعية تدافع عن سيفاستوبل المحاصرة، وأبدى، بشهادة معاصريه، شجاعة نادرة استحق عليها نيل وسام ” آنا ” وميداليات. ولم يتعرف تولستوي في القرم على البسالة ومأساوية الحرب وإنما أيضا على تتار القرم المسلمين سكان القرم الأصليين. هذا علاوة على إن الأفكار الهامة التي ظهرت في تلك السنوات تتيح لنا القول إن الضابط الشاب احتفظ بحيويته في شخصية تولستوي ـ الداعية فيما بعد : كان يحلم ” بالتبشير بدين جديد” خالٍ من التعقيدات الكهنوتية والغموض، وكان يرى ذلك في الدين الإسلامي، حتى أنه قال ذات مرة: اعتبروني من أبناء دين محمد (الإسلام).وفي وقت متأخر تبادل الرسائل مع مفتى مصر الشيخ محمد عبده، ووجدت هاتان الشخيصتان البارزتان لغة مشتركة وقواسم مشتركة في تفكيرهما. كما تبادل تولستوي الرسائل مع الكثير من الشخصيات المتحدرة من أصل تتري سواء من معتنقي الإسلام الأصولي أو من دعاة الإصلاح. وفي واقع الحال كانت لدى تولستوي، الذي لم يتلق تعليما إسلاميا ولم يكن عالماً بالإسلاميات، معارف وتجربة معايشة استثنائية بالنسبة لرجل من النخبة الروسية لذلك العصر الذي ساد فيه فكر الحضارة الأوروبية وتقاليدها وميولها وأهمية محاكاتها.لقد عرف تولستوي وفهم الكثير عن الإسلام، وعرف الكثير من المؤمنين بالإسلام من مختلف القوميات وربطته بهم علاقات ودية وتبادل للرسائل معهم وتركت أعماله لنا صوراً أدبية ذات مستوى فني رفيع للمسلمين وخاصة من سكان القفقاز. وهي كأية صورة فنية رفيعة قد تثير الجدل ولكنها عميقة وتجسم فكرة الإسلام. ودرس تولستوي القرآن الكريم بعمق وتوجد في متحفه الواقع في ضيعته / المتحف ياسنايا بوليانا النسخة التي طالعها من القرآن الكريم باللغة الفرنسية. وقد وضع عشرات الهوامش عليها، مما يدل على انه طالعه باهتمام وعمق. ورغم أن اتباعه الذين يطلق عليهم اسم ” التولستيين” قريبون من الإسلام بتعاليمهم ونمط حياتهم، إلا انهم بقوا في اطار المسيحية.

شارك الخبر على